٠١٦





الفصل السّادس عشر

مرّتان أو ثلاثٌ، أحسَّ تايهيونغ فيها بالضّيقِ والعجزِ لدرجةِ شعوره بنبضاتِ قلبهِ وهي تضربُ مؤخّرةَ رأسه.
تضربها وتلطمها، لكنّها لا تحطّمها. لسببٍ ما، مجهولٌ لكنّ شرّهُ مؤكّدٌ، لا تحطّمها.

في أقصى درجاتِ حزنهِ، كان بصيصُ الأمل دائمَ الزّيارةِ.. في أقصى درجاتِ حزنه، كانت عيناه الوحيدتان الشّاهدتان على اِنهياره.
لكنّه، الآن، قد حوصِر في موقفٍ يحتّم عليه الظّهور بأسوء قشوره، أمام عينين غير عينيه.
كان عُرضةً لأحكامٍ غير أحكامهِ، و ذلك ما جعل وقع النّبضات أشدّ ألمًا.

"كيفَ حالكَ اليوم؟"
" كحالِ الأسبوع الماضي."
وما قبله، وما سبقهما من أسابيع عديدةً.. لكنّه لم يردف، وماتت الكلمات تحت لسانه، فيما اِنشغلت عيناه بحدج السّجادة التجاريةِ الخضراء، في أبعد زاويةٍ، بجانب الباب، حيث كانت والدته خلفه.

"أنِمتَ جيّدًا؟"
هجرَ نظره السّجادة، وحطّ على اِبتسامتها. ذاتُ الاِبتسامة، ذات الأسئلة، ذاتُ الصّوت وذات الدّفتر.
تساءل ما إذا كانت تختبر صحّةَ قوله، وتنتظر إجاباتٍ مماثلةٍ لإجاباتِ الأسبوع الماضي، ولم يساعده شعوره بأنّها لا تصدّقه.. منذُ جلستهما السّابقة، لم يشعر أنّها تصدّق حرفًا ممّا يقول.
وقد كان ذلكَ مزعجًا، وإن لم يولي الأمر اِهتمامًا.

"ما الذي قد يتغيّر إن لم أنم جيّدًا؟" لعلّه قد كان عليه الإجابةُ إيماءً فحسب.. فكّر حين لمح اِبتسامتها الهادئة، الدّائمة. "قد يتعكّر مزاجك."

همهمَ، أطرق رأسه واِستند على ظهر الكرسي، لأوّل مرّةٍ. لم يكُن مريحًا كما أخبرته، لكنّه قد خمّن أنّ الخطب في عظامه.
لا ضيرَ من الاِفتراض سرًا.

سؤالٌ تبعه سؤالٌ، وحافظ تايهيونغ على وعده لنفسه.. أجابَ بأبسط إجاباتِ جالت بعقله، بأهدأ صوتٍ اِمتلكته حنجرته.

"أتتواصل مع والدك؟" لوهلةٍ تساءل عن أحقّيتها في السّؤال عن أمرٍ مماثلٍ، لكنّ تذكّر حقيقةَ الوضعِ قد كان مردُّه تذكّرَ ألم النّبض، الذي لم يفارق جمجمته بعد.

"كلّا، والدتي تتواصل معه أحيانًا."
"ما هو شعوركَ حينما ترى ذلك، أو تسمع محادثتهما؟"
"لا شيء، كلّ ما يدور ببالي هو أنّني لا أريد محادثته. لا أملك مشاعر محدّدةً اتجاه الأمر."

لكنّ تُخمةَ المشاعر واِحتدامها لم يدعاه وشأنه لأيّامٍ.
لم يحبّذ إخبارها بذلك.

"إن كان لي حقٌّ في طلب تغيير الموضوع، هلاّ فعلتِ؟ لا أعتقد أنّ أجوبتي قد تفيدكِ." كان ذلك هراءً، فكلّ ما يصدر منه يقود لفكرةٍ قد تأخذ حيزًا من صفحات دفترها. لكنّها قد لبّت طلبه.

"أتواجه صعوبةً في تكوين الصّداقاتِ؟ لقد قالت والدتكَ في حديثٍ قد دار بيني وبينها أنّكَ قد أصبحتَ اِنطوائيًا، على نحوٍ مفاجئٍ."
"تكوين الصّداقات ليس فرضًا إجباريًّا، أنا أكثر راحةً هكذا."
"ماذا عن أصدقائكَ القدامى، أتمنّى أن تصارحني بسببٍ توقّفكَ عن مراسلتهم."
"لستُ مجبرًا على ذلك، لديهم بعضهم البعض."

مرّر باطن يده الرّطب على قماش بنطاله، حين تبادرت لذهنه حقيقةُ أنّه قد بدا كمراهقٍ مكتئبٍ.. الصُورةُ التي حاول الاِبتعاد عنها قدر المستطاع.

عمّ الهدوء، سكَن القلمُ واِندثر صوتُ اِلتحامه بسطح الورق. كان على وشكِ رفع بصره، لكنّ صوتها قد أخباه، ودفع بنظره مجدّدًا نحو الأرضِ، وما تحتها إن كان مرئيًّا.

"إذًا، ماذا عن جايهي، تايهيونغ؟" بدا أنّها قد لاحظت تصلّبه، وأردفت. "كان عليّ معرفةِ المزيدِ من والدتكَ بما أنّكَ قد كنتَ متحفّظًا فيما يخصّ حياتكَ في سيول، ورجاءً، لا تعتقد أنّني أتطفّل على خصوصيّاتك، أنا هنا لمساعدتك."
لكنّه لم ينتظر ذلك العذر، كان ينتظر إبداءها أسفها لانتقائها السؤال الخاطئ، أنّها لم ترَ في المدعوّةِ جايهي سوى صديقةٍ عاديّةٍ.
كانت، السّيدةُ الجالسةُ أمامه، بهدوءٍ وثباتٍ، تعلم الكثير، أكثر ممّا قد يحبّذ.

" و.. ما بالُ جايهي؟"
لاحظ أفكاره التي قد تسرّبت مع كلماته، ولاحظَ أنّها قد لاحظت، كذلك.
" كانت صديقتكَ الحميمة، صديقةَ طفولتكَ، صديقتك."
"من المؤكّد أنّكِ تعرفين معنى الصدّيق." قال هادفًا السّخرية، الدٍفاع عن نفسه، لكنّ طريقةَ الإجابة لم تتغيّر، تشعره أنّ كلّ ما يتفوّه به مهمٌ، للغاية.

"وأنا أعتقد أنّكَ تعرفه أيضًا."
"أعتذر ولكن، أمِن الممكن أنّكِ قد تكونين جديدةً في عملكِ؟ لأنّكِ حتمَا لستٍ جيّدةً في اِستلال الكلام منّي." مجددًا، هدف السّخريّة، ومجددًا، نفسُ النّبرة قد قابلته.
"فلتساعدني إذًا، ما هو الصّديقُ بالنّسبة إليك، سيّد تايهيونغ؟"

اِحذر من ذوي الاِبتساماتِ الدّائمةِ. قالتِ الجدّةُ مين في عصر يومٍ من سنته العاشرةٍ.
لعلّه لم يفهم حينها، لكنّه قد حفظها، بدون وعيٍ.
" الصّديقُ هو.." وما أدراني، ودّ لو يقول. "من بإمكانهِ اِستسلال الحديثِ منكَ، وإن لم يكُن حديثًا فعليًا.. على عكسكِ، مع اِحتراماتي."

لعلّه قد وجُب عليه التوقّف هنا، الاِستئذانَ، الخروج وعدم العودة.
" من بإمكانه إبعاد السّيء، وإن لم يبتعد حقًا، لكنّكَ لن تراه، ولن تشعر به."
حطّ بأصابعه على ذراعيّ الكرسيّ، جاهزًا للقيام.
" من بإمكانه جعلكَ تشعر، ولو آنيًا، بأهميّتك."
لكنّ عضلاته قد اِرتخت، أسدل ذراعيه على جانبيه واِبتسم، جالسًا باِستقامةٍ. "هذا ما أعتقده."

دقيقةٌ خرساءُ قد مرّت، نظرت إليه بين الحين والآخر، لافّةً أصابعهما حول القلمِ بإحكامٍ، لكنّها لم تكتب شيئًا.

"أوَلم تعِش هذا في سيول، مع أصدقائك؟" سألت بعدما اِزدردت. كان من الواضح أنّها تشعر بشيءٍ، لعلّه قد كان توتّرًا، خوفًا من الإخفاق، شفقةً على حاله.. لم يدرِ، لكنّ قلّة خبرتها الواضحة لم تمنعها من رشقه بأسئلةٍ حاول تفاديها.

حين لم يحِر جوابًا، واصلت، معلّقةً نظرها عليه. "ليست جايهي فحسب، بل جيمين، جونغكوك ويونغي كذلك."
"ألا تعتقدين أنّكِ تدّعينَ معرفةَ ما لا تعرفينه؟"
"أتعتقد هذا؟ أنا أكرّس قِواي لمساعدةِ مريضي فقط."

حاول الإبتسام لكنّ الأمر قد اِنتهى به قاضمًا شفتيه."هذا فظٌّ، لستُ مريضًا." والإبتسامة التي فشلت في الظهور على شفتيه، ظهرت على شفتيها.

"ألا تريد الحديث عن أيّ شيءٍ معينٍ؟"
"لا أعتقد هذا." أومأت، واضعةً قلمها في جيبِ ردائها. "حسنًا، لقد اِنتهت الجلسة. بإمكانكَ المغادرةُ، تايهيونغ. وإن لم يضايقكَ الأمر سأحادثُ والدتكَ على اِنفرادٍ."

كانت واقفةً بالفعل حين همّ بالوقوفِ، مستعدّةً لمرافقته إلى الباب.
"بالطّبع، ليس عليكِ أخذ إذني." اِبتسم وتمنّى لا يكون زيفُ الإبتسامةِ واضحًا. "لكن من فضلكِ، إنّها لا تحتاجُ هراءً أكثر ممّا قد سبّبه لها والدي الموقّر. أنا هنا من أجلها فحسب، لا تهدري محاولتي في إراحتها، رجاءً."
وحينما اِنحنى، لمحَ وجهها الخائب، أخيرًا.. ولم يشعر بالرّاحةِ التي توقّعها.

على العكس تمامًا.

نهاية الفصل السّادس عشر.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top