بعدَ وقتٍ طويل| ٠١
قبلَ أربَع سنوَات تعرَّضت لحادثٍ مأساويّ وعائلتي، لحسن الحظّ لم يمسَّهم أيُّ سوء، كما لو أنَّ الحيَاة صبَّته عليّ كاملًا، وكم سُرِرت لأنِّي حملته بمفردي، حتَّى وإن خيَّرتني بينهما وبيني لاخترتُهما!
استيقظت في المُستشفى، ببصرٍ مشوَّش، يشوبه وميض متتابِع، يشبِه إلى حدٍّ كبير الوَمضات الَّتي أصدَرتها الشَّاحنة، قبلَ أن تصطَدِم بنا، وتقلبَ سيَّارتنا رأسًا على عقب. كانَ الكثير مِن الأطبَّاء مجتَمعين حولي، خارِج حلقتِهم، لمحت والديّ واقِفين والقلق يخيِّم على وجوههم، ذِراع أبي اليُمنى مجبَّرةٌ بالكِلس حتَّى المِرفق، ورأس أمِّي مُطوَّق بشاشٍ طبيّ.
ما كِدتُ أقيم عُرسًا احتِفالًا بنجاتنا من تدابير المَوت، حتَّى ارتَكن بجانِب سَريري طبيبٌ حلوُ المَلامح، كأنَّ أنهارَ الفِردوس تَجري بينَ تَقاسيمه، وبدلَ أن يَسبح الهِلال في المجرَّة، كانت المَجرَّة تسبَح في هِلاليه، أمَّا ثغرُه فصحراء قفار؛ بكلِّ جفاءٍ نعَى لي نبأ إصابَتي في عمودي الفقريّ، واحتِمال خسَارتي لقُدرَتي على المَشي إلى الأبد. كصبيَّةٍ تحترِم الصَّراحَة، والحقائِق، ابتسمت معلنةً عن قُبولي لوَضعي، ورغمَ الغصَّة في حنجرَتي، كظَمت أحاسيسي.
علِمت فيما بَعد أنَّه جرَّاح عِظام، مُختصٍّ في إصَابات العَمود الفقريّ، كان المَسؤول عن حالَتي، وعلى غِرار شخصيَّته العمليَّة الَّتي تفتقِر إلى المَشاعر، والمُراعاة، فإنَّ شخصيَّته الحقيقيَّة دافئة. أمضيت رُبعَ سنة، متعلِّقةً بأملٍ رفيع، يئِس الجميع عن شِفائي، الجميع إلَّاه؛ لمَحت في عَينيه بريقًا من العَزم، كأنَّه اعتَبرني تحديًّا أقسَم أن يكسَبه، وهأنذا أقِف على قَدميَّ أمامَ المُسشفى الجامِعيّ، في يومٍ خَريفيّ متقلِّب، غيّر مزاجَه مُنذ أن استيقَظت مرَّتين، مِن صقيعٍ لاذع، إلى جوٍّ مُشعّ. لم أُجلب إلى هنا كمريضَة، بل أتيت كممرِّضة مستجدَّة، بفضله عثَرت على حُلمِي.
سأَقابِله للمرَّة الأولَى، بعد فراقٍ كالأبَد، أتساءَل كيفَ سيبدو؟ ما النَّظرة الَّتي ستَرقى وجهه حينما أظهَر في دربِه؟ هل سيتعَّرف عَلى مريضَته الَّتي وَعدَته بالزَّواج وهي مُراهقة؟ وهل ستَقبِس شفَتاه من بهجَة قلبِه برؤيتي معافاةً نتيجةً لمهاراتِه؟
بأنفاسٍ مُضطربة، رميتُ أوَّل خُطوةٍ مِن خطوات الدُّخول، واجتَزت البوَّابة الآليَّة. اتَّجهت إلى قسمِ التَّمرِيض في الطَّابِق الأرضيّ، بجانِب الطَّوارِئ؛ أنا أحفَظ جميعَ مرافِق هذا المَبني، مذ أنَّ عمري نزَف عامًا كاملًا هنا، وساعات من العامِ الَّذي يَليه، لأجلِ فحوصاتٍ روتينيَّة. عِند مكتبِ الاستِقبال، لمحت طابورًا أفقِيًّا مكوَّنًا مِن أربَع أشخاص، في ثِيابِهم المَدنيَّة، تتَرأَّسُهم امرأةٌ رشيقَة القَوام، تبدو في العَقد الخامِس مِن العُمر. أصَابني الهَلع حينما ظَننت أنِّي متأخِّرة في أوَّل يوم عملٍ لي، تحتَ ذاتِ السَّقف مع أميري السَّاحر بيون بيكهيون!
نظَّفت دِماغي مِن تخيُّلاتِه الإيروتيكيَّة، قبلَ أن يَبدأ لُعابي في التَّقاطر، وهَرعت نحوَ بُؤرة التَّجمُّع ركضًا، ليسَ لشيءٍ سِوى لأتظاهَر بأنِّي قد بذلت مجهودًا للوصُول إلى هُنا في الوقتِ المُحدَّد... ما إن أدرَكتهم حتى نبست بصوتٍ مُتهدِّج.
«آسفةٌ لأنِّي تأخَّرت.»
انحَنيت عَلى عجلٍ، ما جَعل شَعري الأسوَد الطَّويل يتدلَّى عَلى ضِفاف وَجهي.
«لا عليكِ، الجَميع يشعُرون بالارتِباك في أوَّل يوم عملٍ لهُم، كما أنَّك لستِ آخر الواصِلين على أيَّة حال.»
نغماتُ المُمرِّضة المَسؤولة هوَّنت عليَّ هواجِسي، ما لبِثت وأن اعتدَلت بالوُقوف.
«أنا المُمرِّضة المُستَجدَّة كانغ روثي.»
وكَم شعَرت بالفَخر، حينما قدَّمت نَفسي رسميًا، أمَام الجَميع!
لفَت انتِباهي ضَحكٌ قادِمٌ مِن خَلفي، استَدرت، فإذا بالمَرأةَ الرَّاسية على الحافَّة اليُمنى للصفِّ تُطالِعني باستِهزاء، كانت شاهِقة القدّ مُقارنةً بي، يتخلَّل شعرها البنيّ خصلاتٌ ورديَّة، انطِباعي الأوَّل عَنها سيِّئ جدًا، بجانِبها ممرِّضتان، إحداهُما قزمةٌ مِثلي، بدَت لي مَشروع صديقة مثاليََة، وأخيرًا رجُل أشقر... رجل!!!
هو مِثل الطَّفرة الوراثيَّة بيننا، المِسكين سيشعُر بالوحدة وسط كومةٍ من الفَتيات.
«فلتغيروا ملابسكم، ولتُوافوني هنا من أجلِ تحديد أقسامِكم المُستقبليَّة، كلٌّ مِنكم سينضمُّ إلى قسمٍ مُعيَّن، وذلك وِفق اختيارِكم.»
قبل أن تذهَب في حال سَبيلها قالت مُنبِّهة:
«لا بأس ببعضِ الدَّردَشة لإذهابِ الحَرج، على أن لا تتَعدَّوا حاجِز العشر دقائِق.»
هتَفنا بوقتٍ واحِد، كطَلبةٍ في المدرَسة الثَّانويَّة.
«حاضر.»
إلَّا لساني انتَقى كلمات أخرى!
«هاي هاي كابتن.»
غطَّيتُ فَمي، لعلِّي أنجُو بسُمعَتي المُهدَّدة بالخَطر خِلال طَلائع المَرحلة الجَديدة من حَياتي، لكنَّها اهتَدت إليَّ على الفَور، ورَمقتني بنظرةٍ حازمة، ثنَت ظَهري تلقائيًا. تنفَّست الصُّعداء، حينما غادَرت أخيرًا دون أن تُوبِّخَني لفظيًا.
أخَذنا قِسطًا من التَّعارُف، بعدَ أن فرَغنا من ارتِداء الطَّقم الورديّ الخاصِّ بالممرِّضات، مُكوَّن من جزءٍ علويًّ وتَحتيّ مُتناسِق، ووظَّبنا أغراضنا في الخَزائِن الطَّويلة الَّتي ثُبِّت على كلِّ منها شارة، تحمِل اسمَ أحدِنا، شعرت بالسَّعادة وأنا أتحسَّس اسمي.
تبيَّن لي أنَّ الشابَّة الطويلة الَّتي سخِرت منِّي لطيفة واجتماعيَّة؛ كانت أوَّل من بادَر بالحَديث معي قائلةً أنِّي أروقُها، وبينَما نحنُ الفتَيات نجتاز عتَبة الباب، خرجَ الرَّجل الطَّفرة من الغُرفةِ المُقابِلة لنا، وأخفض رأسه سريعًا، أجزم أنَّه خجول.
اتَّجهت يونهي نحوَه، وقفت أمامَه لثَوانٍ، ثمَّ علَّقت ذراعَها على كتِفه بيسر؛ طولُهما مُتقارِب.
«اسمَعني أيُّها اللَّطيف، لا مَكان للخَجل بينَنا، نحن عائلةٌ واحدة هُنا، لنحرِص على جَعل هذه الدُّفعة لا تُنسى.»
جحظَت عينَاه، وما وَجد حيلةً عدا الإِطراقَ برأسِه مُوافقًا على عرضِها.
«أدعى كانغ يوسانغ.»
لو صنَّفتُنا على حسَب نسبة الانفِتاح، فيونهي في الصَّدارة، أليها أنا، هيمي، ميناه وأخيرا يوسانغ، ربَّما لأنَّه يشعُر بالغُربَة.
انحَللنا في أدوارِنا خِلال ظرفٍ قِياسيّ، حتَّى أنَّ المُمرِّضة المسؤولة شُدِهت لرؤيتِنا ونحن نتبَادل المَزحات السَّخيفة كأنَّنا رِفاق عمر!
حانَت لحظَة الحقيقَة، تجرَّدت الوُجوه مِن الاستِهتار، والتَحفت الجِديّّة.
«هنالِك أماكِن شاغِرة في قسمِ الأمراضِ الدَّاخِليَّة، قِسم الأطفَال، قسم العظ....»
رفَعت يدي بحماسةٍ ما إن شرَع ثغرُها في تِلاوة حُروف أحلامي.
«سأنضمُّ إلى قِسم العِظام.»
أغرقَتني نظراتُها المُظلِمة، ولفرطِ الخًوف اهتزََ صَوتي، بينما أحاوِل إصلاحَ خطأ أجهَله.
«رجاءً.»
«لم أنتَه بعد من تعديد الأقسام المُتاحة لكم آنِسة كانغ.»
أخفَضت يدي بتشنُّج.
«آسفة.»
ظفَرت بما أشتَهيتُه، ربَّما لأنِّي الوَحيدة الَّتي تطوَّعت له؛ يونهي ويوسانغ انحَازا إلى قِسم الأطفَال، في حين اصطَفت الفَتاتان الأُخرَتان قِسم الأمراضِ الدَّاخليَّة، ولكِنَّ ذلِك لا يَعني أنَّنا سنَنفصِل، جميعُنا سنؤول إلى المَكانِ ذاتِه بينَ الجولةِ والجَولة، في حَالة ما إذا لم يتمَّ استِدعاؤُنا طبعًا.
كممرِّضِي غُرفَة العمليَّات، مهامُنا تشمُل العِناية بالمَرضى قَبل وبَعد الجِراحَة، ما يَعني أنِّي سأتكلَّل برُؤية بيون بيكهيون في مُعظم الأَوقات، وخِلال كلِّ مُعاينَة... كُنت أبتَسِم كالبَلهاء، حينَما سمِعنا لحنًا بشريًّا غير مألوف.
«لاشكَّ وأنَّكُم الدُّفعَة الجَديدة من الممرِّضين!»
سلَّط الجَميع انتِباهَهم على المرأةِ الحَسناء الَّتي ارتكَنت إلى المِنصَّة المُحيطَة بنا للتوّ، اسمُها مكتوبٌ على صدرِ مِعطفها الطِبيّ؛ الدُّكتورة أوه.
«لا أحَد مِنكم رمَى بنفسِه في قِسم تقويمِ العِظام والعَمود الفقريّ أليسَ كذلك؟»
فجأةً تغيَّرت قِبلتهم ناحيتي. ما لبِثت وأن تلَعثمت.
«أنا فَعلت!»
«فلتَرقُدي بسلامٍ عزيزَتي، لأنَّك ستَعملين مع الدُّكتور بيون بيكهيون.»
وهل يفترضُ بذلِك أن يُخيفَني؟
«أمزَح فقَط، فلتَحرِصي على تَفادي الأخطَاء، وستَكونين بِخير.»
انصرَفت بعدَ أن فحَّت سُمومَها في سيرة مُنقِذي، ليسَ وكأنِّي جاهِلةٌ عن طِباعِه الصَّارِمة، وكيفَ ينفعِل ردًّا علَى أبسَط الأخطَاء الَّتي يقتَرِفها طاقَمُه، ولكنَّه ليِّن معَ المَرضى. اليَوم سأختبِر الجَانب المُظلمَ لشَخصِه، وأنا أطمَح لاأنالَ مُعاملةً خاصَّة، بِما أنَّه أصلَحني حينما يئِس الجَميع!
قدمايَ تتحرَّقان شوقًا للرَّكض إليه أينَما كان، غيرَ أنِّي مقيَّدةٌ هنا بانتظارِ أوامِر المُمرِّضة كيم، أخذَ الضَّجرُ يستَولي علَى عَقلي شيئًا فشيئًا، وشَياطيني تُحرِّضني على القِيام بشيءٍ مَجنون، ذلِك قبل أن تلوحَ هيئتُه في آفاقِ بصري، كأنَّه سمِع صَلواتي اليائِسة الَّتي توسَّلت للُقياه الآن وفورًا، زيُّ الجِراحَة يحاصِر جسده مُسطِّرًا ماهيتَه، يرقاه مِعطفٌ طبيّ، يوحي بأنَّه خارِج إطار العمليَّات حاليًّا، ربَّما يؤدِّي مهمَّات أخرى، شخصَ بصري إلى كتفيه العَريضين، وصدره الفسيح، لو وقفَت أمامَه، فلَن أُرَى من ورائه حتمًا، سَحنته لم تتغيَّر ولو قليلًا، ما يزال متجهِّمًا!
كان قادمًا إلى طَاولة الاستِقبال، لأجلِ غايةٍ ما. لم أكترِث لزُملائي المُنتَشرين في نِطاقي، ولا للغُرباء الَّذين يَعِجّ بهم المَكان، بل اقتفَيتُ خَفقاتي، حيثُ سكَبتني بينَ ذِراعيه، دون احتِساب العواقِب.
«دكتور بيون، اشتقتُ إليكَ كثيرًا.»
انفَلتَت منه شَهقَة، حَال ارتِطامي به، لم يعِ من أينَ وَقعتُ عليه كالحُبّ. قَضينا عامَين كاملَين سوِيًّا، بدأً من التَّحضير للعمليَّة، إعادة التَّأهيل، وحتَّى الفُحوص الدَّوريَّة في إطارٍ رَسميٍّ كطبيبٍ ومَريض.
«ما الَّذي تظُنِّين أنَّك تفعَلينَه؟»
اندَلعَت ألسِنتُه الحارِقة، دون أن يُحرِّك ساكنًا، حينئذٍ تناءيت عنه، وبحثتُ عن الحقيقَة في عَينيه بأمَل.
«أنَا كانغ روثي، لا يُعقَل أنَّك قد نَسيتَني عقِب عامين من الفُراق فقَط!»
عبستُ لوهلةٍ بينَما أتَصفَّح وجهه الوسيم الَّذي ما طَرأ عليه أيُّ تغيير.
«ها قد عُدت لأتَزوَّجك كما وعَدتك.»
-
خلص الفصل الاول 💃💃
اشتقت لشخصية البطلة الغبية 😂😂
كامي وشيراز متبرئين منها قسم ما تشبه اي وحدة فينا 😢😢👊
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top