~الفصْلُ الثَّامِن: كيانٌ أسوَد~
﴿تمنَّيتُ أنْ أكونَ عمياء عن الحق، أو مجنونةٌ تضامن أفرادُ عائلتها لمحاولةِ توْعِيَتِها، لكنَّني أنا هي الواعيَة الوحيدَة، وهمْ الغائبونَ عن الواقع﴾
﴿التحمُّلُ لوقتٍ طويل يكسرُكَ في رمشةِ عيْن﴾
﴿تقدِّمُ لهمْ كلَّ ما تملك وتضحِّي بكلِّ شيء، ولكنَّ احتفاظكَ بروحكَ وجسدكَ لنفسكَ يستفزُّهم﴾
﴿تكسوهمْ بالعناية، وتلتحفُ المرض﴾
•
•
•
جالسةٌ أمام مُعالِجي النفسي الذِّي تعذَّر عليه افتتاحُ حوارٍ معي، قصيرًا وعامًّا كانَ أو طويلًا ويتخلَّلُ حياتي الخاصَّة
تعبتُ من ثرثرته ومن وُعوده التِّي لمْ ولنْ أثقَ بها، فأنا أمقتُ الوعودَ المُزيَّفة أو الصَّادقة، لأنَّ كلَّ وعدٍ مُزيَّفٍ يُنفَّذُ بطريقةٍ ما وكلُّ وعدٍ صادقٍ يُزيَّفُ بشكلٍ ما
على سبيلِ المثالِ أدهم وعد بحمايتي، وبالفعلِ تمَّ حبسي بينَ العديدِ من الجُّدرانِ، رغم أنَّه من المُستحيلِ أن يمسّني سوءٌ خارجَ أسوارِ القصر، ولكنَّهُ لم يحمِني من نفسه، وتبيّن أنَّه حارسٌ وجلَّادٌ لا شريك، هو عبارةٌ عنْ غطاءٍ يقينِي شرَّ من يصطفيهمْ ويقيني شرَّ صنعِ شخصيَّة خاصَّةٍ بي، رغَّبني في حارسٍ لي منه، وطمَّعني في التعرُّضِ إلى الأذيَّةِ من النَّاس الآخرين لا لشيءٍ إلَّا لأقي نفسي شرَّه
«إن قلت لك أنه يضربني كلَّ يوم، هل ستستطيعُ فعل شيء حيالَ ذلك؟ أيمكنكَ أنْ تُنحِّي سببَ مرضي من الوجود؟»
سألتهُ سؤالًا سيزعجه، أردتهُ أن يستسيغَ شعوري الذِّي يسبِّبه لي خلال كلِّ جلسةٍ يدورُ بيننا فيها الصَّمتُ المُطلقُ من جهَتي وأسئلةٌ لن يُردَّ عليها من جهته
ابتسمتُ بانتصارٍ وأنا أُلاحظُ مدى تأثيرِ كلماتي عليه، فقد أزال نظَّاراته مستديرةَ الإطارين وفرك عينيه بشدَّة، ومن حينٍ إلى آخر تُشفقُ أناملهُ على فروةِ رأسه وفكِّه فتتبرَّع لهما ببعض اللَّمسات
أنا بارعةٌ في قراءةِ لغةِ الجَّسد، وحركاتهُ هذه تصرخُ طلبًا للنَّجدة!
«يمكنُنا أن نطلبَ منه الحضور معنا في الجَّلسةِ القادمة لنسأله معًا عن بعض الأمور، هذا قد يُساعد»
هوَ لا يصدِّقني! كلماتهُ غلَّفها برودٌ وسآمة، لوهلةٍ شعرتُ بأنَّه هو الآخر مُرغمٌ على هذه الجَّلسات، فقرَّرت إزاحة ثقلِي عن كاهليْه بطلبِ إنهاء الجَّلسة تحجُّجًا بالتَّعب
أمامَ العيادةِ التقيتُ بأخي فيَّاض الذِّي لم أرهُ منذُ حفلِ زفافه، وتلكَ الأشهرُ القليلةُ أحدثت بهِ فرقًا وتغييرًا مخيفَيْن، ماديَّانِ في الدَّرجة الأولى
بدأت بشرتهُ بالشِّفاء من الحروقِ التِّي سبَّبتها لها الشَّمس، توارتْ عيناه خلف نظَّارات سوداء اللَّون، وغلَّفَ قامته الطويلةَ معطفٌ أبيضْ ، أمَّا ظهره فقد تولَّت أمر حمايته سيَّارةٌ بيضاء جديدة
كنتُ لأتسمَّر في مكاني لو رأيتُ هذا المشهد أمامي في الماضي، ولكن هذا لم يفاجئني أبدًا، بل فقط استغربتُ تواجده هنا
«طرأ أمرٌ ما على زوجك فانشغل في القيامِ به، وطلب منِّي أن أُعيدكِ إلى المنزل»
أومأتُ برأسي بالإيجاب تعبيرًا عن فهمي وسماعي لما قال، ثمَّ ركبت السيَّارةَ بهدوء
توجدُ ثلاثة مائة سيَّارةٍ تقريبًا في اليمن، وأخي يقودُ منها واحدة
رائع!
•
فيَّاض من النوع الصَّامت مثلي، ولكنَّه من النوع الطمَّاع على عكسي، فحاوتُ افتتاح حوارٍ معه باستغلالِ ما يحبُّه اشتياقًا إلى صوته
«متى تحصَّلت على رُخصةِ قيادة؟»
أجابني بسعادةٍ خالصةٍ لم أعهدها منه، وما جمعَ بين يديهِ وبين المقودِ أقربُ إلى الحضنِ من اللَّمسة
«قبل ثلاثةِ أشهُر»
«تخيَّل معي انفصالي عن أدهم، هل ستوصلني إلى هذه العيادةِ سيرًا على الأقدامِ وتعتني بي إن جرى ذلك؟»
أردتُه أن يكذب، طرحتُ عليهِ ذلك السؤالَ وكلِّي أملٌ في إجابته، سيكونُ فحواها السَّبب في تحسينِ مزاجي ليومٍ أو كسري للأبد، لكنَّني سأكتفي بتعكير مزاجه لو حصل الإحتمال الثاني
شعرتُ بكلِّ نظرةٍ خاطفةٍ ألقاها عليَّ أثناء القيادة، وقِستُ نسبيًّا كميَّة الطَّاقة الإضافيَّة التِّي استهلكَها في التمسُّكِ بالمقودِ وكأنَّ الأخير حبلُ نجاة
«أشتاق إلى إناء نأكل منه جميعنا، اشتقت إلى رغيف نتقاسمه،اشتقت إلى حبٍّ مزيَّف كان يشبعني رغم الفقر...أو ربَّما كان حبًّا من نوعٍ غريبٍ لا أفهمه...أمَّا الآن فأنا ممتلئة لا شبعة، والْتِماسي الرَّاحةَ من امتلائي هذا في حدِّ ذاته مرض!
تُدثِّرني البطانياتُ لا الأمان، أملأ نفسي بالمأكولات لا بالعواطف، أنا أحصلُ على أدنى حدٍّ من كلِّ شيءٍ رمزيٍّ، مرتبةٌ حقيرة تكادُ تفْنى»
تجرَّأت على عتابهِ بعد أن طال صمته، فكسرَني ردُّه
«في البدايةِ تفاجأتُ من العنوانِ الذِّي أرسلَني إليْه زوجك، لكنَّكِ بالفعلِ تستحقِّين علاجًا نفسيًّا، أتمنَّى أن تعُدِّي نعمَ اللَّه عليكِ عندما تشْفَيْن»
كانت نبرتهُ مُشبَّعة بالسُّخرية، فشُبِّعت كلُّ خليَّةٍ بنتْ جسدي بالخذلان
•
•
•
خذلانٌ آخر تبعتْهُ نوبةٌ في المكتبْ، أزلتُ حشيَّة الأريكَة لأنَّني صنعتُ لي في جوفها مخزنًا لطعامٍ أسرقه في غفلةٍ من الخادمة وأخفيه هناك، لكنَّني وجدتُ مكانَهُ جزرًا وتفَّاحات في أكياس مخصَّصة لحفظ الطعام، وبجانبها ورقة مكتوبٌ عليها {لتأكلي هذا لو شعرتِ بتلكَ الرَّغبة الجَّامحة...زوجك}
لكنَّني لا أزور مخبأي إلا أوقات عمله، هل حدث هذا مصادفة؟ ولكنَّه لا يجلسُ في هذه الغرفة إلَّا أيَّام العطل القليلة، وعادةً ما أكون معه ليدرِّسني أو لأقرأ في تلك الأوقات، فمتى خطر له أن يُفتِّشها؟
لا يمكنُ لهذا أن يحدُث! إلَّا إذا...خانتني الخادمَة التِّي بدأتُ أحاولُ أن أشتري بلُطفها المُبالغ فيه لبناتٍ أبني بها ثقة
أو...هل توجدُ كاميرات مراقبة هنا؟ هل خانتني المادَّة أيضًا؟
أكلتُ وكأنَّ آخرَ فرصةٍ لي لأنجو وأُخلق من جديد هي تفجيرُ نفسي بحشرِ كميَّةٍ تفوق قدرتِي على التحمُّل من الطعام في جسمي الممتلئ، وعندما أنهيتُ طعامي المتواضع في وقتٍ قصيرٍ عانيتُ من بقايَا الجوعِ المرضِيِّ المزيَّف والخجل الحقيقي الذِّي آن الأوان لأن يأكُلني هوَ.
أريدُ أن أُفرغَ معدَتي! لكن مغادرتي للغرفة تعني وقوعي في مصيدَتهِمْ، بمجرَّدِ إدارتي لمقبض الباب سيعرفون وجهتي القادمَة، ومُبتغايَ منها، لن يُغيِّر طول أو قصر بقائي هنا شيئًا، ولكنَّني فضَّلتُ مشاهدة مسرحيَّتهم البريئة ،وفضَّلتُ إشعارهم بنشوةِ تحقُّقِ أمنياتهم ، غدًا لا اليوم
لا أريد أن أكونَ كتابًا مفتوحًا! هل قصَّرتُ في إخفاء مشاعري؟ لم أنجح لا في تحصينها و لا في إخفائها وهذه هي خسارتي الكُبرى!
يعيشُ المرءُ مرَّةً واحدةً فقطْ وحياتهُ قصيرةٌ جدًّا، لهذه الجُّملةِ فقط وقعٌ قاسي على سامعها، فماذا لو ذهبت تلك الحياةُ القصيرةُ هباءً؟
كمْ تُرهبني هذه الأفكار؟ كم أخافُ أن أكونَ فردًا لا يُرى في مجموعةٍ ضخمةٍ لن يبرُزَ فيها أيُّ أحد، في أعماقي أريدُ أن يصنع اختلافي فرقًا يُرسَّخ في الأذهان؟ لكن ليس كلُّ ما يشتهيه المرء يُدركه، فماذا لو كان المقصود بالمرء 'توق الضعيفة'؟
بكيتُ من شدَّة اليأس! بكيتُ اعترافًا بالخسارة! لا ينفكُّ صوتي يعلو ولم يزعجني هذا بتاتًا، سمحتُ لنفسي بالبكاءِ في وضعٍ شبهِ عاديٍّ لأوَّل مرَّة، والمرَّات الأولى على الإطلاق كانت أمام أدهمْ وهو ينهشُ جسدي دون شفقة
لكنَّ ضعفي الذي سلَّطته على نفسي لإسالة الدُّموع كان مبطَّنًا بالقوَّة، فأنا أعلم أن أدهم يقوم بأموره المستعجَلة ولن يسمعني، وأعلم أنَّ الخادمة "أشواق" مُنهمكة في تنظيف الطَّابق الثَّاني البعيد كلَّ البعد عنِّي
ارتجفتْ أطرافي وتسارعت أنفاسي وانفجرت بداخلي هبات ساخنَة، ظهرت أعراض إدماني الجديد فقرَّرت تهدئتها بإدماني القديم...قضم شفتيَّ إلى أن تنزفا! لقد أهملت هذه العادة لفترة لا بأس بطولها بعد أن واجهتُ ما هو أسوأ منها، عادةٌ أسوأ لشخصٍ آخر.
تغلَّب عليَّ صوتي الدَّاخلي فسارعتُ بالخروج من الغرفة لأُصدمَ بتواجدِ أدهم هُنا، جالسًا على إحدى الأرائك وممسكًا بوثائق لم أعلم ما الجدوى منْها
-رائع! لقد خرجتِ أخيرا!
-منذُ متى وأنت هنا؟
-منذُ ساعة
-عليَّ أن أدخل إلى الحمام
-لكن أنا...
-سأدخل!
غلبتني العصبيَّة فصرخت بوجهه، كنتُ على حافَّةِ الإنهيار وصبِّ جام غضبي عليْه، حقيقةُ أنَّه قد سمع نحيبي وانتشى به لدرجة أنَّه لم يدخل إلى الغرفة ليُسكتني تسحبني إلى الهاوية النَّاريَّة، وبقايا عقلانيَّتي الضبابيَّة تُقاومُني وتشدُّني إلى الصراط المستقيم
أفرغتُ ما بمعدَتي إلى أن أشعلت المرارةُ الخطَّ الأحمر في ذهني فاستجاب لها وصعقني بالواقع وبدوري استجبتُ له و خرجتُ من الوهم
هل أنا مجنونة؟ أم أنَّ سؤالي هذا هو دلالةٌ على نجاح حياتي الزوجيَّة من طرفٍ واحدٍ؟ طرف زوجي الذي يُدغدغُ اضطرابي الجزءَ المسؤول عن السَّعادةَ في مخِّه
لا بأس فهو أعلم برغبتي الملحَّة في إبداء ما أشعر به، هو أدرى بنقاط ضعفي ومعه مفاتيحي، لا أحتاج إلى الإعتذار من 'توقْ'
لكن...أوليس هذا دليلًا على أنَّه هو من سبَّب لي هذا المرض؟
أنا أعلم أنَّ ما أقوله هو مجرَّد ترَّهات حتَّى أنا لا أهتم بها، لكنَّني اتَّخذتها كطريقةٍ أواسي بها نفسي
فتحتُ الباب تدريجيًّا فوجدته في نفس وضعيَّته السَّابقة، إن دلَّ هذا على شيءٍ فهو اللَّامبالات، وهذا أسعدني بشدَّة، وخفَّف من شعوري بالضِّيقْ
'ربَّما أنا هي الوحيدة التي تهتم بوضعي وتسخر منه في آن واحد؟ ربما هو بريء ولا يُبدي أي ردَّة فعل لكي لا يحرجني؟'
لوهلةٍ لاحت في عقلي هذه الإحتمالات، وكلُّها تخدم بعضها البعض فلا داعي لفرزها
«سنُسافرُ غدًا إلى دُبي فجهِّزي الحقائب، ستجرِّبين ركوبَ الطَّائرة لأوَّل مرَّة، أعتقدُ أنَّ هذا سيُشعركِ بالتحسُّن»
أعلن عن قرار سفرنا المفاجئ بعد أن نهض عن الأريكةِ ورسمَ على وجههِ ابتسامةً واسعة رفرف لها قلبي، وكأنَّ الأُستاذ أدهم والزَّوجَ أدهم يتصارعانِ ويتعاقبانِ في التَّواصلِ معِي، يُغدقُ عليَّ الأوَّل بالحبِّ وفي النَّقيض يغدق علي الثاني بشتَّى أشكال العنف
إذن سنبتعدُ عن هنا أكثر من بضع دقائق؟!
أسعدنِي ذلكَ القرارُ رغم تخوُّفي من عودتنا إلى القصْر بعد أن نقطع نصف الطَّريق إلى وجهتِنا
بعد أن علمنا بخبرِ مرضي صار مسموحا لي بالذَّهاب إلى منزل عائلتي، حصلت على حريَّة عبور ذلك الشارع المؤدي إلى مكان مغلق آخر، تمنَّيت تأمُّل السَّماءِ لوقتٍ أطول وأنا في طريقي إلى منزلِ الباعةِ الذين لم أحمل لهم الضغينة، وهأنذا سأحلِّق في السَّماء كالطُّيور!
تحمَّستُ للغد لدرجة أنَّني قبلتُ بشربِ الأدوية التِّي وصفها لي المعالج النفسيُّ دون تردُّدٍ، وتوقَّفت عن محاولة إقناع أدهم بأنَّه على الثِّقة أن تكون الأساس بيني و بينَ ذلك الرَّجل الذي لم أتقبَّله، فلم يضطرَّ إلى تذكيري بأنَّها مجرَّدُ مضادات اكتئاب ستساعدُني على الإسترخاء
•
كما توقَّعت!
حجز لنا في النُّزل جناحًا خاصًّا بنا تصلهُ الوجبات الثَّلاثة دون أن نضطرَّ إلى الخروج والتَّواصل مع النَّاس، ورغم ذلك سررتُ بهذه النُّقلة من سجنٍ ضخمٍ أشعر فيه بالضِّيق إلى سجنٍ ضيِّقٍ أشمُّ فيه رائحة الحُريَّة وأتخيَّلهُ فسيحًا، وما زادني سعادةً هو ذلكَ المسبحُ وتلكَ الحديقةُ الصغيرةُ الخاصَّة بنا نحن الإثنين لا غير
سمحَ لي بتناولِ الأطعمة المشبَّعة بالدُّهونِ والسكَّر ففرحتُ بذلكَ وكأنَّني تحصَّلتُ على رمزِ مرورٍ للخروجِ من مزاجي المُتعكِّر، وساهم الطَّقسُ الدَّافئ في إسعادي، ولكنَّني شعرتُ بالتَّهديد، شعرتُ بأنَّ تلك المشاعرَ المُدغدغةَ للقلبِ ليست لي، شعرتُ بأنَّني أفتكُّ سعادةَ أحدهم أو يُلقى عليَّ ببقايا رفاهيَّةِ شخصٍ ما، ولكنَّه يظلُّ أفضل شعورٍ خالجني يومًا
صحيحٌ أنَّنا اختليْنا ببعضنا البعض، أنا وأدهم، ولكنَّني استمتعتُ برفقةِ شخصيَّتي الحقيقيَّة ومُصادقتها، لأنَّني اكتشفتُ خباياها بعد حوالي عشرينَ سنة
أنا أحبُّ السِّباحة، أو بالأحرى مقاومة الغرق، أحبُّ تناول الأطعمةِ الفاخرة، أحبُّ الجلوسَ في الحدائقِ ليلًا والكتابة أسفل ضوءٍ خفيفٍ لا يعكِّر عليَّ لا رؤية النُّجوم في السماء ولا رؤية النُّجوم التِّي أخلقها بنفسي على أوراقي
وجدت نقطةً مشتركة بيني وبين زوجي، هو أيضًا يحبُّ تلك الأجواء، عندما تتوفَّر يجلسُ أمامي ومعه كتابٌ وكوب قهوة، يبتسمُ لي من وقتٍ إلى آخر غير عالمٍ أنَّني أطعنه بقلمي في كرَّاسي الذِّي يحملُ حقدًا ثقيلًا لم تقُم المُغرياتُ بإخمادِه
لا يُحاول أن يُفرغ في جسدي رغبته قبل النوم، بل يحتضنني بقوَّة وطريقةٍ تفضحُ شهوته، ولكنَّه لا يبيحُ بها بنفسه، وهذا يكفيني، بل وأقدِّر قدرته المفاجئة على تجاهلِ وساوسِ خياله
وكأنَّ لمساته صارت عبارةً عن لمسات اعتذار، اعتذارٌ لن أقبله، لكن هذا يظلُّ احتمالًا
•
•
•
عُدْنا إلى القصرِ بعد ثلاثةِ أيَّام حُلوة وسلِسة
لم تصلْني مظاريفٌ حمراء أخرى من عمَّتي، لكنَّ الغريبَ في الأمرِ هو أنَّني عندما أردتُ إعادةَ قراءةِ رسالتها الأولى بعد أن أخرجتها من تلك الرُّقعة في حديقة القصر التي دفنتها فيها، وجدتُ أنَّ الرسالةَ الأولى قد مُسِحتْ وحلَّت مكانها واحدةٌ أخرى
لكن كيف؟
لا يمكنُ لأيِّ أحدٍ الدخولُ إلى القصر نظرًا إلى نظامِ الحراسة المُشدَّدة المُفعَّلِ فيه
أجابني عن سُؤالي هذا شيءٌ صادم، ففي يومٍ ما، صادف وأنْ فتحت الظَّرْفَ في وقتٍ بدأت فيه الكلماتُ تُمحى وتُكتبُ أخرى مكانها، و كأنَّ الرَّسولَ هو كائنٌ غيرُ مرئي
لم تخبرني بطريقة الردِّ عليها بعد، وهذا أسعدني إلى حدٍّ ما، لأنَّني لم أقدر على اتِّخاذِ موقفٍ تجاهها
سأحبُّ البقاء هنا لو استمرَّت هذه المعاملة من زوْجي، اكتشفتُ أنَّ كلَّ ما أريده هو أن أُعامل كبشريَّةٍ لا كحيوانٍ سائِب، كنتُ يائسَة إلى تلكَ الدَّرجة!
صارتْ نوباتي وخوفي بسبب تلك الرِّسالةِ التِّي اعتبرتها مزعجةً لا مُنقِذة، قد أبدو شديدة الغباء وناكرةً للجَّميل بكلامي هذا، ولكن ليضع كلُّ شخص نفسه محلِّي ويتخيَّل للحظاتٍ قصيرةٍ موقفي، شخصٌ مجهولٌ يُرسلُ لكَ رسائلًا سحريَّةً أو أيًّا يكُن و يُحاولُ إقناعك بأنَّ خلاصكَ بين يديه، وعليك الإقتناع بتلك الأشياء المريبةِ إجباريًّا لمجرَّد صلةِ القرابة غيرِ المُؤكَّدة التي تجمعُكُما
﴿وجدتُ إسمكِ في سجلِّ مُعالجٍ نفسي، قد يبدو لكِ هذا غريبًا ولكنَّ معلومات عالمكِ ليست بسريَّة بتاتًا، بل هي على وشكِ أن تُباعَ في البقالةِ، فضحُ أسراركم ممتعٌ هنا لسببين، إرضاء فضول بعد الناس واستعمالكم كفئران تجاربٍ لخططٍ علاجيَّة عند البعض الآخر، لا أسرار في عالمِك، ولهذا هناكَ قانونٌ غيرُ رسميٍّ يعتمده سكَّانه للتحرُّر جزئيًّا من 'اتِّحادِ الدُّولِ العُظمى' ، العرفُ الإجتماعي و الدِّين المحرَّف، و لهذا لم يستطع الإتِّحادُ إيقاف زواج القصَّر وجرائم الشَّرف فعدَّلت بنودًا من القانون، أهمُّها هو أنَّه على الضحيَّة أن ترفع قضيَّةً إلى محكمةِ الإتِّحادِ بنفسها لكي تستردَّ حقوقها﴾
﴿القانونُ يُعاقبُ المجرمينَ بقسوة، و لكنَّهُ لا يُقدِّمُ مكانَ سكنٍ وضروريَّات الضحايا الحياتيَّة، هذا ما أوهمكم به القانون المزيَّف التِّي حدَّثتُكِ عنه، ولكنَّ الدولَ العظمى مستعدَّةٌ لاستقبالكم وتقديمِ مأوى لكم، التَّضحيَةُ الوحيدةُ التِّي عليكم تقديمها هي تحمُّلُ الغربة، لكن غربةٌ حقيقيَّةٌ يمكنُ التعوُّدُ عليها أفضلُ من غربةٍ مَعنويَّة تسوء كلَّ يوم، أولستم غُرَباءَ في أوطانكم؟﴾
﴿عليكِ أن تطلبي العون من السَّفارة الخاصَّة بالإتِّحاد لا مراكز الشُّرطة الحقيرة الخاصَّة ببلدانكم، لأنَّها تُؤمنُ بالتحرُّر المُزيَّف من الغرب، حريَّةٌ لا يُحقِّقها إلَّا تجاهلُ نداءات ومطالب ضحايا تسمعُهُمْ الدُّول العُظمى، وكأنَّ الأمانَ حكرٌ على الإتِّحادِ فقطْ﴾
تمجيدُها للعالم الآخر ذكَّرني بافتتاني بهندامِ وطبع الأستاذِ في الماضي، فهل هو فعلًا برُّ النَّجاة للبائسين أمثالي، أو هوَ مصنعٌ لأُناسٍ أمثال أدهم
عندما أوشكتُ على الإقتناع بكلامها اختفى الظَّرفُ فجأةً من الحديقة فأرعبنِي ذلك، إلى الدَّرجة التي سبَّبت لي بعض النوبات، ولكنَّني لم ألاحظ أيَّة اختلافٍ في معاملتَيْ أدهم أو أشواق لي
•
•
•
بعد أيَّامٍ قليلةٍ تضاعفَ نهمي وشعوري بالإرهاق والغثيان مع أو بدونِ نوبات النهام ، فآثرتُ النوم والاسترخاء على أيِّ نشاط آخر
«وكأنَّنا زوَّجناك الخادمة! هناك أمور جميلة تُوطِّد العلاقة بين الزَّوجين وتطيل عشرتهما، كأن تنتبهَ الزوجةُ إلى أنَّ زوجها يُفضِّلُ كوب القهوة مع ملعقة سكر وربع وثلاثة قطرات ماء ورد، هذا بسيطٌ ولكنَّهُ مُؤثرٌ على قلب الزَّوج لأنَّه يظهرُ له حبَّها وتقديرها»
فاجأني صوتُ حماتي صباحَ ذلك اليوم، وكالعادةِ لا يُمكنُها أن تُشغلَ فمها وتطيِّب جلستها إلَّا بالحديث عنِّي بالسُّوء غائبةً كنتُ أو حاضرة
تزعم أنَّها تؤنسهُ في غيابي، ولكنَّني أعلم أنَّها تستمتع وتفتخر بكونها إحدى أسباب غضب أدهم عليَّ وتعنيفه لجسدي، تكاد تُعلِّق وسامًا على ملابسها كتكريمٍ لِنفسها على ذلك
لكن لمَ هو صامت؟ ألم يتغيَّر قليلا من أجلي؟ دفاعه عنِّي ولو كان غير مباشرٍ ليس بعقوق!
«هي مدلَّلة ومغتمَّةٌ أكثر من اللَّازم، ليسامحكَ اللَّه على هذا الزواج!»
لقد ضحك وهذا كفيلٌ ليؤكِّدَ لي أنَّهُ وافقَها على كلامِها! هذا آلمني كثيرًا!
•~•
في اليوم الموالي أعددت له قهوةً مع ملعقة سكر وربع وثلاثة قطرات ماء ورد، ثمَّ قدَّمتها إليه على مرأى من أمِّه
صحيحٌ أنَّني كسرت فنجانيْنِ بسبب الدوار ولكنِّي أجبرت نفسي على تكرار المحاولة وتنظيف الفوضى بنفسي بعد رفض مساعدة 'إشراق'
لا أعلم ما إذا كنت أنتقم منه ومن حماتي أو أنتقم من نفسي؟
جلستُ في مكاني المجاور لمقعدهِ وأنا أُحدِّقُ بأمِّه مستمتعةً بالغضب البادي على محياها من مجرَّد طلَّتي عليْهَا
«لقد قرأتُ البارحةَ عن نظريَّتَيْن»
شددتُ انتباههُ إليَّ بقولي ذاك
«ما هما؟»
سألني عن مقصودي فتعمَّدت قطع التَّواصل البصريِّ بيني وبين أمِّه في تلك اللَّحظة بالذَّات، معلنةً عن نجاحي في صرفِ انتباههِ عنها
« أكَّد 'هوبز' على كونِ الإنسان شرِّيرًا بشكل طبيعي لعدم امتلاكه أيَّ فكرةٍ عن الخير في حالة الطَّبيعة، وأنَّه شرير لأنه لا يعرف الفضيلة. ولكنَّ روسو انتقد نظريَّته بقوله "ما من شيء ألطف من الرَّجل في حالته البدائيَّة، وذلك عندما توضع الطبيعة على مسافة متساوية من غباء المتوحشين والتَّنوير القاتل للإنسان الحضاري" »
«وبماذا تُؤمنين أنتِ؟»
لحظتها تعمَّدتُ توجيهَ بصري إلى أمِّه مرَّةً ثانية، والإبتسام للحظاتٍ قبل أن أردَّ عليه
«أؤمن بأن الشرَّ مكتسب، يمكنهُ أن ينتقلَ من المربِّي إلى الطفل، ويمكنُ أن تزرعهُ في الإنسانِ تطورات الحياة، جان جاك روسو هو الفائز»
«أحسنتِ»
ابتسم وربَّت على شعري بلطفٍ فمحى بذلك نشوة الإنتصار
«أنت صغيرة على فهم هذا» «لستِ مؤهلة للحديث عن هذا الموضوع»
كان يعشقُ هذه الجُّمل في الماضي، ولكنَّه صار يعبِّر عنها الآن بشكل آخر خبيثٍ بعد أن نمَوْتُ قليلًا أمام ناظريْه
أشتَهي مفارقةَ ابتسامتهِ لوجههِ وأنا أحاوره في موضوعٍ جدِّي، أشتهي نسيانه لمصطلحاته المفضَّلة التِّي يستخدمها في وصفي (ظريفة، لطيفة، بريئة، فتيَّة)
كنت صامتة ففقدت قيمتي، والآن صرت ناطقة ففقدت كلماتي قيمتها لأنَّها أتت مُتأخِّرة، مُتعبةً من طول الطريق، وغير واثقة
حتَّى أنَّه يُحفَّز أغلب الأحيان على تقبيلي ولمسي بعد أن تُشعلَ جديَّتي بداخلهِ رغبةً لا خوفًا من أن أفارقه، أعليَّ قبول الهروب من هنا بعد أن تعود من تزعم أنَّها عمتي إلى مراسلتي؟
هل الفجوة بيننا هي السَّبب في تلاشي صوتي؟ أم أن كلماتي غير مفهومة؟
أنا لا أجيد التعبير، أو أنا مُتجاَهلَة؟
هل أتلعثم أثناء نطقي أمامك خوفا منك، أو أنني أخفض صوتي إلى أقصى حدٍّ عن عمدٍ كي لا تسمعني؟
كلُّ تساؤلاتي صحيحة، صرتُ منقسمة إلى نصفين، والنِّصف الجبان أقوى من شبه الشُّجاع فنجح في قمعه بيسرٍ...عادةً ما يكون التَّغيير جميلا مثيرا للاهتمام، ولكن في حالتي أنا جرى العكس، كلَّما زادت شجاعتي تعلَّقت أكثر بخوفي ليكبرا معًا رغمًا عنِّي
تعكَّر مزاجي فعدتُ إلى مخبئي، وسرعان ما لحقَ زوجي بي إلى الغرفة، أو بالأحرى كادَ أن يهدمَ بابها
قام بالأمر بسرعةٍ واندفاعٍ غريبَيْن، اقتربَ منِّي كثيرًا ورفع يدهُ عاليًا تأهُّبًا إلى ضربي فحميتُ وجهي بيديَّ كردَّةِ فعلٍ غير ناجعة في تخطِّي العقاب على ذنوبٍ لم أرتكِبْها، ولكنَّني مجرَّدُ فتاةٍ وفيَّةٍ لعاداتٍ فاشلةٍ لن تكونَ سببًا لخلاصها يومًا
طال انتظارُ صفعَاتي فأبعدتُ درعي البشريَّ الهشَّ عن وجهي، وعندها التقت عينايَ بعينين تتوهَّجانِ بالنَّشوة، نشوةٌ تُشبهُ تلك التي تستحوذُ على أمِّه كلَّما ضربني بيده أو بلسانه
هل يتخيَّل أنَّه يضربني وهذا هو سبب سكونه المفاجئ؟ هل اشتاق إلى تلك الأيَّام؟ هل ستعود تلكَ الأيَّام بعد نفاذِ صبْرِه؟!
«كلُّ ما تجيدينهُ هو حملُ الضَّغينة وفعلُ أشياء تافهة مثلك!»
نبرته حادَّة و نظرتهُ مُخدَّرة، أيَّهما يُزيِّف؟
على الأقل لم يضربني، أنا ممتنة.
•~•
كلَّا! لا أريد!
بطني بدأت تكبر ففهم الجميع سبب خمولي الشَّديد
اختلطَ علينا المرضان فغطَّى أحدهما على الآخر، في الحقيقةِ أحدهما ليس بمرضٍ بل هو مصيبة!
حمل؟! موت كجوانا؟!
لا أريد أن أصير أمًّا ميتة أو أمًّا كأُمِّي!
أخبرتني الطَّبيبةُ النسائيَّةُ بأنَّ غثياني ودَوْختي الشَّديديْن طبيعيَّانِ جدًّا، بعض النِّساء يعانين من الحمل أكثر من غيرهنَّ وكُتبَ عليَّ أن أكون منهنَّ
لم أستغرب من هذا، بل كنتُ لأتفاجأ لو مرَّ حملي بسلاسة وسهولة
آكل وآكل وتظلُّ بمعدتي مساحةٌ للمزيد ، فمي الممتلئ والأواني الفارغة يُذكِّرونَني بكابوسٍ بدأ يراودُني في اللَّيالي الأخيرة، شخصٌ ما يلاحقُني، وبالطَّبع أفشل في النَّجاة منه بسبب ساقي العرجاء فيمسكُ بي، ويلتهمُني، لكنَّني أبذلُ جهدًا كبيرًا في توجيه بصري إليه بعد أن أشعر بأنَّ رطوبةَ فمهِ قد غطَّت نصفَ جسدي، فيتبيَّن أنَّهُ رضيع عملاق، وصوتٌ داخليٌّ يُخبرني بأنَّه طفلي الذي لم ألدهُ بعد
طفلي يأكلُني!
زارتني أمِّي كلَّ يومِ جمعة لتطمئن عليَّ في الظَّاهر وتمدحني على حملي في الباطن وكأنَّ لي يدًا في ذلك، هي الأخرى حاملٌ بأخي، ولكنَّها كانت أقوى منِّي وقدرتها على التحمُّل والثَّبات تفوق قدرتي بأشواط
زعمت حماتي بأنَّ سبب ذلكَ هو نشاطُ أُمِّي، ورغم أنَّ المعنيَّة بالأمر قد فهمت أنَّ حماتي تتعمَّد استفزازي بكلامها ذاك، صمتَت كما فعل زوجي ووافقتها عليه
لا يهم! تلك هي طبيعة جسدها، فلو كان الشَّقاء يصنع قوَّةً لكسرتُ الحجر
«ليس علينا أن نزعجه في داره»
تنبس أمِّي بتلك الحجَّة الواهية عندما يعود زوجي إلى المنزل أو حتَّى قبل أن يفعل، فلا يطلب هو منها البقاء معي ولا تستاء هي من ذلك، بل يتبادلانِ ابتساماتٍ تدلُّ على أنَّ انسجامهما يفوقُ حتَّى انسجامنا أنا وهو
•••
بعد الأسبوعِ العاشر من الحمل بدأت الأعراض المزعجة في الاختفاء، وحلَّت محلَّها أعراضٌ مؤلمة لكرامتي
رغبتُ في لمساتِ وقُبُلاتِ أدهم، الأمرُ طبيعيٌّ جدًّا، ولكنَّه بشعٌ لو نظرتُ إليه من زاويةٍ غير علميَّةٍ
رغباتُ الحاضر أدانتْني واغتصابُ الماضي برَّأني
لم أعد أعلم من أنا، ما أرغبُ به، وما أنوي فعله، ولكنَّني كنتُ شبهَ متأكِّدةٍ من أنَّ العالم لا يحتاجُني، فهوَ بي معيب،وهو بدوني كامل، ونفسُ الأمرِ ينطبقُ على المحيطينَ بي
الجميعُ كانوا مُتصالحينَ مع أنفسهم ورغباتهم، عائلتي تريدُ المال مُقابل ابنتِها، وعائلتهُ تريدُ السَّعادةَ مُقابل حُزني
هم أشرارٌ ويفتخرون بذلك، بل و يعملون على تطويره يوماً بعد يوم، لكن من أنا؟ هل أنا من الأخيار؟ أو أنَّ الظروف والحالة الصحيَّة لا يسمحان لي بأن أُمارسَ شرًّا مدفونًا بداخلي؟
•~•
هدأ الجميعُ بعد إعلان خبر حملي، لم يصيروا لطفاء معي ولكنَّهم تجاهلوني حرفيًّا، وكأنَّني صرتُ مجرَّد وعاءٍ لحملِ ذلكَ الجَّنينِ الذي لا أُريده
لا مضادات اكتئاب لكي لا تؤذي الجنين!
لا خروج من البيت!
لا سهر على قراءة الكتب والكتابة ليلا!
لا حركة قبل أن تلدي!
لا نفس قبل أن يلتقط طفلكِ أنفاسه الأولى!
بعنادٍ أعترفُ بأنَّهُ طفوليٌّ، ولكنَّه ضروريٌّ من أجل توازني النفسي، أصررتُ على إعداد الغداء قبل عودةِ أدهمْ إلى القصر، فاستسلمت أشواق بعد أن طال إلحاحي على ذلكَ
•~•
دوَّى صوتُ سيَّارةِ الإسعاف في الحيِّ، لكنَّني تخيَّلت أنَّها سيَّارةُ شرطةٍ ستأخذني للتَّحقيق في الجريمة التي وقعت في القصر
«هل وضعتِ المحار في الحساء؟!»
انتشلني من شرودي وخوفي صياحُ حماتي، وصفعتُها التِّي لفحت خدِّي دون سابق إنذار
بالطَّبع لم أفعل! فأنا لا أجيدُ طبخ مأكولاتِ الأغنياء، لكنَّني المتهَّمةُ الوحيدةُ في صدمةِ حساسيَّةِ أدهم، فقد كان يأكلُ ويتلذَّذُ بالطَّعامِ بهدوءٍ شديدٍ، وفي غضون دقائق قليلة بدأت الأعراض المُخيفة لصدمةٍ قد تقتله، ولكنَّه نجا منها بأعجوبةٍ فشعرتُ بأنَّ تحسُّنه مثلُ لمسةٍ دافئةٍ من حظِّي الذي غفا بما فيه الكفاية
رغم استقرارِ حالتهِ لم يلتئمْ شعوري بالذَّنب تجاهه
كنتُ آكل دون أن أنتبه إلى نفسي، وأُجبر نفسي على التقيُّؤ دون أن أنتبه إلى ذلك، ولا أصحو من غيبوبتِي تلك إلَّا وأنا شبهُ مغشيٍّ عليَّ فوق بلاطِ الحمَّام البارد، فماذا لو...وضعتُ له المحار في الطَّعام عن غفلةٍ منِّي؟ ماذا لو صار انتقامي منه عن طريقِ محاولةِ قتلهِ هو مرضي الجَّديد الذي تتحكَّمُ بي نوباتهُ عندما لا أكونُ واعية؟
وضعتُ هذه الإحتمالات أمامي وصدَّقتها، فاعتذرتُ منه ألف مرَّة واعتنيتُ به قدر الإمكان تأثُّرًا بخطيئتي، وما زاد خيبتي من نفسي هو قبوله لاعتذاراتي، وشكري على اعتنائي به
لمَ هذا اللُّطف المفاجئ!
لكن...ألم أفعل قبل مرضه؟ ألم أكرِّس حياتي للإعتناء بالجميع؟ تظهرُ عنايتي حتَّى في سعادتكَ بألمي يا أدهم!
•~•
الأشياء تختفي من المنزل، الأضواء تُشعل وتنطفئ قبل أن ألمس القاطعة حتَّى!
أحدهم معنا في البيت! وهو من وضع المحار في طعام أدهم! هذه ليست كذبةً اختلقتها لألفِّق تهمتي لشخصٍ آخر، بل هي الحقيقة!
«مجنونة!»
«أعتقد أنَّه عليَّ إعادتُكِ إلى المعالج النفسي!»
«كم كرهتُكِ!»
بتوتري صرت أخبر الطَّبيب ببعض الأشياء الخاصَّة علَّه يصدِّقني عكس أدهم الذي زجرني، وعندما أنتبه إلى نفسي أكذِّب أقوالي فتختلط المعطيات، ويصير من اليسيرِ عليه تحديد ما يصدِّق وما يكذِّب من كلامي
أخاف جميع النَّاس! في اللَّيلِ وبعد نوم زوجي أحملُ سكِّينًا وأقومُ بدوريَّةٍ في أرجاء القصر بطابقيْهِ الإثنين
أمشي ذهابًا إيابًا في الغرَفِ،وأحيانًا، في أسوأ الأوقات، تتملَّكني رهبةٌ غير طبيعيَّة فتلوح في ذهني فكرةٌ جنونيَّة 'ذلك الشخص قريب' ، عندها أختارُ لي ركنًا ما لأتقوقعَ وأتقلَّص خوفًا فيه
لن أعيد نداء النَّجدة! لأنَّه يظنُّني مجنونة، وأنا لن أسمح له بالإنتصار
سأبذل جهدًا في التحكُّم في خوفي وانفعالاتي إلى أن أمسكَ بذلك الشخص، حتَّى لو قتلني سأموت مُتعبة لكن سعيدة، فاعتقاد زوجي بأنني مجنونة أسوأ من اعتقاده بأنني ضعيفة
وكأنَّني بدأت أشتاق إلى الأيَّام الخوالي، ففي الأمور السلبيَّة خياراتٌ عديدة، وفي المقابل، في الأمور الإيجابيَّة مجرَّد أوهام وأحلام لن تتحقَّق
عندما يغادرُ البيت صباحًا ويتَّجه إلى عمله يشتدُّ خوفي من أشواق، رغم أنَّها تلقائيَّةٌ إلى حدٍّ ما
تَخلعُ جلبابها وتُسدلُ شعرها الأسودَ كلونِ عينيْها، تنظر مطوَّلًا إلى انعكاسها في المرآة وتصفِّر إعجابًا بحُسْنِها، فهي بالفعل تبدو أصغر بكثير من سنِّها الفعلي، خصوصًا وأنَّها مهتمَّةٌ بلياقةِ جسمها وطعامها
بالطَّبع ستفعل! بما أنَّها كبرتْ وترعرعت وعملتْ في منازل الأغنياء، أحيانًا يراودني شعورٌ بأنَّ حياتها أفضلُ من حياتي بكثير، فهيَ ليستْ بحاجةٍ إلى مكبِّ أموالٍ لتعتمدَ على نفسها وتكون سعيدة
•~•
أهربُ إلى منزلِ أمِّي وأنا مُثقلةٌ بالكتبِ عن عمدٍ، كي أنفِّرها منِّي إن حاولت فتح حوارٍ معي موضوعه 'راحة أدهم' و 'صحَّة الرضيع'
طبعُ أختي مشابهٌ لطبعي بعد الزواج، أو بالأحرى بعد حصولي على بيئةٍ ملائمةٍ لولادة هوايتي ، فهي تحبُّ الإنفرادَ بنفْسِها في غرفتها لتدرس وتطالع الكتب، وهذا ما دفعني إلى إفساد خلوتها، فاستقبلتني بسرورٍ استشعرتُ فيه الصِّدق
-بُشرى أغلقي السِّتارة المعدنيَّة مع ترك بعض الثغرات الصغيرة
-لماذا؟
-هيَّا أسرعي! رجاءً
نفَّذت أمري دون أن يفقدَ وجهها سعادته بالكتبِ التِّي أهديتها إيَّاها
نافذةُ غرفةِ أختي مُطلَّةٌ على نافذةِ المكتبة الكبيرة ونافذة المطبخ في القصر المحاذي لهذا المنزل الواسع، إذن سأستطيعُ المراقبة من هنا
بعد خوفٍ وتردُّدٍ دنوت من السِّتارة وقرَّبت عينيَّ من تلك الفجوات الفاصلة بين القطع المعدنيَّة المتراصَّة في وضعٍ أفقي
كما توقَّعت!
رأيتُ شخصًا مغطَّى كليًّا باللَّون اللأسود واقفًا أمام نافذة المطبخ وبصره موجَّهٌ إليَّ، أقصدُ إلى غرفةِ أختي
أهو شبحٌ أسود اللَّون على عكس ما تزعمه أفلام الرعب؟ أو هو إنسان متنكِّر من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه؟
المهمُّ أنه عبث بشيءٍ ما في المطبخ، والأهمُّ أنَّ أشواق سمحت له بالدُّخول
•~•
تحمَّلت عرجي وحاولتُ السَّير بخطى حثيثةٍ وفقدانِ صبرٍ نحو القصر ، سأمسك به! حتى لو حصل بيننا مجرَّد تماس أو احتدَّ الوضع بيننا، سيكفيني التأكُّد من كونِهِ بشريًّا لا مجرَّد كيانٍ أسودٍ خلقهُ ذهني ليحتمي به من اتِّهاماتي القاسية لنفسي
فتحتُ الباب فوجدته منتصبَ القامةِ أمامي وتفصل بيننا شعرةٌ دقيقةٌ جدًّا، تفصلني عن الموت أو النَّجاة منه مسافةٌ لم أتوقَّع قصرها المبالغ فيه! لو كنتُ أعلم أنَّ هذا ما سيجري لما خاطرت بنفسي!
أنا مجرَّدُ جبانةٍ أرادت إثبات قوَّتها بشيءٍ أقنعت نفسها سرًّا بأنَّه وهمي! أعترف بهذا!
صرختُ من أعماقي وأنا أتشبَّث بالبابِ مقاومةً شلل ساقيَّ المفاجئ وأغمضتُ عينيَّ بقوَّةٍ أدعو أن يساعدني ذلكَ على تهدئةِ نفسي، لا أريد أن يحدث شيءٌ للجَّنين بعدَ وقوع جسدي أرضًا! لا أريد مشكلةً أخرى! قطراتُ حلمي لا تكفي للتحمُّل!
«ماذا يحدث؟! ما بكِ سيِّدَة توقْ!»
سألتني أشواق عمَّا يجري بهلعٍ وهي تجولُ بيديها على أنحاء جسدي للتأكد من سلامتي
«هل رأيته؟! هل رأيته؟!»
لم أستطع خفض صوتي وترويض أعضاء جسدي الثوَّار، أمَّا هي فنظرت إليَّ باستغرابٍ ثمَّ ولَّتني ظهرها لتلقي نظرةً إلى الدَّاخل، وعندها خرج هو من غرفةٍ وركض نحو غرفةٍ مقابلةٍ لها، أمامنا مباشرةً!
ضحكتُ وأمسكتُ بذراعها لأهزَّ جسدها بسعادةٍ غمرتني فجأةً، لكنَّها نظرت إليَّ ونبست بكلماتٍ صادمةٍ وضعتها في قالبٍ من التَّهديد
«لا أحدَ هنا، سأهاتفُ السيِّد أدهم فأنتِ لستِ بخيْر»
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لم أنم البارحة من شدَّة الخوف من شيء كتبته بأناملي😭😭
المهم:
1: ماذا يحدث لتوق؟ أهو جنونٌ أو حقيقة؟
2: من سبَّب لأدهم صدمة الحساسية؟توق؟
3: أين هو الظرف الأحمر؟
4: أي نقد أو ملاحظات؟ طلبات؟_ترمش_
♥️أتمنى أن تكونوا قد أحببتم الفصل♥️
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top