(32)

بقلم : نهال عبدالواحد

صاح عزيز بملئ صوته مثلما يصيح في المجندين وقت التدريب، لدرجة أن ارتعد الجميع ولم يجد جمال إلا أن يتقدم مطيعًا طلبه.

فنادته عديلة: عزيز، اجلسا هنا في حجرة جمال.

فأجاب عزيز محاولًا الهدوء: أعتذر منك، لكن سنذهب إلى المقهى، أعتذر أيضًا عن صوتي العالي.

وانصرف عزيز وجمال متجهين إلى المقهى، وبسبب سوء الأحوال الجوية كان المقهي يكاد يكون فارغًا إلا من بضع أفراد بالداخل، لكن عزيز جذب كرسيين ليجلسا خارج المقهى.

فجاء الفتى العامل (القهوجي) وقال: تفضلا بالداخل فبالخارج الأمطار والبرد.

فأومأ عزيز بالرفض قائلًا بتأكيد: لكننا نريد الجلوس هنا.

جلس عزيز ثم أشار لجمال فجلس هو الآخر على مضض واضطر الفتى أن يحضر منضدة صغيرة.
ثم سألهما: ماذا أحضر لكما سيدي؟

أجاب عزيز: بالنسبة إليّ قهوة مظبوط، ماذا عنك؟
موجهًا حديثه لجمال.

فأجاب باقتضاب: شكرًا لا أريد.

فلم يلح عليه عزيز وأشار للفتى بالذهاب، ثم أشعل سيجارته وسط نظرات غضب تكاد تتحول إلى حقدٍ من جمال، فانتظره ربما يبدأ بالكلام أو يقول أي تعليق لكنه ظل صامتًا وقد بدى عليه التوتر والقلق لدرجة قد تفاجأ بها عزيز نفسه.

لم ينكر جمال تأثير صيحة عزيز المفزعة له، فقد فَقَدَ ثقته بنفسه فجأة.

وبعد فترة من الصمت... وقد وضع الفتى (القهوجي) صينية القهوة وقام بصبها في كوبٍ زجاجيًّ صغير، فأومأ عزيز له شاكرًا.

ثم التفت إلى جمال وتسآل بهدوء: من أين نبدأ؟

فأجاب جمال متصنعًا الثقة: أنت من تريدني!

- علمت أنك غير مرحّبٍ بي كخاطبٍ لأختك، ربما لعدم انتظار حضورك وقت مجيئي مع أهلي، فأعتذر لك مقدمًا فهو خطأ غير مقصود، أقصد غير مقصود تجاهلك.

- لكن ليس هذا هو السبب الوحيد.

إذن تفضل واشرح لي أسباب عدم قبولك.

- أنت لا تليق بنا.

- وهذا بسبب؟

- لأني لن أزوج أختي لكافر يتبع حكومة كافرة، ووفر على نفسك أي قول لأني أحفظ كل ما ستقوله.

- أليس من يُتهم بتهمة يحتاج للدفاع عن نفسه؟!

فسأله جمال بتهكم: وماذا ستقول؟! فأنا أحفظ كل ما ستقوله عن ظهر قلب.

أجاب عزيز بصرامة: لا!  إسمحلي إذن لأنك لست بحافظٍ ولا مدرك لأي شيء من الأساس، بدايةً من الذي سمح لك وأعطاك حق اتهام الآخرين بمثل هذه التهمة؟! على أي أساس تتهم الناس بالكفر؟ هل تجدهم يسجدون إلى الشمس مثلًا؟ أو ربما يعبدون النار؟ أم ترى كل مواطنٍ عاكفًا على صنمٍ يعبده ويقدسه؟!

فزفر جمال قائلًا: لا ، لكن...

فقاطعه عزيز: لكن كلنا موحدين.

فأكمل جمال باستخفاف: توحيد باللسان!

- وليس من سلطتك أنت ولا أي بشر آخر الكشف عن قلوب الناس ولا نواياهم، وحتى لو كان من أمامك موحدًا فقط بلسانه.

لكن ينبغي علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

-  الأمر بالمعروف هذا عندما يكون هناك سلوك معين فتقدم نصيحتك وقتها وبالحسنى وهذا فقط مقدار سلطتك، لكن لا سلطة لبشري أن يحكم بالكفر ويحل دماء آخرين، وحتى لو من كان أمامك عاصٍ فما يدريك؟ ربما يتوب قبل أن ينتهي عمره، ماذا؟! ألم تسمع عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة؟! وأن هناك الكثير من العصاة ثم يُختم لهم بحسن الخاتمة، ثم أن الحكم على البشر ومصائرهم من الكبر المنهي عنه؛ لأن الكبر صفة لا توجد إلا في الذات الإلهية ونهى الله أن يتخلق أحد خلقه بها، فنحن جميعًا سواء، مخلوقين من تراب، نأكل من تراب وآخرنا إلى التراب، فلا تمييز لبشرٍ على غيره ليتكبر عليه ويسمح لنفسه بإصدار مثل هذه الأحكام وكأنه قد علم الغيب!
وأنت تتهمني بالكفر لمجرد أني أعمل كضابط!

فسكت جمال، فأكمل عزيز: من أمامك قد شارك في حرب ٦٧ وحتى وإن كنا هُزمنا فيها لكن قد قاومنا لآخر ذخيرة كانت معنا، رأيت الموت وتساقط زملائي أمام عينيّ تحت قذائف العدو، سرت في الصحراء أيامٍ وأيام بين التعب والخوف والألم، وبعد فترة شاركت في بعض العمليات العسكرية في حرب الاستنزاف، وقد شاركت على الجبهة قبل الحرب وفي العبور العظيم، أليس ذلك كله جهاد في سبيل الله؟!

- ثم وضعتوا أيديكم في أيدي أعدائكم!

-  معاهدة السلام ما هي إلا حل دبلوماسي لحقن الدماء واسترداد باقي الأرض، لكن تبقى القلوب مغلقة على ما بداخلها فلن يحبونا يومًا ولن ننسى إجرامهم المستمر.

-  ولماذا تقف الحرب أصلًا؟!

-  الأجيال القادمة غير موثوق فيها؛ فالأخلاق في انحدارٍ مستمر والكل صارت تهمه المادة والمال والمصالح ويسعى من أجل تحقيقها بشتى الطرق حتى ولو باع من قيمه وأخلاقه ودينه، ترى ما الذي سيمنعه أن يبيع أرضه أو حتى تكون آخر اهتماماته؟! حتى وإن كانت تلك المعاهدة ينقصها الكثير، لكن الحل ليس بتلك الطريقة أبدًا.

- إذن لماذا أنت لازلت معهم؟!

-  أراك تعود لنفس النقطة وتحكم على الناس بالكفر، ألم تسمع عن حكاية الصحابي الذي كان في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طارد مشركًا وقاتله حتى عندما حاصره تمامًا نطق الرجل بالشهادتين لكن الصحابي شك في توحيده فقتله، و لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنّفه لأنه تجرأ وحكم على ما بداخل قلبه إن كان مؤمنًا بحق أم لينجوا بحياته بنطقه للتوحيد، ومن وقتها لم يرفع ذلك الصحابي سلاحه في وجه موحد مهما بلغ فعله، إن القتال في سبيل الله لم يُشرّع إلا ليقاتلوا الذين قاتلوهم من الكفار أي بدؤا بالإعتداء، حتى في الفتوحات الإسلامية لم يقاتلوا إلا من يعتدي عليهم بشرط ألا يكون طفلًا أو شيخًا أو امرأة، أما الجهاد في سبيل الله فليس فقط بالقتال، فطلب العلم من الجهاد في سبيل الله؛ فطالب العلم في سبيل الله حتى يرجع، وقد تفضلت وتركته.

فقال جمال بتهكم: كأنك تقنعني بأن الحياة وردية وكل شيء يحدث بما يرضي الله والحكومة رشيدة وقراراتها رزينة!

عزيز بجمود: لا.

- إذن فالحق معنا.

- لا! فالحكام ما هم إلا صورة للشعب، فإن فرط الشعب في أخلاقه وقيمه ومبادئه لن يجئ أبدًا حاكم عادل، وربما حتى لو كان عادلًا فسيتغير للأسوأ، هذا وعد الله ومهما اعترض الكثير فهو يهب الملك لمن يشاء ويعطي الحكم لمن يريد، ومهما انقلب الشعب على الحاكم ليعزلوه و يولوا غيره لن يتغير الحال أو يأتي الأفضل إلا بعد أن يتغيروا هم أيضًا.

إذن هل تعني أن نقبل الظلم والطغيان بمنتهى الهدوء؟!

- نبدأ بلب المشكلة وليس بظاهرها، فليبدأ كل فرد بنفسه ويؤدي دوره على أكمل وجه بحق ليس ليثبت لمن حوله ويريه أنه يتعب ويجتهد بلا فائدة؛ فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا، نتمسك بالأخلاق والدين كما ينبغي ليس مجرد صورة وهيئة فقط بل قلبًا وقالبًا، وبحسن خلق وحسن معاملة، عندما نعدّل من أنفسنا ونعمل ونجتهد بحق وقتها نكون واقفين على أرض ثابتة تمتد جذور أخلاقنا وديننا داخل الأرض تثبتنا، وقتها فقط ستتعدل الأحوال.
ولتعلم جيدًا من يتخذون من الدين ستارًا وقناعًا لأعمالهم، فهم لا يقصدون إلا الدنيا والوصول للحكم وإراقة الدماء؛ لأن كثرة الانقلابات تعني إيقاظ الفتنة، ويخدعوك أنك مجاهد في سبيل الله وأن الجنة تنتظرك، إذن فلماذا لم يذهبوا هم ليدخلون الجنة؟!

نظر إليه جمال يبحث عن أي ثغرة يهاجمه منها، فأكمل عزيز: أنت أذكى من مجرد أن يخدعك أي شخص ببعض الأفكار التي لا صحة ولا أساس لها، إرجع إلى حياتك وانوي التغيير من داخلك وتذكر جيدًا أننا خلقنا لنعمر الأرض ونعيش فيها بما يرضي الله وليس لنريق الدماء ونزهق الأنفس أيًا كانت ديانتها وإعتقادها لأنه ليس من دورنا أن نحكم ولا ننفذ الحكم، ربما يمكن لك أن تقدم النصيحة فقط، وإياك يومًا واحذر كل الحذو أن تدنس يديك بدم إنسان! وأقول إنسان دون تمييز لعرقٍ ولا دين.

فنهض عزيز واقفًا واضعًا حساب القهوة على المنضدة وغادره.

NoonaAbdElWahed

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top