الفصل الأول
في شبابي، قبل سبع و عشرون عاماً مضت،
فقدتُ كِلا ساقاي.
لم يكُن هنالك من ألوم، لا سائق سَكِر و لا مرتزقة تطلبه العدالة.
لا بمرض وراثي لألوم أبي، و لا حتى كلبٍ نهشني.
لقد إتجهتُ بنفسي نحو الرَدى.
بدأ الأمرُ حين إضطرني والدي للحصول على تلك الوظيفة التي عفا عليها الزمن.
لا، لم أكُن قارئً للتاروت و لا كاتباً للمقالات التاريخية التي لا يقرؤها أحد.
كنتُ ساعي بريد.
بصراحة، لم يرجع الأمر لقلة الوظائف، بل لقلة حيلتي.
لم أكُن اُجيدُ شئَ برُمته.
أعطوني فقط قبعة زرقاء سخيفة، و دراجة ذات بدال يعلق بين الفينة و الأخرى، و بالطبع صندوق مهترئ يحوي طرد و بضعة رسائل.
مبارك أصبحتَ ساعي بريد.
لأكون صادقاً لم أكُن غبياً، انا و حسب لم أر فائدة تُرجى من إهدار طاقتي على الأمور
بلغة أخرى اجل كُنتُ كسولاً.
من الجيد أن دوامي ينتهي بعد تسليم طرود الحي.
و من منظور آخر..لم يعد أحدهم يستخدم البريد
لذلك حفظت تقريبا عدد اشخاص الحي -الذي انا مسؤول عنه- الذين يستعملون البريد بإستمرار.
و أول من كنتُ أستقبل في صباحي فتحي، ذاك العجوز الهَرم
بفمه المُطبق دوماً لسد فراغ وقوع اسنانه جُلها - إن لم يكُن كُلها-
رائحتهُ تشبه البرتقال المتعفن، و لديه جحوظ طفيف لكنه ملحوظ.
اضطرِرتُ لمُلاقته لمرة على الاقل اسبوعياً، تأتيه طُرود كثيرة لذلك تحتم علي قرعُ الجرس.
اسوء ما كان في يومي هو تسليم الطرود، كان علي التعامل مع صاحب الطرد، الذي في الغالب هو عجوز مقزز يضطرني للاشارة لربع ساعة اين عليه التوقيع -على دفتر سجل استلام الطرود-
بقية المنازل كنتُ أقوم بحشر الرسائل في طرف الباب، لا شئ يُذكر.
لكن كان هنالك عجوز تُدعى صبيحة، صِدقاً كانت إسم على مسمى.
تجلس طوال الوقت في حديقة المنزل منذُ بزوغ الشمس، لم تكفُ عن اقتفاء اثري.
ظلت تجلس في الصباح المبكر منتظرة إياي لخلق حديث معي و اعطائي كعك مُعجن قديم فيه الكثير من الشعر.
وددتُ لو أخبرتها كم أكره كعكها، و كم أني لا آبه أين وجَدت طقم اسنانها هذه المرة.
لم أنس للأن العجوز هَدِية، لم أر وجهها قبلاً،
كانت خائفة طوال الوقت و تستلم طردها متسترة خلف الباب.
كل ما أذكره أن يداها كانتا نحيلتان جداً.
فترة الصباح الباكر..أكاد أقسم أني أحياناً كُنت أشعر كما لو أني في دار مُسنين،
او أن الأطفال و الشباب أُبيدوا جميعاً.
لكن كان هنالك مدحت، الرجل أربعيني الذي يستلم رسائل كثيرة -الكثير منها فعلاً- جعلني أخرج عن المألوف قليلاً.
تكون جميعها رسائل عاجلة، لذلك أُضطر لقرع الجرس كثيراً إلى أن يتكرم علي و يفتح الباب عاقداً حاجبيه، متملكاً نفسه عن الرغبة في خنقي.
لاحظتُ مؤخراً أن تلك الرسائل العاجلة ما هي إلا ديون...حقاً ضخمة.
أتذكر جيداً كم كرهتُ تلك الوظيفة، كل ما كُنت أجنيه بضعة فلسات على كل طرد أي دوام أسبوع كامل كان بالكاد يكفي لشراء زوجي جوارب.
و بعض النظرات المتجهمة الصباحية.
عملتُ بها خلال عُطلة الصيف.
و لم يُعطني والدي فُرصة للتخلي عن الأمر.
لكن مع بداية فصل الشتاء، كان من الصعبِ حقاً الاستيقاظ باكراً و مغادرة السرير الدافئ.
خصوصاً الايام الممطرة منها.
لا تسألوني عن الحياة الدراسية، رسبتُ العام الماضي و قرر والداي إعطائي هدنة، أعلم انها خُدعة و انهما فقدا الأمل سريعاً تجاهي.
صِدقاً في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
كنت أقضي العُطلة مع أعز أصدقائي، دون هذه المهزلة.
لكنه غادر البلدة قبل انتهاء العام الماضي.
في مثل هذه الأيام كنا نضع أغطية الزجاجات فوق السِكك الحديدية، ليبسطها القطار فور مروره.
لكني غاضبٌ بشدة عليه، طوال هذه الفترة لم يتكرم بإرسال خطاب لي، او حتى بالرد على رسائلي المتتالية...
من غير المعقول ان تنسيه حياته الجديدة ايامنا، هذا بشع.
لقد كان الأقرب لي، أكره يوم غادرني.
توالت الأيام حتى ذاك اليوم، حدثت مشاجرة كبيرة.
أعني لطالما تشاجرت أنا و أبي، و أخر مرة سايرته انتهى بالأمر بالتورط مع تلك الوظيفة الخسيسة.
لكن هذه المرة كانت مشاجرة عنيفة، لقد كسر يومها كرسياً و بعض الأطباق، بينما يصيح ببعض الجمل مثل "انتَ دنئ" و "لا فائدة تُرجى منك" و "اخر ما أردته هو الحصول على صبي مثلك"
و أنهى توبيخه الحاد بـكوني غير مُستقل برأيي، و لطالما إعتمدت على الآخرين في كل شئ حتى في تحمل أخطائي لأني "عالة"
لم أنم تلك الليلة، ليس و كأن ضميري قرر الاستيقاظ مع كل تلك الكلمات الموجعة.
ما كان يدور بذهني، حين قررت القبول برأيه و تنفيذ كلامه بخصوص تلك الوظيفة -أحرقها ربي- أصبحتُ عالة ؟
عزمتُ يومها أني سأنهي كل شئ صباح اليوم التالي.
صباح اليوم التالي، بقيت في غرفتي لدقائق إضافية منتظراً مغادرة والدي للعمل.
ثم تسللتُ لغرفته للحصول على عقد العمل.
كان في مكان سري جداً، تحت السرير.
توجهت نحو مكتب البريد، و طلبتُ إذن بمقابلة مدير مكتب البريد، السيد مشيع، رئيس قطاع ركشيد.
ناولته على مكتبه العقد، و باشرتُ بطلبي لإنهاءه.
حاول السؤال عن صحتي، او حياتي او ما شابه.
فأخبرته ان لا مشكلة تُذكر، لكني مُصر على موقفي.
صمتَ صمتاً لم يكن مُريحاً البتة قبل أن يتفوه : سيد حمدي، رجاءً عاود قراءة شروط العقد.
عقدتُ حاجبي معيداً الورقة، ابحث عن الشروط.
ليسهل علي الامر بدأ بتسميع الشروط جهراً : هنالك تسع شروط لا ينبغي الإخلالُ بها، ثالثها عدم إنهاء العقد قبل العامين.
عامين ؟ بالكاد صمدتُ عُطلة الصيف !
غادرتُ يومها مكتب البريد استشيطُ غضباً، زممتُ شفتاي و انتفخت أوداجي.
فرادوتني فكرة ما ناسبت هذا الوضع الدميم.
"إن لم ينفع الأمر بأن استقيل عن الوظيفة، إذا سأجعلهم يطردونني"
إن كان زياد هنا، فأول ما كان ليفعله التصفير لهذا القرار.
قبضتُ قبضتي و تناولتُ دراجتي و اتجهت عكس اتجاه الحي...تماماً.
ما كان يدور بذهني ساعتها :
لما كل الاشياء تأخذ عكس المسار الذي أريد ؟
اكره عندما تسير الأمور على هذا النحو.
بدأت المباني بالتناقص، و اشجار القيقب في تزايد.
حتى وصلت لبحيرة أخميم.
ما إن التقطها بصري حتى انتشلت صندوق البريد و ألقيت دراجتي ارضاً.
امسكت بأكبر كتلة و كانت طرد، أجزمتُ مسبقاً انه للعجوز فتحي.
مزقت الطرد لكن سرعان ما تساقط ارضاً بعض الكرات ضئيلة الحجم، كان طعام حيوانات لكني لم أعي ذلك وقتها.
كل ما ظننته أن ذاك العجوز مقرف.
سارعت بقذف الطرد في البحيرة.
ثم تناولت الرسائل و بدأت بقص الاسماء بسخرية.
"العجوز هدية هادي" ثم أباشر بتمزيق الرسالة و القاءها في البحيرة.
ثم عبير شكري،
فصبيحة عاطي،
فشُكري أحمد،
فعويس سيد،
فمدحت فتوح.
و اخرون.
لم يعد هنالك من تخشاه هدية، و لا من يوقظ شكري من النوم.
سيعيش مدحت في كذبة جميلة، ولتنفجر حنجرة صبيحة من كتم الثرثرة.
حقدتُ عليهم جميعاً، لكن النصيب الأكبر من الحقد كان لوالدي، هو من إبتدأ كلُ هذا.
و يدور برأسي فكرٌ أهمه "يريد إبناً مُستقلاً بقرارته ؟ إذاً سيحصل على واحد."
تبقي اخرُ بريد، لكن لم أتمكن من السخرية منه.
لم يُكتب عليه اسم المُرسل، كان و حسب موجه لشخص يُدعى زاهي او زاهر ...الخط سئ.
لكن، لحظتما قرأتُ عنوان المُرسل، وثبَ كل شئ.
لم أرمش للدقيقة التي تلتها كاملة.
انقبض صدري و شعرتُ ان العالم يدور حولى، او انا من على وشك أن يهوى.
" شارع العقاد الرابع، المنزل السابع و الاربعون"
ذاك المنزل، حيث اعتاد أن يعيش صديقي زياد، الذي غادر العام الماضي.
توقعتُ أنه عاد، كان توقعاً سعيداً خالطته انقباضة صدر جعلته شعوراً غير لطيف بالمرة.
تركتُ كل شئ ورائي، حتى غضبي.
و اتجهتُ ركضاً نحو منزل زياد.
تسللت رعشة إلى ركبتاي، و نفسي يكاد ينقطع من الركض.
اردتُ أن اصل، لكن لم أرِد.
ما إن التقطت مقلتاي المبنى، حتى تسنى لي الابطاء من حركتي و التقاط انفاسي.
التقطتها بصعوبة شديدة، و العرق طغى على محياي.
لكني لم آبه، و شرعت بإستنفاذ اخر ما تبقى من قوتي بي التقدم لقرع الجرس.
بقيتُ رُبع ساعة امام المنزل، دون إجابة.
تراجعتُ خطوتين للوراء، المنزل دامس في وضح النهار، رث، و تفوحُ منه رائحة العفن.
و الخشب ازداد تأكلاً عن اخر مرة كنتُ فيها هنا.
لا يوجد اي ملامح لعودة أحد.
أعدتُ مقلتاي للبريد الذي اعتصرته قبضتي، و هلمتُ بفتحه.
ورقة بيضاء تماماً توسطها رقم "9099-67712"
كل شئ مُبهم، كان بساطة المحتوى مثير للريبة، لكن كون عنوان المُرسل هذا المنزل المُقفر هو الريبة بحد ذاتُها.
عدتُ يومها للمنزل، و تقوقعتُ بغرفتي.
أعاد لي الأمل الكاذب هذه المرة، ذكريات أكثر من أي مرة سابقة،
و تلاهُ شوقٌ موحِش.
لقد مرت عليَّ أيام عديدة، تمنيتُ فيها لو استطيع الاستغناء عن كُل شبر في هذا العالم، مُقابل عودة زياد.
لكن أحياناً، كُل شئ لا يكفي.
إستعدتُ يومها بعض ذكرياتنا الموحلة، اجل كانت مليئة بالكثير من الوحل.
عند تلك البحيرة.
اجل، البحيرة ذاتها التي ألقيتُ فيها كل البريد صباحَ يومها.
إعتدنا على إلقاء أحذيتنا هناك و إختبارات المعلم سميع.
و تذكرتُ اليوم الذي اصطدنا ضفدعاً لطهيه.
و أمي أمسكتنا متلبسين و عاقبتنا يومها عقاباً وخيماً.
إنسابت أفكاري، و لم يُفقني وقتها سوى إقتحام والدي باب الغرفة، ليتلفظ بنبرة غليظة : أين كُنتَ صباح اليوم ؟
صمتُ قبل أن يُكمل عاقداً حاجبيه : أتت بلاغات كثيرة من حي
ركشيد، كُلها تنصُ على عدم إستلامهم لبريد اليوم.
و هنالك دراجة مفقودة، هل لك يدٌ بهذا أيضاً.
بصراحة، و ساقٌ أيضاً.
لم أهدِه نظراتي ثم تفوهت : الدراجة نسيتها بجانب بحيرة أخميم، حيث تطوف جميعُ الرسائل.
لم ألبث ثانيتين بعد غلق فمي، ليوجه والدي صفعة قوية أشعرتني أن رأسي إقتُلعَ عن جسدي.
حاولت أمُي التدخل لإنتشالي من قبضته، لكنه سدد ضربة في صدرها أسقطتها أرضاً.
"لقد ضِقتُ ذرعاً، كم أشعر بالخجل منــك.
إلى أي مدى ستواصل التمادي !
لقد شططتَ كاللعنة !" جلجل بها والدي يومها على بُعد شعرة من وجهي.
لم أدر على ما عليَّ التركيز ؟ على جُمله المُتكررة في كل عجيج ؟
أم لعابه المتطاير على وجهي.
طالت المشاجرة هذه المرة و أرغمني أبي علي إرجاع الدراجة في منتصف الليل، و صباح اليوم التالي طُردتُ من العمل.
و لكن كما تعلمون...نصل لمبتغانا كي نستريح، لا وقت للسعادة.
دفع أبي بعض المال و الكلام المُنمق ليسحب الجيران بلاغاتهم.
أما انا تركتُه في مكتب البريد و غادرتُ.
عيني تورمت يومها و مالت للون الأرجواني.
عُدتُ للمنزل، و اتصلتُ على الرقم الذي كان في رسالة أمس، أعني رسالة زياد.
إتصلتُ عِدة مرات لكن جميعها رُدَ عليها بـ " هذا الرقم غير متوفر في الخدمة، بالرجاء إعادة النقر او التوجه إلى أقرب فرع بلا بلا بلا"
أغلقت الهاتفَ بعنف، ليتخلله صوت والدتي من المطبخ : ماذا تفعل يا عزيزي؟
واجهتها بالعبوس و تجاهلتها تماماً مُتجهاً لغرفتي.
مرت عِدة أيام، حتى أرسلتني أمي في أحد الصباحات أشتري قنينة حليب، و بعض الجبن و الخبز.
و بينما أسلكُ طريق العودة، سمعتُ أحدهم يهتفُ بإسمي.
إنتفضتُ ملتفتاً لكن....كنا بالصباح الباكر و الشارع في أوجِ صمته.
تجاهلتُ الأمر و عدتُ للمنزل، إنهُ يوم الإثنين.
كان ذاك اليوم ميعاد كتابتي رسالة لزياد، التي على الارجح لن يرد عليها أيضاً.
إتجهتُ نحو المطبخ و ألقيت بالحاجيات، و إلتفتُ مغادراً.
حتى سحبتني أمي من ذراعي مُلاطفة إياي.
"أمي" قُلتها بتأفف بمعنى إبتعدي عني.
لتسألني بصوتها الرهيف الشفوق : كيف حالكَ يا بُني ؟
إنتزعتُ يدي منها مغادراً المطبخ : و لا أفضل.
"حمدي، إسمع" قالتها بنبرة محتدمة هذه المرة : أنتَ تعرفُ جيداً أن والدكَ أراد بكَ خيراً، إنك تتبع الكثير من التصرفات الصبيانية، و يجب ان يكُون خلفكَ ليُقومك و يصلح ثغراتك يا حمدي !
"لا اريد من أي كائنٍ كان إصلاح فجواتي" صِحتُ بها متجهاً لغرفتي.
عاودت الرد :لقد إرتكتبتَ ما يُعاقب عليه القانون يا حمدي ! تخيل إن لم يكُن والدك هنا، ماذا كُنت لتفعل ليلة البارحة ؟ "
أجبتُ ساخراً " لا شئ، على الأطلاق، دونه لما حصلتُ على تلك الوظيفة من الأساس."
إتكئت أمي علي مدخل الباب،
دعكت ما بين حاجبيها و باشرت: أيُمكنك التوقف عن هذا؟
"عن ماذا؟" تفوهت قبل أن تُجيب "عن سلك تِلك الطُرق...والدُك ليس خصمك..إنه يأبه لك أكثر من اي كائنٍ كان"
متوقع من زوجته، لقد تجاهلت تماماً كونه حطم صدرها مساء أمس يومها.
لم أردَ ببني شفة، تنهدت مُتأففة بنية المغادرة، لكنها وجدت ورقة مُكرمشة على المكتب.
ظنت انها من كتاباتي السابقة و كالعادة، ينتاب امي الكثير من الفضول فيما يخص هذا الأمر.
"هل عُدتَ للعمل ؟"
ألقيت لها نظرة ما : طُردت.
لتتبع حديثها : لما تملك رقم صندوقِ البريد هذا ؟
عملتُ طوال الوقت بتوزيع البريد بخِبرة لا تكاد تُذكر.
ارتياد عربة تجميع البريد لم يكن مجالي، لكن من المثير للشفقة كوني عملتُ في مكتب بريد، و لا استطيع التمييز بين ارقام الصناديق و أرقام الهاتف.
لم ألبث لحظتها.
إنتشلت الورقة من أناملها و هرعتُ متجهاً لمكتب البريد،
هذه المرة كعميل لا عامل.
انتظرتُ في الصف متأففاً -رغم صغره- أمام شباك الاستفسارات.
حتى أتى دوري، "9099-67712 "
علمت موقع هذا الصندوق..في كفر عبوش.
لقد كان أبعد مما ظننت، كان في أقصى بقعة في القرية.
هذه المنطقة هُجرت منذ فترة بسبب انتشار داء السُعار بين الكلاب، و داء الملاريا.
لم يعُد هنالك كلاب بالتأكيد لكن لم يعد يأبه احدهم حتى.
خرجت و ألقيتُ ناظراي بين قدماي.
ثم أعدتُ النظر للعنوان على غلاف الرسالة.
و بدأت التساؤلات
"انهُ حقاً عِنوان زياد بلا ريب.
لكن أين هو ؟ هل إستأجرت عائلته منزل آخر ؟
و إن عاد بالفعل؟ لما لم يقابلني للآن؟ ألم يستحضر ذكراي حتى حين وطأت قدمه موضع القرية ؟
و لما قد يضع في رسالة فارغة رقم صندوق بريد قديم ؟"
لم أعلم، وقتها لم أعلم أي شئ.
كل ما كان برأسي أن هذا الأمر لن يبرح عن رأسي حتى أجد إجابات تُشبع تساؤلاتي، أو حتى أجد زياد بالأصح.
كان المكان أبعد مما ظننت.
علي أن أجدَ وسيلة ما للوصول إلى كفر عبوش.
إنها في جهة الشرق، إتجهت أمشي على طريق ممهد على جانبيه مباني صغيرة، و بالطبع كُلما أبتعدنا، يُمكنك رؤية بعض الفدادين الزراعية الصغيرة.
و خلف كُل هذا، تتواجد كفر عبوش هذه، كانت تقطن فيها جدتي -رحمها اللّٰه-.
وجدت جراراً يبعدُ عني بضعة مترات.
لا أحد حوله، فقط النساء مُنتشرة على بُعد البصر في الأراضي الزراعية.
ثم ظهر رجل عجوز يحمل سلة قشية ضخمة بكلا قبضتيه.
إتجهتُ نحو و مددت يد العون...حسناً مددتُ ذراعيٌ.
ما إن وضعنا السلة في عربة الجرار لأسمع صوت ضحكة غريب بعض الشئ كـ" هوهوهو"
رأيت وجهه للمرة الأولى، كان عجوز اخذ وجهه و ذراعاه ثلث حِصة القرية من الشمس، لديه لِحية كثيفة طغى عليها الشيب.
يملك عين شبه مُغلقة، و أسنان معدودة غير مُتراصة.
و حشر بينهما سُنبلة قمح.
"شكراً لكَ يا بُني، هل أنتَ من الجِوار"
تلعثمت قبل الرد : نوعاً ما، إلى اين أنت مُتجه يا جدي.
" إلى الدوارة "
أظهرتُ تعبيراً مُستنكراً ليُكمل : حيث فدادين الذُرة الشامية، ألا تعرفها ؟"
هززتُ رأسي نفياً ليُحاول مجدداً : أنا مُتجه نحو الشرق بأية حال.
لمعت عيناي فور ما ذكر كلمة 'الشرق' لأنتفض : هل يُمكنكَ إصطحابي معك لكفر عبوش ؟
إعتلاه الصمت لثانيتين قبل أن يسأل بإستنكار : كفر عبوش ؟
لما عساك تذهبُ هناك يا فتى ؟
تضايقتُ لتدخله، لكني حاولت أن أكون لبقاً كي لا يرفض و أضيع هذه الفرصة : أريد الذهاب إلى هناك و حسب، سأعطيك المال الذي تريد.
همهم قليلاً ليتبعها بالقول بصوت مُنخفض : إنها بعيدة كُل البعُد عن مساري.
راقب الارض قليلاً ليعيد نظراته إلي : لنتفق على شئ، رافقني إلى وجهاتي أولاً، ساعدني قليلاً و أعدك سنذهب إلى هناك فور ما ننتهي من العمل، و سأنتظركَ لأعيدك، كما تعلم ان اتركك هُناك.
ثم تبع حديثه بقهقعة غير مبررة.
حسناً أنا راضٍ الأن.
جلس العجوز في المقعد العال، أما أنا فكان نصيبي مقعد صغير، أعتقد أنهُ خُصص لموضع القدم.
لما على الجرار أن يملك مقعد أوحد وحيد ؟
بدأ بالتحرك، كان صوتهُ جدُ مزعج في البداية، لكنني إعتدت الأمر فور مرور دقيقتين، و كان يُصدر الكثير من الدخان و كأنما يحوي حريقاً داخله.
"بالمناسبة، أنا أجاويد، نادِني جدجود...كما تعلم الجد جود ...جدجود هاهاهاها "
حِسهُ الفكاهي يبعُد عن عصرنا بعقود، و حين يصِل..لن ينجح في إضحاكي أيضاً.
قابلتُه بالصمت ليبادر مجدداً : لا تُقل أنك تحتفظ بإسمك لنفسك، لا تقلق لن أسرقه هاهاها.
عبستُ مجيباً لعله يطبق فمه : حمدي.
"إذاً يا حمدي، أنت بالتأكيد لا تعيش في كفر عبوش، لما هي وجهتك إذاً يا فتى؟" قالها.
يبدو أنه مذياع كصبيحة، و من الواضح أنه لن يتوقف أبداً طيلة الطريق.
"أبحثُ عن شئ."
همهم العجوز بإهتمام.
توقعته سيسأل عن هذا الشئ و سندور في دوامة مزعجة لا تنتهي، لكن عوضاً عن هذا، مد يده في السلة التي ساعدته في حملِها، و ناولني برتقالة.
ناظرتها بين كفيّ ليتحدث أنِفاً : جدُكَ أجاويد يملك أطيب حقل أشجار برتقال يافاوي.
لقد أكملتُ مسيرة والدي رُشدي رحمه اللّٰه.
زاد عبُوسي، كُنت في أكثر فترة ضِقتُ فيها ذرعاً من التحدث عن الآباء.
ألقى أجاويد لي نظرة بطرف عينه، ليسحب إبتسامة جانبية قائلاً : أعرفُ جيداً هذه النظرة، هوّن عليك...لم تكُن علاقتي مع والدي كالآن في البداية...إن أردتَ الحق...سار كُل شئ على نحوٍ سئ.
أتعرفون حين تبدو مشاعركم تافهة لدى الأخرين؟ أنا أمقتُ هذا.
تحدثتُ بحنق : صفعني البارحة لأني تركتُ العمل.
ناظرني ثم صاح مقهقهاً لأقاطعه لأول مرة : بحق الله ما المضحك في هذا؟
" أهذا كُل ما لديك ؟ حين كُنت أتغيب عن دار الدراسة كان يطرُدُني لأبيت الليلة عارياً في أوج البرد القارص.
أعطيته نظرة -هذا لا يمكن أن يكون حقيقياً حتى-.
ليبادر مُلاحقني : بلى هذا ما كان يحدث، كُنت أكره الأمر في البداية..حتى تعرفتُ على صديق في أحدِ تلك الليالي الزمهريرا.
أتعرفُ حين تجد شخص واحد، واحد فقط ...يُحيي أنس مئة منزل، و يُزهِقُ وَحشة ألف طريق، و عِقاب أبي.
بدأتُ بالتفكير في زياد، لا أتذكر يوم واحد مَ علي برفقته، كان ثِقلهُ كثِقل هذه الأيام.
أومِأتُ على كلامه، و على كم حقاً أستشعرهُ.
أكمل العجوز حديثه : ذاكَ الفتى كان يتسلل خِلسة من المنزل، ليُحضِر إلي بعض ما أرتديه.
و كُنتُ بدوري أُهديه بعض بُرتقال حديقتنا،
و نُشاهد سوياً نُجوم المجرة في أوج الليل.
إبتسمتُ مُتذكراً شئ مُشابه، لكن هذه المرة لم أكتف بالتذكر، بادرتُ بالحديث : لي صديق يُدعى زياد، كان يهوى إصطياد الضفادع كثيراً، لذا كُنا نقضي جُل الوقت قُرب بحيرة أخميم، و نحاول إلتقاطها أو صيدها، و نترقبُ على رُكبنا كل حركة و سكنة في البحيرة.
أتذكر في أحد المرات إصطاد زياد ضِفدع أحمر !
الجملة الأخيرة لم أتلفظ بها، تذكرتها في نفسي.
ضحك العجوز ثم تابع : أين قرينُك إذا ؟
لانت ملامحي لأُصدر تنهيدة.
صمتُ قليلاً قبل أن أُتابع : العام الماضي...تعرض والده لأزمة مالية شديدة، و أضطر لمغادرة القرية ليحصل على أقرب فُرصة عمل مُتاحة...و للاسف كانت جدُ بعيدة عن هنا.
همهم العجوز متفهماً و قد شعر بالأسى : ألا تُراسله؟
إنتفضتُ مجيباً : أُراسلهُ كثيراً، كان يرُد في البداية على كُل ما أُرسل، لكن إنقطع كُل شئ فجأة...
أخشى أنهُ بات يكرهُني..أو أسوء..نَسيني.
" يا بُني يا بُني" جذب إنتباهي إليه ليُكمل : ستُدركُ يوماً ما، أن تِلك الحياة بكُل ما فيها، لا تَرحم أحداً.
إنها دار شقاء، منذُ أول لحظة قضيناها في حياتنا هنا، كُنا نبكي.
و تتوالى الأيام، و تتعلم كيف تأسِرُ هذا البكاء.
ننشغُل بالحياة، بالمسؤوليات، و حتى الكوابيس.
و ما يُهون علينا الأيام الثقال.. ذكريات جميلة لم تذبُل، و وقت جميل نقضيه مع الأحِباء بين الفينة و الأُخرى.
لستَ بحاجة للتأكد من حُب أحدهم إليك بتواجده حولك طوال الوقت، أو التحدث إليك طيلة اليوم.
و يا بُني، حتى و إن طالت المسافاتُ و الأيام، لنا لقاء يجمعُنا يوماً ما.
شعرتُ أنه يقول شئ مهم لكني لم أتأثر حقاً، أريد الوصول إلى زياد و حسب، متى سنصل إلى كفر عبوش يا تُرى ؟
وثبَ يُكملُ كلامه : تتذكر صديق الطفولة الذي حدثتُك عنه ؟
إنهُ يعيش مسافة بِضع قُرى عن هنا.
يبدو الأمر و كأن بإمكاني الوصول إليه بسهولة عن هنا، لكن يفصِلنا عن بعضنا الكثير من المسؤوليات و هموم الدُنيا.
لكن ما يجعلُنا نثابر، أنه متأكد أني أُحبه، و أنا مُتأكدٌ أنه يحبني كثيراً.
صمتُ قليلاً، لم أتوقع أن صديقه العجوز حي من الأساس.
"صِدقي مهران"
حِين ذكر الأسم، لازمتُ السكون محدقاً في الفراغ.
ليضرب كتفي : هيا الأن نحن في الدوارة، ساعدني على إنزال السلة.
يتبع....
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top