الفصل الثاني


.

.

.

.

تولينا الأعمال، و قبيل الغروب كُنا في كفر عبوش.

كُنت أبحث عن أي هالة لصندوق بريد، حتى إلتقطته عيناي.

لأكون صريحاً غمرتني المَسَّرة حينئذٍ.

تركتُ العجوز في الجرار، بدأ يأخذُ قيلولة مُنتظراً إياي، هذا جيد لا أُريد تحقيقات تجاه ما أفعل.

وصلتُ لوجهتي..و أخيراً.

كان الصندوق صدئ، و رائحته سيئة جداً.

و تراكم فوق غُبارهِ غبار.

بدأت أبحث عن الرقم مزيحاً الغبار بإبهامي.

أعتقد أن تلك كانت المرة الأولى التي أسر لرؤية شئ رث كهذا.

لم أعلم وقتها ماذا بعد؟

انتهت أفكارى كون بالتأكيد الصندوق يُضمر شئ ما.

ركلتهُ.

ركلتُه بقوة، و إستعنتُ بجزع شجرة أيضاً.

لم أستعن بالكثير من الطاقة ليسقط الجدار الأمامي الصغير.

و سقطت رسائلُ...كثيرة.

لم تُرسل قط.

عبثت بيدي في جوفها.

كان الخط في غاية الردائة، و كاد الحبر يضمحل.

تعددت الأسم، لكن الأسم الذي حتماً أرسل أكثر من ثلثي الرسائل بصندوق البريد، كان لشخص يُدعى ' فريد رِزق '.

أرسل رسائل كثيرة، فجأة لم أر سوى أسمائه أمامي.

زادت تساؤلاتي، من فريد رزق ؟ و ما علاقته بزياد؟

و لما قد يُرسلني زياد إليه ؟

وثبتُ لبرهة، زياد لم يُرسلني إليه، لقد انتهكتُ رسائل شخص أخر! لما قد يراسله زياد ؟

عقدتُ حاجباي و انتابتني الغيرة.

فكرتُ وقتها بـلا يُهم الأن، و قررت اقتفاء أثر رزق هذا و العثور على أي معلومات.

فتحتُ اول رسالة حطت عليها يدي، صِدقاً...مُسح الحبر مسحا.

لم أستطيع قراءة كلمة..و لا حتى حرف.

ليس مع هذه الرسالة و حسب، بل كُل الرسائل.

و حين أتمكن من قراءة كلمة وسط عشرين فشلت بقراءتهم.

كانت كلمات لا تُضيف فِلساً من المعلومات.

كانت مثل : رجاءً، العمال، الشهر القادم، انتهى، قريباً.

و أخر ما لفت ذهني كانت كلمة المُرابي.

تبعهُ اسم أحدهم لكن فشلتُ تماماً بإدراكه.

كل هذا لا فائدة تُرجى منه.

لم أصل سوى لإسم شخص قد يكون في بقعة ما على كوكب الأرض، او ربما تحتها.

عُدتُ فارغ القوى و الأمال، حيث أني لم أملك الطاقة في التظاهر بأني أسمع ثرثرة العجوز أجاويد أثناء طريق العودة.

عُدنا لنقطة البداية، أردتُ المغادرة لكن لا أعتقد أن تلك الفُرصة ستتكرر مجدداً، لذا نظرتُ إليه قائلاً : والدي، والدي صِدقي مهران.

كان رد فِعلع غريب، إبتسم إبتسامة صغيرة ليرُد : أعرف.

" تعرف ؟" تفوهتُ بإستنكار.

ليجيبني : أجل، تُشبههُ كثيراً، أرسِل له تحياتي.

ثم غادر العجوز بالجرار دون أن ينتظر مني أي رد فعل.

.

.

.

.

لم أتناول الغداء تلك الليلة، و بقيت نائماً على بطني فوق السرير.

مراقباً ثلاث رسائل لفريد رزق، انتشلتهم قبل المغادرة.

شعرتُ أن ثمة خطب ما.

تمنيت أن أتخلى عن كل تلك الأفكار لكن، بدى لي الأمر و كأني أتخلى عن زياد.

و شعرتُ بالرعب كثيراً كلما انتابتني فكرة اني قد اضيع فُرصة رؤيته مجدداً.

لكن لما الأمرُ مبهم هكذا ؟

لا أعرف كيف كُنتُ أحمقاً لتلك الدرجة، لقد نسيتُ تماماً أقصر طريق لمعرفة من هو فريد رزق!

الشخص التي وُجهت له الرسالة من الأساس!

كانت لحظتها مُنتصف الليل، تمالكتُ نفسي لصباح اليوم التالي بشقِ الأنفس، بصراحة نمتُ كجثة هامدة، رحلة ذاك اليوم كانت شاقة.

و مع أول زقزقة للعصافير، كُنت أرتدي حذائي متجهاً للشخص الذي يُراسلهُ زياد.

كُل معلوماتي عنه أنهُ يسكُن بحي ركشيد، يُدعى زاهي او زاهر لستُ متأكداً.

حتى الظرف أضعتهُ يومها قُرب البحيرة حين فتحته !

وثبتُ لبُرهة أفكر ماذا أفعل، قبل أن أتذكر صبيحة.

تلك العجوز الثرثارة التي تُراقب الجميع طوال ساعات اليوم، سبع مرات في الأسبوع، من جميع الإتجاهات الفراغية الثلاثة.

توقعتُ أن الأمر سيكون صعباً هذه المرة، أعني..

تخلصتُ من طرودهم و ما شابه.

إلتقطتها عيني في الصباحِ المُبكر و كانت لاتزال توضبُ مقعدها لأجل جلستها المُطولة.

ما إن إقتربتُ من حديقتها و حمحمتُ، لتلتفتَ.

وثبت تتعرف علي و ما لبثت حتى انتفضت صائحة : بُني ! هذا أنت ! إشتقتُ إليك كثيراً.

اشتاقت ؟ غِبتُ ليومين.

ألقت نظرة على هيئتي، لاحظت عدم ارتدائي لزي العمل : لما ترتدي هذا القميص، و أين دراجتك ؟ البارحة جاء كهل ليُسلمني طردي هاهاها، هل أنتَ في عُطلة؟

"أجل، نوعاً ما " أجبتُ متغاضياً.

و قبل أن تبدأ في الثرثرة مجدداً صددتها : أتعرفين شخص يُدعى زاهي؟ او باهي ؟ على هذا الوزن، إنه يقطُنُ هنا.

لأول مرة تطبقُ فمها و تُفكر قبل التفوه بأي شئ : هنالك شاب غريب يُدعى ناهي عبد الصمد، يسكُن المنزل الرابع بدأً بالعد من هذا المنزل.

ثم أشارت للمنزل الذي يواجهها.

ناهي عبد الصمد ! لمع في ذهني الخط السئ الذي لم أتمكن من قراءته، بدى واضحاً جداً الأن.

إلتفتُ حيث تُشير، ليس بالبعيد البتة.

ألقيتُ نظرة خلفي ثم تلفظتُ : هل تعرفين شئ عنه ؟

هزت رأسها نفياً قائلة : لا أراه يخرج إلا نادراً.

أومأتُ عوضاً عن التفهم و الشُكر دفعة واحدة، ثم أشرق وجه صبيحة قبل أن تقول : لا تتحرك، سأحضر كعكاً.

و هلَمت إلى المنزل.

بالطبع تحركت و إتجهتُ نحو ذاك الناهي.

توقفتُ أمام واجهة المنزل، كان جدُ قديم و يبدو موحشاً.

تعلمون المستشفيات التي تُهجر لعشر أعوام ؟ بدى نوعاً ما هكذا.

تلجلجتُ قبل طرق الباب، لكن في النهاية فعلتها...عدة مرات.

و لم يفتح أحد.

اليوم الأول

و الثاني

و لإسبوعين !

لا زياد، و لا ناهي ! من يتراسل و اللعنة ! من أين إنبثقت تلك الرسالة؟

عُدت كل يوم مجادلاً صبيحة ! لكنها أصرت أن أحدهم يتواجدُ هناك.

حتى كِدتُ أفقدُ الأمل كُلياً، و كِدتُ أتخلى عن كُل شئ، قبل أن يتحرك أخيراً مِقبض الباب لأول مرة !

لم أصدق لحظتها أن هذا يحدثُ أخيراً..

لم يسعني أي شئ، أنا الأن واقف أمام رجل ثلاثيني شبه عاري، يدخن سيجارة اربع اضعاف الحجم العادي، -او قد ربط خمساً و يدخنهم معاً-، يحتل جسده الكثير من الوسوم المبهمة.

عيناه، منتفختان إثر النوم لعامين - هذا ما بدى-،

يرتدي الكثير من السلاسل،

و رائحته -او المنزل بشكل عام- تبدو تماماً كرائحة القميص المبتل و تكتلت رائحته بشدة.

"ماذا تريد يا صبي؟" بصوت أجش مع إثر بحة ما بادر بالحديث.

ابتلعت غصة بحلقي، لم أُخطط لأبعد من هذا.

"هل حضرتكَ، السيد ناهي عبد الصمد؟"تلفظتُ

لم يرُد حتى، لكن لا أعتقد أن هذا نفي.

لذا تابعت : أتعرفُ شخص ما يُدعى فريد رزق؟

أومأ رقبته على مضض، لكني انتفضت : أتعرف كيف أصل إليه!؟

شعرتُ أنه ليس في وعيه حتى، و يرد على بفُتات طاقة يستجمعها بشق الأنفس.

أجابني ممتعضاً : سيتوجب عليك إذاً نبش المقابر.

أظهرتُ تعبيراً متجهماً ليتابع : ذاك العجوز ماتَ منذُ تسع أعوام، عملتُ في مصنعهِ لفترة، ذاك الجشع.

لم أسمع شئ بعد كلمة 'مات'، أتعرفُ تلك الصفعة التي تُدرك بعدها كل شئ في لحظة.

تلك الصفعة سيئة جداً، ليس لألمها، بل لما يتبعها من وعي.

سِرتُ هائماً على وجهي للمنزل، و تقوقعت مجدداً في الغرفة.

شعرتُ أني ضللتُ الطريق، و بشدة.

أكثر مما يجب حتى، أصبحتُ استثقلُ فكرة مغادرة السرير مجدداً.

لقد فوتُ يومها ميعاد كتابة الرسالة الإسبوعية إلى زياد، و لأول مرة.

عُدتُ لتقاعسي أكثر مما سبق، مع مشاعر غضب عارمة.

كنت حانقاً من زياد، لم يرد على رسائلي سوى مرات معدودة.

و يومَ عاد لركشيد لم يتذكرني بسلام.

و كلامهُ المبهم جعلني أدورُ في دوائر، و لم يكُن موجهاً لي حتى،كُنت أولى بهذا.

تبع هذا السخط غيمة حُزن.

تتطور الأمر إلى حديث سطحي مع أمي حين كانت تُلح علي قلقة.

أخبرتها أني كُنت أبحث عن شخص لم يعُد موجوداً، لم أدر لما إصفر وجهها، لكن حين ذكرتُ إسم فريد رزق، بدأ الأمرُ بسلك مسار آخر

"من أينَ تعرفُ هذا الرجل ؟" تلفظت أمي.

ناظرتها مترقباً مجيباً سؤالها بسؤال : هل تعرفينه ؟

أومأت رأسها قائلة : ليس حقاً، كان مالك لمصنع الزجاج القديم حتى تسع أعوام مضت.

إكفهر وجهي مُتسائلاً : ماذا حدث ؟

قصت لي أمي قصة ذاك الرجل : لقد كان رجلاً رعديداً، رعِش الجسد، لكنه كان مُحنكاً، إمتلك مصنع زجاج مشهور جداً ورثه عن أبيه.

لكن لا شئ يبقى على حاله...غرِق في ديون ضخمة فجأة، و استعان بالكثير من أطراف الحكومة لكن لا فائدة، فقد كثرت ديونه من ديمومة التجار المرابيين الذي تعامل معهم.

في النهاية...تم حجز كل ممتلكاته و مُصادرتها فيما بعد.

حتى خرج لنا منذُ عشر أعوام يُعلن إفلاسه للأسف، و لم يلبث عام واحد ليموتَ من الحَسرة و الأسى.

إكتشفتُ أن أُمي تعرف قدر من الأشياء اللا بأس به، لما لم أجرب الإستعانة بها قط ؟

"لما تسأل عنه؟" سألتني لأتدارك نفسي بـ"لا شئ يذكر"

.

.

.

لم أنَم تلك الليلة أيضاً، أُفكر في كم كانت فكرة بعيدة.

أعني مصنع الزجاج، شئ إلى حد كبير لا علاقة لي به.

او هذا ما ظننت، حين إنتباتني تلك الذِكرى من جديد !

كان هنالك مصنع زجاج قُرب مدرستي المتوسطة، التي إرتددتها أنا و زياد...

خرجت من المنزل في لحظتها، حيث الجميع نيام..إلا الذكريات.

سلكتُ طريق المدرسة حيث إعتدنا، لكن هذه المرة وحدي..ركضاً.

بعد منتصف الليل قبيل بزوغ الشمس.

وصلتُ للمدرسة، لا وقت للتأمل و إسترجاع الذكريات...أين المصنع ؟

سلكتُ طريقاً مُلتفاً حول المدرسة..حتى وجدتُ ذاك البناء الضخم المُظلم.

تريثتُ ألتقطُ أنفاسي، كنت على ثقة شديدة أن زياد هناك، بطريقة ما ينتظُرني.

بطريقة ما...يودُ الحصول علي، كما أودُ الوصول إليه.

ما حجتي؟ ما مسندي؟

لا وقت للتفكير في هكذا تراهات، زياد وراء هذا السور.

تسلقتُ شجرة -تميل على أعلى السور-

لم أنجح مباشرة، سقطُ تسع مرات، و إنزلقتُ العاشرة.

حتى لامست يدي سطح السور، تشبثتُ به بذراعي، و إن إستطعتُ لتشبثتُ بأسناني، حتى..أخيراً...إستقريتُ فوق السور.

أصبح لدي نظرة عريضة لفناء المصنع، الكثير من الخُردة و الأشجار القصيرة،

و ها ذا زياد يُلوح لي.

لا أمزح، لقد رأيته، رأيتهُ بأم عِيناي، كان يضحك بإبتسامة تصِل بين الأُذنِ و الأُخري.

يرفع كِلا ساعديه مُلوحاً في سرور.

لقد كان ينتظرني، مثلما كُنت أسعى إليه.

أعتذر يا زياد، كُنت على وشك الإستسلام في مرحلة ما.

و انا أُسامحكَ علي تجاهلك لرسائلي.

لا بأس الأن، أنا هُنا، و أنتَ هُناك...و خِلال ثوان سيكون كِلانا معاً، يقفُ كلانا مجدداً في نفس البُقعة...منذُ وقتٍ طويل.

مددتُ يدي نحو هيئة زياد عن بُعد و كأني سألتقطته في قبضتي، قبل أن يهوى جسدي من على السور فوق الكثير من الزجاج الذي سحقهُ بدني، و سَحَق بدني.

لا أتذكرُ شئ أخر يخصُ هذا، إستيقظتُ في مشفى، و قد تمت بالفعل عملية بَتر ساقاي بسبب تلف في الأعصاب.

و ها أنا الأن بعد سبع و عشرون عاماً، أرى الصورة كاملة.

كُنت أعاني إضطراب ما بعدَ الصدمة، صدمة موت عزيزي زياد.

لا أتذكر الكثير، و لم أدرك أكثر..

كل ما أعرفه أن أشياء كثيرة بدت واضحة الأن.

....تمت بحمد الله (:


Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top