(٣) قرارات لا تنتهي
هب الجيران فزعين يشقون طريقهم وسط المطر إلى ذلك المنزل الصغير، قرعوا الباب مرارا ولكن لا فائدة، اضطروا لكسر الباب ثم دخلوا، وما إن وصلوا إلى الغرفة التي يجلس فيها الصغيرين حتى شاهدوا الأكبر يجلس بجانب السرير، والآخر ممددا عليه، وشمعة صغيرة تكاد تنتهي تضيء لهما الظلام، لا تسل عن الكهرباء، فمنذ مدة طويلة لم يعرفوها، تقدم أحد الجيران ووضع يده برفق على كتف الصغير الجالس وسأله:
_ما الأمر يا سامي؟ لقد سمعنا صراخك قبل قليل، قل يا بني ما الأمر؟
كان سامي حينها أشبه بدمية خشبية، لا يدل على حياته _ربما_ إلا تنفسه، مصدوما ومحبطا بشدة، عيناه جاحظتين، وشفتيه مطبقتان على بعضهما بشدة، وعقله في وادٍ آخر، يفكر ويفكر ولا يظهر له شيء سوى رؤية الجميع شركاء في معاناته
حينما طال صمته اقترب أحد الجيران من شقيقه الصغير وتلمس جبينه، لاح له باردا فالتفت إلى البقية ليخبرهم باستنتاجه وإذ به يفاجأ بهجوم سامي عليه يبعده عن شقيقه وهو يصرخ بغضب هادر:
_لا تلمسه أيها الحقير!
تفاجأ الجميع من ردة فعله وكلامه غير المألوف، تساءلوا ماذا أصابه، حينها تكلم الشخص الذي وضع يده على جبين سعيد قائلا:
_للأسف يبدو أن سعيد قد فارق الحياة!
زادت كلماته من حنق سامي الذي رأى أن في سكوتهم على ما كان شقيقه الأكبر يفعل بهم - اشتراك في موت شقيقه سعيد، نظر إلى الرجل الذي تكلم بعينين يتطاير منهما الشرر لشدة الحقد الذي تأجج في قلبه، تكلم إليه ذلك الرجل وقد شعر بالخوف من نظراته تلك محاولا تغيير مسار الحديث:
_أين شقيقك حميد؟
ما إن ذكر اسم أخيه أمامه حتى ثارت ثوائره، نهض من مكانه والتفت نحوهم يصرخ في وجوههم:
_لو كنت أعلم مكانه لما رأيتموني هنا وسعيد ميتا بجانبي، ليس كما لو أن ذلك الوغد كان رحيما وسيحاول إنقاذه مهما كلفه الأمر، بل لأنني كنت سأعطيه أي مقابل مهما كان، حتى لو كان أحد أعضائي الداخلية
أفزعتهم كلماته لكنهم حاولوا التظاهر بالقوة، فتخوفهم ممَّا شكوا بأن حميد يفعله هو أكثر ما جعلهم يسكتون عن أفعاله الدنيئة، هتف أحدهم بكلام ظنه الأصوب لتهدئة الوضع:
_في الوقت الراهن ليس لنا إلا أن نبحث عنه ونطلب منه أن يحضر إلى هنا، يجب عليه أن يبدأ التجهيز لأجل دفن أخيه
ما إن فكر سامي بما قاله ذلك الرجل وتذكر قسوة حميد ونسج توقعا لما سيحمله إياه من الغد - حتى أثقل ذلك عليه وضيق صدره، فاندفع نحو الباب هاربا، تاركا جثة سعيد على السرير، وراكضا وسط المطر بملابس ممزقة لن يرحمها البرد أبدا
**********
مرت ثلاثة أيام على تلك الحادثة، وعلى أحد الشوارع أطل سامي من نافذة أحد المنازل الصغيرة والتي يمكن لأي شخص أن يدرك من النظر إليها أن أصحابها فقراء، داعبت نسمات الصباح وجهه الذي لبس ثوب الشحوب، كان التعب بادٍ في قسمات وجهه، عيناه ذابلتان تحيطهما هالات سوداء لا توحي أبدا بأنه ابن ثلاثة عشر ربيعا، كان شاردا في تفكيره، لم يمضِ كثير من الوقت حتى همس لنفسه:
_آسف يا سعيد! أنا آسف حقا! لم أقصد تركك وحدك مع ذلك الوغد، آسف لأني تركتك في آخر لحظاتك على ظهر الأرض، لكن لا تلمني أرجوك فثقل رحيلك أفقدني صوابي
لاح على ثغره طيف ابتسامة باهتة كما لو أنه يشاهد ذلك الصغير وهو يبتسم له ويقول أنه قد عذره، فُتح بعدها باب الغرفة التي يجلس فيها بقوة فقفز من النافذة إلى الأسفل بفزع، وما إن شاهد الداخل عليه حتى تنفس بعمق وعاتبه قائلا:
_أفزعتني يا أحمد، لمَ دخلت فجأة هكذا وأنت تعلم أنني أترقب في أي لحظة متى يمسك بي ذلك الوغد؟
صرخ أحمد غاضبا هو الآخر:
_تترقب متى يمسك بك ثم تطلُّ بكل أريحية من النافذة، أخبرني الآن من الذي يملك الحق في أن يغضب؟
تنبه سامي إلى ما فعل فلاذ بالصمت وقد ساوره القلق من فعلته، تقدم أحمد نحوه وأكمل:
_تعلم ما قد يفعله بنا حميد إن اكتشف أننا كذبنا عليه أنك لست هنا، لا شك أنه قد وضع من يراقب المكان حتى يصطادوك في أقرب فرصة تلوح لهم
أطرق سامي برأسه طويلا، ثم رفعه بعد مدة وعيناه تتلألأ ثقة وتحدث بنبرة متحمسة:
_لا بأس سأغادر من هنا الآن، لا تقلق يا أحمد أعلم أين يكون مكاني، وأعلم أين هو طريقي
توجس أحمد من تلك النظرات ثم تكلم بخوف:
_لا تقل لي أنك أصبحت تفكر بنفس الطريقة التي فكر بها صالح من قبل؟
_بل هو كذلك!
_مستحيل! لمَ تفكرون بنفس الطريقة؟ هنالك ألف طريقة للعيش، ألا يمكنكم التفكير بواحدة منها؟
_أحمد اسمعني جيدا، لقد كنت مثلك لم أفهم لمَ اختار صالح تلك الطريقة للعيش على أن يختار طريقة أخرى كما قلت، الآن فقط فهمته، ذلك لأنه يا صديقي: تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا العيش بها، الطريق الوحيدة التي تتقبلنا بين ثناياها
كل كلمة مزجت بالألم وهي تخرج من بين شفاه سامي، لكن ذلك لم يمنع أحمد من أن يرد عليه على الرغم من تهدج صوته:
_لكن تلك ليست طريقة للعيش، بل هي طريقة للموت، الموت فقط هو ما ينتظر كل من حمل السلاح وسار في طريق المحاربين، أنتم حتى لا تفكرون لمَ تقاتلون، ستنضمون لأي شخص يمكنه أن يقبلكم بين صفوفه، على الأقل موتوا لأجل مبدأ عظيم
_أنا لم أعش لأجل مبدأ عظيم حتى أموت لأجل مبدأ عظيم، لقد عشت حياة هملا بلا أي معنى، لكن على الأقل يمكنني أن أموت كما أريد
نطق كلماته تلك ثم طوق أحمد بذراعيه يودعه وداعا لا لقاء بعده، حين أيقن أحمد أنه لن يستطيع فعل شيء بكى من أعماقه، بكى ألما وحسرة، بكى عجزا وخوفا، لم يبكي سامي وحده، بل بكى أصدقاء كثرا وبكى وطنا بأكمله، وليت دموعه تلك كانت كافية لتثني سامي عن قراره، بل زاد إصرارا على رأيه، وختم وداعه له بتلويحة من يده أتبعها بالقول:
_سأذهب! وحتى أعفر وجهي بالتراب الذي سيشرب من دمي سأكون حريصا أن أفعل ما أريد، أن أفعل ما أرغب به، أن أفعل ما أنا مقتنع به. لي سعيد أذهب لألتقي به، ولكم أمثال سعيد فلتساعدوهم إن استطعتم
وهنا انتهت القصة التي لم تنتهي في الحقيقة، وهنا تبقى ذات الأسئلة تتكرر: من قتل كرامة أطفال لم يخبروا الحياة بعد؟ من وأد طفولتهم البريئة؟ من حطم أحلامهم ؟ أي واقع قاسٍ يعيشون تحت وطأته؟ لمَ لا يقف أحد في صفهم؟ لمَ لا يجدون من يكون صوتا لهم؟ أإلى هذه الدرجة ضاعت الرحمة من القلوب واختفت الشجاعة فلا يجدون لهم من البشر من نصير؟
النهـــــاية
تاريخ الكتابة: الخميس
2019/2/14
03:40 ص
¶__________¶
ها أنا ذا أكمل كتابة القصة التي رغبت منذ فترة بكتابتها، حقيقة لا أعلم ماذا أقول!
أنا حزينة! حزينة لأجل هؤلاء الأطفال، ولذا جعلت هي القصة من النوع الذي ينتهي بنهاية ليست سعيدة، ما عساي أن أفعل إن كان هذا هو الواقع؟! كما أني أكره أن أزخرف الواقع البائس بكلمات لن تفعل شيئا لأولئك الذين يعيشون تحت القهر والألم
آمل أن تكون حنجرة توصل أصوات أطفال حرموا حقوق العيش كبشر أولا، وكأطفال ثانيا
وإني أعتذر لكم من أعماقي أيتها البراعم الصغيرة فهذا هو كل ما أمكنني أن أقدمه لكم
في الختام أقول لكم أيها القراء:
كونوا صوتا لهم على الأقل، أرجوكم!
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top