(٥) أحرف من نور

عاد الظرف ليحفظ في أعماقه تلك الرسالة بعد أن أعادها إليه، ثم وضعها على يساره فوق سطح المكتب، لينهض بعدها نحو أوراقه ليجمعها بحب ولطف كأنه يعتذر لها، أعادها إلى الدرج الخاص بكتاباته كما لو أنه يولجها إلى ملاذ آمن بعد الرَّوع الذي نالها إثر رميه العنيف لها

عاد إلى أحضان مقعده وعلى سطح مكتبه وضع أوراقا لا زالت تحتفظ ببياضها كأرض رست عليها ندفات الثلوج عدا تلك الخطوط السوداء التي تقع على مسافات متباعدة كطرق معبدة، وبيمينه استقر قلمه تحيطه أصابعه من كل اتجاه، آن أوان بزوغ شمس أحرفه المتوهجة، وحان وقت التجربة!

أسدل أجفانه لتتدثر بها عينيه بتعمق، سحب من قاع رئتيه نفسا طويلا ثم أطلقه في الهواء طاردا مع جزيئاته كتلة ذات ثقل كانت تقطن في أعماقه، بحرص أحكمت أنامله قبضتها على قلمه وهناك... بدأ يستشعر تدفق حبر الفؤاد نحو حبر القلم، حاول أن يزِن بين الحبرين لئلا يغلب أحدهما الآخر، ثم أزاح ستار عينيه ليتجلى في عدستيهما وهجا فضيا، لحظتها كان كل شيء قد أصبح معدا للانطلاق!

بتأنٍ نسج أحرفا من نور طغى وهجها على بياض الأوراق، كلمة فجملة، سطر فسطران حتى أنهى ما أمامه من سطور، ملأها بكل ما اختلج في داخله من مشاعر هائجة، انتهت مهمة رقش الأحرف ليحين موعد مهمة الأداء الصوتي

ما كتبه صديقه كان الدليل الذي قاده إلى المعرفة الحقة لما دلته عليه الظلال من وصفة سحرية كما قالت، فلمَ لا يكون ما سيبتدئ به من أحرف متوهجة موجهة إلى صديقه؟ هكذا فكر. فكان هذا ما توصل إليه قلمه

"صديقي الغالي على قلبي: إلى ما تمنيتَ ها قد عدتُّ، أعدك أن أصل إلى أفضل ممَّا عليه كنتُ، ولتعلم يا صديقي أن روحك الوضاءة لا زالت تسكن قلبي، وسناها ينير دربي، ونغمة صوتك العذبة لا زالت ترن في أذني، ومن غياهبي تجرني، كلماتك المشبعة بالتفاؤل لا زالت تشق الطريق أمامي، لا زالت تجاور أيامي
كم مرة أقامتني ترنيمات نصائحك! وكم مرة أسندتني أكتاف تطبيباتك! وكم مرة أسعدتني وداويت جراحي رغم مرضك وسوء حالك!
الربيع المزهر الذي تلذذنا سويا بنسماته ما كان ليزهر لولا صدقك وإخلاصك، الجبل الشاهق الذي اعتلينا قمته ما كنا لنتغلب على وعورته لولا صبرك معي، ولي كان دوما دعمك
صديقي: أنت من بقي وهم جميعا رحلوا، أنت معي في كل آن رغم توسدك الثرى، يا روحا سكنت قلبي، ويا وطنا آوى شتاتي، ويا ملاذا هرعت إليه دوما فأمنني، كنتَ ولا زلتَ هكذا حتى استصغرتُ في حقك كلمة صديق
شقيق روح وروح جسد، أخٌ أمي لم تلده ولي كنت نعم السند، فسلام على روحك في الخالدين"

فكَّ أسر زفرة احتبست في صدره حين أنهى قراءة ما كتب، وبتنظيم أعاد ترتيب ما استعان به لينسج ما نسج، ثم أسند خلفية رأسه على الطرف العلوي من كرسيه، بصره متجها نحو واجهة السقف التي لا شيء ملفت فيها، لكن العالم الذي ينسجه خياله في تلك اللحظات جعل النظر إليه مغريا، كم شيئا ظهر في خضم تلك اللحظات القلائل لديه؟

بسرعة تفوق الضوء يمكن للتفكير أن ينطلق، وإلى أبعد مما يتصور المرء يمكنه أن يصل، أشياء خيالية وأخرى خفية تتواجد في عالمنا، وربما لها سلطة على حياتنا، عجيب أليس كذلك؟!

ذاك ما راح يشغل تفكيره حينها، ليخاطب نفسه في الأعماق كما لو أنه يخاطب جمعا من الناس:

"عجيبة هي الحياة وربما لا شيء غير ذاك ما يجملها، الخيال يصنع واقعا، وما يعيش في الخفاء أحيانا تكون له السيادة على ما يتبجح دائما في العلن، أي أسرار لا زال هذا العالم يكتنز؟ وأي خفايا للروح لا زالت طي الجهل؟ ربما هي بحاجة إلى من يكتشفها، وربما بخفائها تكون أفضل حالا
أين كانت تقف تلك القناديل التي ما فتئت ترشدني نحو طريقي؟ كيف عُميتُ عنها ولم أستشعر وجودها؟ أما عن امتلاكي أحدها فذاك شيء آخر
كل كاتب يمتلك أحدها، غير أن من يعلم بوجودها منذ البداية ويجيد استعمالها قليل، وثمن معرفة الاستعمال كثير من الجهود الجبارة، في نهاية طريق المعرفة يجد السر الأهم، مع أنه قد يكون يجيد استخدامه لكنه يجهل أهميته، مع هذا كله هل ستظل لدينا تلك الأسئلة ذاتها لتتكرر:
هل يمكن لكلماتنا أن تكون قادرة على لفت أنظار الآخرين؟ وإن فعلت هل ستنال إعجابهم؟ هل ما تخطه أناملنا ذا فائدة؟ هل هذا المقياس لما نكتب صحيحا يا تُرى؟!
والكثير من الأسئلة التي ربما هي ليست صائبة، لكنها تبقى ملازمة لنا كل ما أردنا الكتابة
علينا أن نكتب ما نريد ليس لأننا نبتغِ رضى الآخرين، الأهداف النبيلة كثيرة ولأجلها يجب أن نكتب، ولا نهتم بعدها بمدح المادحين أو قدح القادحين، وليكن ديدنا في عالم التهشيم اللامبالاة بالأسهم الجارحة"

أراد إراحة جسده فعدل جلسته لتصطدم عينيه بالتغيُّر الذي طرأ على ما كتبه لصديقه!

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top