(٢) المستحيل واقع!
بعد عودة تلك العائلة إلى المنزل وبعد أن أتيحت فرصة للكلام عمَّا حدث في المبنى الحكومي، أرادت تلك الفتاة _والتي تدعى إيمان_ أن تسأل شقيقاتها عن الحوار الذي دار بينهن وبين ذلك الصبي، فابتدأت كلامها قائلة:
_أود أن أعرف ما دار بينكن وبين ذلك الصبي، كان منظره وهو يتحدث يثير الفضول حقا
نظرت إليها شقيقتها التي تصغرها قائلة:
_لقد كان يحدثنا عن ذلك الصبي صاحب العين الضريرة، لقد تفاجأنا حقا، كل ما استطعت فعله هو تبادل النظرات مع ريم
قالت كلماتها الأخيرة بينما هي تنظر لشقيقتهن الكبرى ريم، علقت ريم قائلة:
_ما قالته عبير صحيح، لا زلت حتى اللحظة مندهشة، بل دعيني أصدقك القول: أنني لم أصدق ما قاله حتى الآن، أو ربما عقلي يأبى التصديق
زاد فضول إيمان ضعفا إلى ضعف وهتفت بهما بانفعال:
_ماذا ماذا؟ ماذا قال؟ أود معرفة ذلك!
أخفضت ريم رأسها وتحدثت بنبرة منكسرة:
_قال أن ذلك الصبي ذو العين الضريرة هو قريب له، وكذلك هو شقيق ذلك الصبي الآخر الذي يبيع البالونات، وقال أيضا أن لديهما شقيق أكبر منهما، وأنه يطلب منهما أن يوفرا له المال وإلا عاقبهما عقابا شديدا
_يا إلهي! هل أنا في واقع؟!
هتفت إيمان بصدمة، لم تكن تتوقع أن يتواجد شخص قاسِ القلب كالذي شاهدته في الرسوم المتحركة التي تحاكي واقع أوروبا قديما، فكيف بأن يكون ذلك الشخص قريبا للأطفال! ذاك ما زاد من صدمتها، يفترض بهذا الأخ الأكبر أن يقوم برعاية أخويه الصغيرين لا أن يجعلهما مصدرا يدر عليه المال وإن بطريقة قذرة
فاقت من صدمتها على صوت عبير التي أكملت قائلة:
_لقد قال أيضا أن ذلك الضرر الذي في عين الصغير قد سببه ذلك الشقيق الأكبر، الأمر صادم حقا، حتى أنني إلى الآن لم أستطع تصديقه
فكرت إيمان طويلا في كلام عبير ثم فهمت قصدها، لطالما كانت تشاركها الكثير من الأفكار كأنما لديهما مصدر واحد للتفكير، علقت بعدها قائلة:
_تقصدين أنه ربما كذب لكي يُظهر ذلك الصبي بمظهر الكاذب؛ بما أنه لم يخبرنا بالسبب الحقيقي للضرر الذي في عينه، لكيلا يحصل ذلك الصبي المتضرر على مساعدة منا، وإن كان ثمة من شيء نرغب بإعطائه لهم فلنعطيه له هو وحده، أليس كذلك؟
هزت عبير رأسها موافقة ولم تتكلم، ليحلق بعدها الصمت في المكان، بعد أن أخذ التفكير العقول إلى مكان آخر
وهكذا مرت الأيام والسنوات ولم تعلم تلك العائلة إذا ما كانت تلك القصة صحيحة أم لا، فحتى لو كانت صحيحة أنى لهم أن يفعلوا شيئا
**********
من ناحية أخرى كانت هنالك الكثير من القصص المأساوية تنسج بين جدران بيوت وأزقة أخرى، وكان ذلك الصبي وشقيقه الأكبر يعيشان تحت رحمة شقيقهما الأكبر منهما، بل إن صح التعبير يعيشان تحت قسوته، لا يرضى بالقليل، ولا يشبعه الكثير، يصرخ عليهما باستمرار، ويحرمهما كثيرا من أبسط حقوقهما، كالطعام والشراب
في ليلة من إحدى ليال شتاء العاصمة القارس وفي ذلك البيت الصغير احتوت إحدى زوايا غُرفهِ ذلك الصغير ذو العين الضريرة، قد فتكت به الحمى واستفحل المرض في جسده، كانت ليلة ماطرة أضافت للجو برودة فوق برودته، ما جعل اللحاف البالي يعجز أن يمنح ذلك الجسد الصغير الدفئ، نبست شفاهه الجافة بخفوت:
_أمي!
مزقت تلك الكلمة قلب شقيقه الأكبر منه والجالس بجانبه عاجزا عن فعل أي شيء له، أما ذلك الطاغية فقد كان يبيت في مكان آخر، يوفر لنفسه الطعام اللذيذ والملبس والمسكن الدافئ، لا يشعر بما اختزن من ألم في جسد شقيقيه الصغيرين، أخرج الصغير يده من تحت اللحاف وراح يلوح بها أمامه وهو يكرر:
_أمي! أمي!
أمسك شقيقه تلك اليد الصغيرة وضمها بين يديه، انهالت دموعه كالمطر، لم يقدر على فتح فمه كالعادة وإعطاء أخيه جرعة من أمل كما كان يفعل دائما، ذكرى والدته شيء كلما ما مر به يجعله يتمنى لو أنه رحل معها، فالحياة كانت تطاق فقط برفقتها، كانت تدافع عنهم من ذلك الأخ الطاغي، لم يكن سندا لعائلته بعد وفاة والده، بل كان يزيد معاناتهم معاناة، ولكم كان موت والدته مساعدا له، إذ أصبح التحكم بذنك الصغيرين سهلا، لقد كان ينظر إليهما كمصدر يضخ عليه المال لا أكثر ولا أقل
انتبه ذلك الصغير إلى ارتخاء يد أخيه بين يديه، نظر إلى وجهه الشاحب ليلقى السكون، السكون ولا شيء غيره، احتواه بالكامل ليس فقط وجهه، معلنا أنه سيقدم له أمنية لطالما تمناها، خدمة لن يقدر غيره على أن يقدمها له: انتشاله من بين براثن الألم
شهقات خافتة خرجت من جوف ذلك الأخ تزامنا من انسكاب دموعه بغزارة، لحظات صمت قاتل لم يكسرها إلا صوت هطول المطر المستمر منذ مدة، دوى صوت الرعد في المكان بقوة انتشلت قلبه من الصدمة، انكب على شقيقه يهزه من ملابسه ويصرخ في وجهه:
_سعيد أخي... هيه أنت لا تقل لي أنك مت، أيها الغبي! لقد اتفقنا أن نبقى دائما معا، لمَ لا ترد عليّ؟ سعيــد! رد عليّ! توقف عن تمثيل دور الميت، هل ستتركني وحدي وسط هذا الجحيم؟! سعيد أجبني! رد عليّ، سعيـــــد!"
لا أدنى حركة ولا صوت صدرت من ذلك الممدد على السرير، ما جعل ذلك الجالس بجانبه يتأكد من أنه قد فارق الحياة حقا، لم يعد في الأمر أي مزاح، ما إن أدرك ذلك حتى رفع رأسه وصرخ بأعلى صوته، صرخة كانت كفيلة بأن تخرج الجيران من منازلهم ليسألوا عن الذي حدث
الألم ينتج أحيانا أناسا تطفح قلوبهم بالرحمة، وتنضح رقة ولطفا، لكن آخرين قد تغادر الرحمة آخر محطة من قلوبهم ما إن تلسعهم نيرانه، أي الحالين سيكون حال ذلك الشقيق المسكين؟
¶__________¶
ككاتبة أشعر أن قلبي يتمزق وأنا أكتب عن هذه المعاناة، أنا لا أستمتع بذلك البتة، أنا أتألم كما يتألم أبطال قصصي، وأشعر بما يشعر به أمثالهم في الواقع، أنا لا أعمق الوصف لأجل المتعة أو التميز على حساب غيري، أنا فقط أحاول تجسيد تلك المعاناة، أنا أحاول إيصال تلك المشاعر المكبوتة وأنات تلك القلوب المكلومة إلى كل من في قلبه ذرة رحمة، عله يفعل شيئا لأجلهم
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top