( يوم معرض الكتاب)
بقلم نهال عبد الواحد
إنّ الحبَّ الأول في الحياة غالبًا لا يُنسى، ومَن يقول غير هذا فهو يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين، لكن لأكون صادقةً مع نفسي يجب أن يكون هذا الحبّ حبًّا صادقًا فمن المستحيل أن يحبّ الإنسان مرّتَين بصدقٍ؛ فشعور الحبّ الأول مستحيل أن يتكرر، فيه تحرّكت المشاعر وخفق القلب لأولِ مرّة. كنتَ أول بذور الحياة في صحراءِ قلبي الذي لم يعرف الزّراعة قبلك، لكن...
عُدتُ من شرودي ونفضتُ أفكاري الحمقاء بينما كنتُ أُمشّط شعري وإذا بيدي امتلأت بشُعيراتي المتساقطة، فتنهّدتُ بحزنٍ وأنا أتذكّرُ شعري في السّابق وقت كان أكثر طولًا وكثافة ساترًا ظهري كلّه، لكن...
لكنّي في نفس الآن زفرتُ بغضبٍ متذكرةً أحزاني وآلامي وكلّ ما مررتُ به وما أمرُّ به حتى اليوم من عدٍّ للأنفاس...
مددتُ يدي في إحدى الأدراج بنفس انفعالي، أخذت المقصّ وقمتُ بقصِّ شعري حتى لامس كتفيّ، نظرتُ بين هيئتي وبين خصل الشّعر المقصوص وأنا ألتقطُ أنفاسي، غير مصدّقةٍ ما فعلته فزفرتُ بضيقٍ. وبعد قليل وضعته على لوحة التّزيين ثمّ جمعتُ شعري للخلف واضعةً حجابي بعناية، عليّ الذّهاب إلى معرض الكتاب؛ فاليوم حفل توقيع آخر رواياتي ومعها ما سبقتها من رواياتٍ سابقة.
أمسكتُ بالكحلِ ثمّ تراجعتُ في نفس اللّحظة؛ فلا طاقة لديّ لوضع أي زينة، خاصةً بعد أن لمحت ثغرة جديدة احتلت جبهتي بوقاحة، زفرتُ بهدوءٍ كأنّها جبهة غير جبهتي، فعلى أي حال قد غادرني جمالي ونضارتي بلا رجعة، فقط سحبتُ سترتي تحسّبًا لأي تغيّر فجائي في حالة الطّقس.
وبالرّغم من أهمية اليوم بالنّسبةِ لي ككاتبة، لكن لا زال عقلي عالقًا فيما حدث بالأمس -إن كان قد حدث- لا أصدق نفسي أنّي لا زلتُ بسذاجةِ مراهقتي أعيشُ فقط في أوهامي وتخيّلاتي التي لم تفلح كتاباتي حتى الآن من التّخلّص منها، لكنّي في نفس الوقت أستمرُ في دفعه عنّي؛ فالحبّ والمشاعر الجيّاشة هي فقط لأخطّها بقلمي ليس إلّا.
خرجتُ من بيتي وأنا في حالٍ ليس بأفضلِ شيء، هبطتُ الدَّرج على قدميّ لكن استوقفني صوت فتح أحد الأبواب! إنّه هو! نفس الشّعور، التِّيه والخفقان! ثورة فوضى عارمة اجتاحت دواخلي، أغمضتُ عينيّ ثمّ فتحتهما عدة مرّات، فهمستُ بصوتٍ مسموع: إذن لقد كنتَ أنتَ بحقٍّ!
فردَّ هو الآخر بحالةٍ لم أعهده عليها: بل أنتِ هي الحقيقة، مَن رأيتُكِ في الشّرفة ليلة أمس وظننتُ أنّي أُهذِي وأنّها مجرد تهيّؤات!
إذن هو الآخر رآني ليلة أمس! لكنّه أخرجني من أفكاري متسائلًا باندفاعٍ تلقائيّ طلّت من ثغراته أشواقه: كأنّكِ بتِّ في بيت والدَيكِ ليلة أمس! وإلى أين تتجهين الآن؟ اليوم الجمعة قبيل وقت الصّلاة بقليلٍ؟
حاول لملمة كلماته الملهوفة -للأسف لم أتوقف عن هرائي وتحليلاتي المندفعة- فأجبتُ بتلقائية: لا، أنا عُدتُ للعيش هنا مع والديّ مذُ طلاقي...
قُلتُها مندفعة كعادتي دون أن أفكّر فتوقّفتُ فجأة لدرجة اصطدمت أسناني ببعضهم وأنا أُغلق فمي بالإكراه لدرجة عضضتُ لساني بالفعل، لكن ملامحه المتفاجئة حدّ الصّدمة حالت دون ذلك فسألته على الفور: ماذا بك؟ هل أنت بخير؟
اختفت تعبيرات وجهه وصارت كلّ تقاسيمه السّمراء مبهمة، لكن لفضوله رأي آخر فقال بأسى: كيف حدث هذا؟ كنتُ أدري أنّكِ تعاني من خطبٍ ما.
تفاجأتُ بقوله فعقدتُ حاجبيّ وسألته بدهشة: تدري! ممّن دريت؟
مسّد على لحيته السّوداء المهذّبة وأجابني: لقد شاهدتُ لكِ لقاءً تليفزيونيًّا منذ فترة، ككاتبة مشهورة وشعرتُ وقتئذ بكمّ السّعادة والفخر بكِ لكن لم يخفى عليّ حزنك السّاكن عينَيكِ وهذا الشّجن المستعمِر كلّ إنشٍ في وجهك، حتى نبرة صوتك، فتّشتُ بعدها في تطبيق اليوتيوب ربما لكِ لقاءات أخرى، وقد كان وشاهدتُها جميعها، وجميعها بنفس الشّجن والبؤس.
تلعثمتُ بشدة وازدادت الفوضى داخلي؛ لم أتوقع يومًا أن يقرأني أحد بهذه الصّورة، لكنّي ابتلعتُ ريقي وأجبتُ نافية: لا أذكر أي شيء من هذا القبيل، مؤكّد قد خُيّل لك.
فأومأ برأسه غير مصدِّق ثم أكمل مبتسمًا: لكنّي رغم كلّ شيءٍ سعيدٍ لما وصلتِ إليه.
فأومأتُ له قائلة: أشكرك.
لكن فضولي الغبيّ لم يكفّ عن حمقه ووجدتُني أسأله: تُرى كم معك من الأبناء؟
تنهّد وأجاب: ليس لديّ أبناء...
قالها ففكّرت في أي تعبير لأُواسيه لكنّه أكمل: لأنّي لم أتزوج من الأساس.
لكنّي مرّة أخرى لا أصمت وتابعتُ مسرعة: لكنّي سمعتُ أنّه قد حُدّد موعد زواجك، حتى أنّ أمّك قد دعت أمّي لتحضره هي وأبي لكنّي وقتئذ كنتُ...
وبترت كلماتي مسرعة؛ أصبح غبائي أكثر تضخّمًا، فكرتُ سريعًا في جملة طبيعية فقُلتُ: أقصد كان ذلك مذُ عدة سنوات لهذا توقّعتُ أن تكون رُزقتَ بأبناء، لكن تُرى لماذا لم تتمم زيجتك؟
أطال النّظر إليّ فلم أعد أستطيع إبعاد ناظريّ عنه خاصةً وأنا مطمئنة إلى هذه النّظارة الشّمسية، لكنّي نسيتُ أنّ عدساتها فاتحة اللّون، أي أنّ عينيّ واضحتان!
لكنّه أجابني بنفس نظرته التي بعثرتني: لم أستطع، وفي كلّ خِطبة لم أستطع تكملتها حتى اقتنعتُ أنا وأهلي أنّي لن أفعلها مجددًا...
فأومأتُ برأسي دون أن أعقّب، لكنّه أكمل: إلّا في حالةٍ خاصة.
بالطّبعِ لم أعقّب مرّة أخرى، فقط أطلتُ النّظر إليه مثلما فعل، لكنّي استعدتُ نفسي بعد لحظات... أو هكذا خُيّل لي، نظر في ساعته وسألني: لأين ستذهبين الآن؟
أجبتُ: إلى مقر معرض الكتاب؛ اليوم لديّ حفل توقيع لكلّ أعمالي السّابقة مع عملي الجديد.
فقال بعمليةٍ فاجأتني: حسنًا، نكمل حديثنا في الطّريق؛ كي لا تفوتني صلاة الجمعة.
فتساءلتُ: أي طريق؟
-سأُقلك إلى مكان المعرض بسيارتي.
-لكن...
-هيا كي لا نتأخر! لا أرى مجالًا لقلقك.
-تدري أنّي مُطلّقة وتصرفاتي دائمًا تحت المجهر.
-تتحدثين عن سلوكيات مندثرة!
فتنهدتُ بضيقٍ قائلة: لا، ليست مندثرة، بل موجودة وأحياها كلّ يوم وكلّ لحظة مذُ طلاقي، ممنوع الخروج والدّخول، ممنوع الزّيارات... وقائمة ممنوعات طويلة لا تنتهي فقط لأنّي مطلّقة بالرّغم من أنّ والديّ يعلمان الحقيقة حق المعرفة وكيف عانَيتُ و...
ومرّة أخرى بترتُ كلماتي وصمتُّ فجأة وتجمّدتُ في مكاني وأنا أحاول إيجاد مبرر مناسب لثرثرتي الغبية، لكنّه قارئ منقطع النّظير، فقط أشار لي لأتبعه فتبعته.
ركبنا السّيارة وتحرّكنا لكن لاذ الصّمتُ تمامًا، بالنّسبةِ لي كنتُ غارقةً في أفكاري التي حالت دون التّفكير في أي شيءٍ آخر؛ فهذا اللقاء لم يخطر ببالي أبدًا والأغرب كأن لم تمرّ أي سنوات، كأن آخر لقاءٍ لنا كان بالأمس، نفس التّلقائية والأريحية في الحديث، أتذكّر جيدًا لم نكن نبدأ لقاءاتنا بأي تحية أو أي أسئلة من طبيعة «كيف حالك؟» أو نختمه بـ«إلى اللّقاء»، بل ندخل في الحوار دائمًا بصورةٍ مباشرة، لكنّنا كنّا آنذاك مجرد مراهقَين في المرحلة الإعدادية أو الثّانوية.
والأهم من كلّ هذا، ما هذه المشاعر التي احتلتني فجأة؟ أم كانت موجودة ومتوارية حتى عن نفسي؟ لكنّي كنتُ أدري أنّي أُحبّه، لا، لم أكن يومًا متأكدةً من حقيقة شعوري أو شعوره وإلّا فلماذا تزوّجتُ غيره؟
رجاءً حياة اصمتي وأَسكتي فوضى أفكارك، انتبهي لنفسك ولهذا اليوم الهام، ظهور مراد وعَودته مرّة أخرى في حياتي لم يكن إلّا مصادفة؛ نحن لم نتعامل يومًا من منطلق كوننا عشّاقًا بأي صورة.
لا تكذّبي حِدسك، نظراته ونبرة صوته لم تكن عادية أصلًا، لكن حياة انتبهي، في نفس الآن حِدسك هذا أحمق ودائمًا يوقع بكِ في شرِّ أعمالك، عليّ الآن أن أستعيد هدوئي وأفكّر فقط في يومي.
وصلنا إلى مكان المعرض فترجّلتُ من سيارته وهمستُ شاكرةً له ثمّ انصرف وأنا غاضبة؛ فقد كان طلبه لنكمل حديثنا في الطّريق، وهاهو ظلّ صامتًا طوال الطّريق.
غابت سيارته عن ناظريّ ولا زلتُ أستشيط غضبًا، فجلست جانبًا على سورِ البحرِ أحاول تنظيم أفكاري ولملمة نفسي واستعادة اتزاني. وبعد نهاية شعائر صلاة الجمعة وقلّ الازدحام المنتشر بالأرجاء تنهدتُ ونهضتُ لأعبر الطّريق متجهةً إلى مقر معرض الكتاب.
دلفتُ داخل المكان، تجوّلتُ قليلًا حتى وصلتُ إلى جناح الدّار التي أتعامل معها فرسمتُ ابتسامةً مستعارة تخالف دواخلي المبعثرة، حيث تواجد اليوم صاحب الدّار وعددٍ من الكُتّاب والكاتبات مَن لهم حفلة توقيع اليوم، سلّمتُ على الجميع وتجاهلتُ نظرات صاحب دار النّشر المتسائلة، ألهذه الدّرجة تسلّلت بعثرتي وتصدّرت ملامحي؟!
حاولتُ أن أنغمس بالأجواء حيث ازدادت أعداد القرّاء والزّائرين، اندمجتُ أخيرًا وسطَ الأحداثِ، وقّعتُ عددًا لانهائيّ من الكتبِ وأنا فخورة بنفسي، لكنّي أُدرك جيدًا أنّه مجرد شعور مؤقّت وسرعان ما يختفي مع مغادرتي للمعرض وأجواء المتابعين والتقاط الصّور.
تجوّلتُ بعدها وسط الأجنحة المختلفة بعد اقتنائي لعدد لا بأس به من الكتب والرّوايات وبمجرد خروجي من بوابة المعرض وجدتُه واقفًا حاملًا عدد من الكتب في مقدمتها روايتي، أفلتُّ عينيّ من الكتب ورفعتُها إليه وهمستُ بفجأة: مراد!
ابتعلتُ ريقي بتوترٍ مجددًا، لم أتذكر أنّي لمحته بالدّاخل فمتى وكيف تواجد بالجناح واشتراها؟!
فرجتُ شفتيّ لأسأله لكنّي سقطتُ في بحر أفكاري وتساؤلاتي المبعثرة؛ فلم يكن ذلك سؤالي الوحيد فبادرني قائلًا: اسمحي لي بالحديث قليلًا.
أجبتُه بصوتٍ كاد يتلاشى: لماذا؟ السّاعة الآن الخامسة وعليّ أن...
فقاطعني: لن أتسبب لك في أي تأخير.
زفرت ُ قائلة: إذن تفضّل الآن وبسرعة، ولا تخبرني أنّك تودُّ الحديث معي وأنت تقلني إلى البيت.
فأومأ برأسه نافيًّا: اطمئني لن أفعل...
فأُصبتُ بالحرج فجأة؛ كأنّي من طلبتُ منه ذلك وهو مَن رفض! إلى متى تتركي الحديث ينسكب منكِ أيّتها البلهاء؟ لكنّه أكمل: الآن.
لا زلتُ لم أفهم، كم بدوتُ أكثر حمقًا! هكذا شعرتُ، لكنّه تابع حديثه: سنتحدث قليلًا ثمّ أتركك تعودين إلى البيت في سلام.
فقُلتُ على مضض: تفضّل.
فأشار بيده نحو إحدى المحلات التي تقدّم المشروبات (كافيتريا) قائلًا: إذن فلتتفضلي بالجلوس معي قليل من الوقت.
قالها وتحرّك نحو المحل دون أن يسمح لي مجالًا للرّفض أو حتى المناقشة فتبعته بتثاقل -حقًّا لا أفهم نفسي-
دخلنا إلى ذلك المحل وجلسنا بالفعل فطلب لنا فنجانَين من القهوة ثمّ لاذ الصّمتُ مرّةً أخرى لدرجة بدأتُ أشعرُ بالمللِ، لكن لن أبدأ بالحديثِ مهما بلغ طول مللي؛ فهو مَن طلبَ مقابلتي وعليه أن يتحدّث، وعلى أيّة حال لن أنتظر المزيد من الوقت فقد...
فقاطع أفكاري صوت شهقته ثمّ قوله ناظرًا إلى هاتفه الذي يضئ معلنًا عن وجود اتصال: يا إلهي! كلّ هذا العددِ من المكالماتِ الفائتة! قد نسيت أنّي جعلتُ هاتفي في وضع الصّامت، إنّها أمّي!
فأومأتُ دون أن أعقّب وتابعتُ حواره وأنا أعبثُ في أحد الكتب التي قمتُ بشرائها: أهلًا أُمّي... أعتذرُ منكِ بحقٍّ؛ فقد نسيتُ الهاتف في وضع الصّامت منذُ الأمس... بتُّ في الشّقة، غلبني النّعاسُ فنمت...
هنا التفتُّ نحوه فبدت لي ملامحه شاحبة ومُرهَقَة خاصةً ما أسفل عينَيه وفي هذه اللحظة التفتَ لي فأبعدتُ ناظريّ عنه وبدأتُ أشرب قهوتي حتى أنتهي منها وأغادرُ فورًا.
سمعتُ بقية كلامه: سأشرحُ لكِ عند عودتي إلى البيت... بعد قليلٍ إن شاء الله... أكلتُ! نعم تذكّرتُ، قد أكلتُ واحدة من (الكرواسون) مع فنجان من القهوة... باللّه عليكِ كفاكِ غضبًا يا أمّي! سأعود وأتناول كلّ ما تريدين... إلى اللّقاء يا غالية.
تنهّد واضعًا هاتفه جانبًا، لكن فضولي الغبيّ كعادته دفعني لسؤاله: كيف بتَّ في شقّةٍ مغلقةٍ منذ سنوات؟ من أين لكَ بفراشٍ؟ بل كيف بتَّ فيها وهي مغبّرة هكذا؟!
فابتسم فجأة فارتبكتُ ثمّ أجاب: نفس أسئلة الغالية نبع الحنان...
فقلبتُ عينيّ بضيقٍ فضحك ثمّ قال: عندما دخلتُ الشّقة اتّكأتُ على أريكة كانت موجودة نزعتُ غطاءها وقبل أن يغلبني النّعاسُ تمامًا خلعت سترتي وسحبت غطاءًا والتحفتُ به.
فأعربتُ غير مصدّقة: شيءٌ منطقيٌّ للغاية أليس كذلك؟! شخص يذهب إلى شقّة مغلقة لأيّ سبب، وبدلًا أن ينتهي بسرعة يجلس ويتكئ!
فقال: إن شَغَله شيءٌ ما.
فازداد ارتباكي وتسارعت نبضاتُ قلبي وتمنّيتُ لو لم أسأله عن أي شيء، لكنّه تابع: تدري جيدًا أنّي رأيتُكِ بالأمس...
وقبل أن أتصنّع الإنكار أكمل: لا تحاولي الإنكار فأنا أدري أنكِ تدري، مثلما تدري أنّي أدري.
فنبستُ: لغز!
-بل حقيقة تعرفيها جيدًا، في السّابقِ كنتُ أراكِ دائمًا تقفين في شرفتك وكثيرًا ما خُيّل لي أنّكِ تقفين من أجلي، لتنتظريني أنا، لكن وقتئذٍ كنتُ في المرحلة الثّانوية ويصعب عليّ تصديق خرافاتي، حتى تركنا البيت وانتقلنا إلى آخر، زاد تصديقي بهذا الحدس، بل تعلّقتُ بك وتمنّيتُ لقاءك وزاد الحنين إلى بيتنا القديم وأيامٍ خلون لن تتكرر، كانت أمّي تهاتف أمّك من حينٍ لآخر وقد علمت كثرة من طلبوكِ للزّواج، غضبتُ وزادت مخاوفي، تحدّثتُ بشأنك لوالديّ لكنهما رفضا لأنّي كنتُ لا أزال طالبًا وعليّ الانتظار حتى التّخرّج وإنهاء خدمتي العسكرية والحصول على فرصة عملٍ ثابتة وأن أكون مستعدًا لكلّ متطالبات الزّواج ومسؤولياته، حتى تفاجأتُ بخبر زواجك، لم أعرف حينها أحزن أم أغضب! فنحن لم نتحدّث في السّابق بهذا الشّأن، لم نتحدّث بحقيقة مشاعرنا، لم نتعاهد على أن تنتظريني أو أي شيء من هذا القبيل...
فتمتمتُ: ليتكَ قُلت.
لكنّ اتسعت ابتسامته فجأة، هل كانت تمتمتي مسموعة؟ وربّ السّماء لم أرَ حماقةً قط هكذا، فتسرّعتُ قائلةً: ما الذي تقوله؟ لا أفهم شيئًا! عن أي مشاعر تتحدّث؟
فضحك بملء صوته قائلًا: إياكِ وحركاتِكِ هذه! فلن تنطلي عليّ.
فزفرتُ بحنقٍ من تصرّفاتي الغبية التي تزيد الطّين بلّة، لكنّه أكمل: بعدها تابعتُ حياتي وعملتُ وأصبحتُ مسؤولًا، تقدّمتُ لخطبة إحداهن، لكن لم تستمر تلك الخِطبة ولا ما تلتها من خطباتٍ متتالية، حتى كانت آخر مرّة وقد حُدد موعد الزّواج لكنّي انسحبتُ قبل أن أتورّط بزيجة غير مناسبة وأجد نفسي أعيش حياة ليست حياتي، أظلم نفسي وأظلم الطّرف الآخر.
فسألته بسذاجتي الرّعناء: ولماذا؟
فأطال النّظر إليّ دون أن يعقّب، فزاد ارتباكي الدّاخلي حدّ الفوضى، حاولت تغيير الموقف فسحبتُ إحدى رواياتي التي اشتراها من المعرض وقلتُ بنبرةٍ مهتزّة؛ فلم أقوى على استعادة سكوني: لقد اشتريتَ أعمالي دون توقيع أو إهداء...
ثمّ أخرجتُ قلمي وفتحتُ أول صفحة لكن ارتعشت يدي خاصةً مع زوج العيون المتفحّص والمتابع لي، تجاهلتُ كلّ شيء وبدأتُ أكتبُ الإهداء بخطٍ مهتز معلنًا عن توتري بصراحة منقطعة النّظير« إلى...»
لكنّي توقّفتُ بقلمي عند حرف الياء أفكّر سريعًا بما أناديه، وبعد قليل مددتُ الحرف وأكملتُ «إليكَ، أتمنّى أن تنال إعجابك...»
ثمّ وقّعتُ باسمي «حياة»
أخذ الكتاب من يدي وقرأ ما كتبتُ وكرره، وكلّما قال «إليك» لا أدري ماذا أفعل لأتخلص من ربكتي مضافًا إليه خجلي، لكنّه قال بجراءةٍ: ستنال إعجابي، فيكفي أنّها منكِ؛ وكلّ ما هو منكِ بلا شكٍّ رائع.
فقُلتُ متسرّعة: لا أريد مجاملة رجاءً.
-لا أُجاملك؛ فهي ليست أول مرة أقرأ لكِ، أو أرى نفسي وسط سطورك وأحداثك، ذلك الشِّق الخفيّ، كنتُ أظنُّ أنّه سوء فِهم مِنّي، لكنّي تأكّدتُ اليوم أنّ كلّ ما شعرتُ به حقيقة وعليكِ أن تتأكّدي أنتِ أيضًا، لم نتوهّم يومًا، فأنا لم أصمد في أي خِطبة، لم أستطع التّخلص من طَيفك، لم أقوى على تحمّل الطّرف الآخر، لم تكن علاقتنا أو حديثنا بهذه التّلقائية والسّلاسة، كأنّنا لم نفترق إلا عشيةً وضحاها، ومجرد اللقاء استيقظت كلّ المشاعر وتحررت أخيرًا، لا تنكري فأنتِ أيضًا لم تكملي زواجك بالإضافة إلى معاناتك.
فقلت: كنتُ غبية.
-إذن فدعينا نحقق ما تمنيناه، هيّا نسترد عمرنا المسلوب فيكفي ما ضاع منه؛ نحن خُلقنا ليكون كلٌّ منّا قدرًا للآخر، فأنتِ هي حياتي من خُلقت من ضلعي، سأجئ إليكم بصحبة عائلتي ونتزوّج.
فأردفتُ بفجأة: ليس الأمر بهذه البساطة.
فأسرع قائلًا: بل هو أبسط من هذه البساطة.
-كيف؟ كأنّك قد نسيت أنّي مجرد مطلّقة! مراد، لقد افتقدتُ الكثير من تجربتي الأولى، أنا لم أعد أنا! حتى هيئتي وملامحي، لقد تساقط شعري حتى أنّي ذبحته هذا الصّباح! صارت تتصارع البثور على وجهي ما تغادر واحدة حتى يأتي غيرها ويستقر مقيمًا أيامًا وليالي! لقد فقدتُ جمالي وتبلّد شعوري فلم أعد أصلح لشيء.
أطال النّظر إليّ مبتسمًا ابتسامة كادت تفتك بي، ثمّ تحدّث: حياة، أنا أحبّكِ...
يا ويلي! ماذا تفعل بي؟
ماذا؟
قد قالها صراحة! لكن...
فأكمل: تدري معناها! معنى أُحبّكِ أيّتها الكاتبة، مَن تأسر القلوب بسحرِ كلماتِ قلمها الذي يغدق بفيض المشاعر.
فتنهدتُ بهدوءٍ يعاكس الفوضى داخلي ثمّ أجبتُ: لكنّها مجرد كلمات تُكتب لتُقرأ، مجرد تسلية، أمّا الواقع فهو خالٍ منها؛ فالجميع يركض خلف تحقيق المتعة لا السّعادة، وشتّان بينهما كبُعد السّماءِ والأرضِ.
فابتسم وردّ: ربما تكوني محقّة لكن دون تعميم؛ فلا زال هناك مَن يبحث عن تحقيقِ السّعادة، يحبُّ حبيبه ويرجو سعادته لأنّها حتمًا ستمسّه، وها أنا أمامك شخصٌ أحبَّ بصدقٍ بكلِّ كيانه، أمّا عن تغييرك، فمَن منّا لم يتغيّر؟ مَن منّا لم تصيبه الدّنيا بمخالبها على خلاف إصاباتها؟ ما رأيك في الذّهب؟ في حقيقته مجرد حجر لا يلفت أحد، يلزمه المزيد من الطَّرقِ والصَّهرِ والسّحبِ والثّنيِ حتى يصير قِطعًا منقطعة النّظير من الحُليّ، وهذا ما تفعله بنا الأقدار والمصائب، فكلانا قد تغيّر وربما لو لم نتغيّر ما تقابلنا أو انسجمنا معًا بشكلٍ فجائي لم نعتاده من قبل.
أمّا عن هيئتك المرهَقة وإن كنتِ في عينيّ أجمل الجميلات لكن ما تخبّط بكِ ومرّ عليكِ لم يكن بالهين، تدري يا حياة أن النّباتات التي تنمو في أجواءٍ بائسة تذبل سريعًا بعكسِ غيرها التي تنمو في بيئةٍ هادئة فإنها تزدهر وتترعرع أكثر منها بكثير...
ثمّ سألني فجأة: تُرى أيّهما أضعف الإنسان أم النّبات؟
فأجبتُه مؤكّدة: بالطّبع النّبات! ذلك الكائن المسمّى بالإنسان الذي خُلق ليحطّم ويدهس بني جنسه ألا يقدر على دهس وأبادة النّبات؟! اقرأ إن شئتَ قوله تعالى: {... وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
فابتسم بإعجابٍ زادني خجلًا ثمّ قال: بوركتِ وبورك عقلكِ وإثباتاتكِ، لكنّ الرّدّموجود ونطق به لسانك في قوله تعالى: {... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي له حكمة من خلقنا نخطئ ونذنب ثمّ منح لنا فرصة التّوبة -سبحانه- لو شاء لخلقنا ملائكة بلا خطيئة، لكن حتمًا لكلّ واحدٍ منّا دوره الكونيّ الذي لولاهّ ما خُلق...
فأومأتُ برأسي دون أن أعقّب بينما أكمل: نعود إلى سؤالنا الأصلي، أيّهما أضعف الإنسان أم النّبتات؟ لكنّ الإجابة الأصوب هي الإنسان، فتلك النّبتة الصّغيرة الّتي يُخيّل للرّائي أنّها ضعيفة هي في الحقيقة قوية والدّليل قدرتها على دفع طبقات الأرضِ وشقّها حتى تصبح نبتة على سطح الأرض في حين لو دُفن الإنسان تحت سطح الأرض ما استطاع أبدًا دفع ما فوقه ليخرج فوق سطحها، بالإضافة إلى وجود نباتات أعمارها أضعاف عمر الإنسان، فإن كان ذلك المخلوق القوي يتأثر بالجو النّفسيّ ألا تتوقّعي أن يتأثر الإنسان، ذلك المخلوق الضّعيف؟
لذا لا تهمني هيئتك الذّابلة أو شعرك المتساقط -على حد وصفك- لأنّي أُحبّك ومن يُحبُّ يُحبُّ محبوبه كلّه وفي كلّ أحواله وصفاته، إن أحببتُ وقت الرّخاءِ والجمالِ والدّلالِ فقط، إذن فلم أحبُّ يومًا، أنا أحبّكِ دون شرطٍ أو قيدٍ أو محاولة لإعادة بلورتك وتفصيلك على مقاسٍ ليس لكِ من الأساس.
استمعتُ إليه بكلِّ جوارحي، تعالت ضربات ذلك الأيسر حتى ظننتُ أنّه يسمعها، لقد سيطر عليّ بنجاح، هل سأضعفُ مجددًا؟
فتفاجأتُ به يجيبني: أنتِ لستِ ضعيفة، وأنا لا أريدُك هكذا، مَن تخرج من تجربة مريرة ولا زالت واقفة ليست ضعيفة، مَن استطاعت أن تبحث داخلها عن ما يميّزها وتجده وتجتهد فيه محققة نجاحًا ملحوظًا لا يمكن أن يُقال عنها ضعيفة.
ارتبكتُ بشدة ولا أدري إن كان يقرأني هكذا أم أنّي همهمتُ بصوتٍ مسموع؟!
ثمّ قال وهو ناظرًا لي بنظرةٍ أقسم أنّي كثيرًا ما وصفتُها بقلمي دون أن أُصدّق أنّها موجودة على أرض الواقع: حياة، فقط ثقي بي، أعدكِ بحياةٍ تروق لكِ دون مبالغة، فلن أقسم لكِ أن تكون حياتنا وردية، لكن أعدكِ أن أكونَ متفهّمًا محبًّا أطلبُ برفق، أعدكِ أن أكونَ رجلًا يعي جيدًا كيف يحبُّ ويغفر، كيف ينقد الفعل دون إهانة أو نهر لمَن فعله، أعدكِ أن أحقق معنى القوامة الّتي قُصدت ولم يعيها إلا مَن رحم ربُّكِ، حياة، أعدكِ أن تكوني مرآتي التي تعكس حبّي وودّي ورحمتي لكِ إلى مزيدٍ من الحبِّ والاحتواء وكلّ ما هو طيّب...
ثمّ نادى عليّ مرارًا: حياة! حياة! فيمَ أنتِ شاردة؟ ألم يأنِ لكِ أن توقّعي؟ فقد طال انتظارك!
رفعت عينيّ نحو وجهه الباسم الوضّاء رغم سمرته وتلفّتُّ حولي نحو والديّ والمدعويين... ثمّ إلى الورقة الموضوعة بين يديّ منذ فترة... أجل إنّها عقد قراني، واليوم سأُزّف إليه زوجة، لا أُصدّق كلّ ما مررتُ به لينتهي الأمر إلى اليوم، حفل توقيع أيضًا، لكنّه من نوعٍ خاص، سأوقّع على أول صفحة من كتاب حياتي الجديدة، وسأسميه «حياتي مع مرادي».
وبعد أن وقّعتُ وبصمتُ بإبهامي تعالت الزّغاريد والمباركات مع قول المأذون المأثور «بارك اللّه لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير...»
والآن أرددُ بصدقٍ وأنا أقف أمامه مباشرةً لحظة التقاط بعض الصّور وأقولها بصراحةٍ وراحة: إنّ شعور الحبّ الأول مستحيل أن يتكرر، فيه تحرّكت المشاعر وخفق القلب لأولِ مرّة. كنتَ أول بذور الحياة في صحراء قلبي الذي لم يعرف الزّراعة قبلك...
ففاجأني بردّه وهو يطوّق خصري لأول مرّة: ومن اليوم وصاعدًا سأضعُ كلّ خبرتي مستصلحًا قلبك وزارِعه وحاصدًا أجمل المشاعر وصدق الوجدان المطلّ من أفعالك وأقوالك...
فسألته مشاكسة وأنا أسند بيديّ على صدره ثمّ عابثةً برباط عنقه: لأنّك بالطّبعِ أفضل مهندس زراعيّ.
فأومأ نافيًّا ثمّ همس بعشق: بل لأنّي من أحبّك بصدقٍ، حُبّكِ الأول.
تمت🌷
أكتوبر 2021
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top