(٣) وصفة سحرية
تناهى إلى مسامعه ذاك الصوت الرقيق وهو يهمس بنبرة منكسرة "كم أنت قاسٍ يا سيدي!"
لم تلقَ ردا فراحت تنفض ما بقي في جعبتها أو لما جاءت من أجله أساسا متحدثة بنبرة تنمّ عن معرفة ما "نحن مصنوعون من السواد كما ترى، وجودنا على بياض كالأوراق وحده لا يكفي لجعل الآخرين يروننا"
نظر إليها بنظرة جانبية من بين أهدابه بينما استمرت هي في حديثها "سيدي أنت بالفعل بذلت جهودا جبارة لصناعتنا، لكنك نسيت الوصفة السحرية التي يتقنها كل كاتب متألق"
سرق الفضول اهتمامه فانصاع نحوها يصغي إلى ما تريد قوله، علها ترشده إلى تلك الوصفة السحرية كما نعتتها، فلا شك أنها هي ما يبحث عنه منذ زمن
نحتت الظلال ابتسامة واسعة على محياها بعد أن استطاعت لفت انتباهه ولم تضيع الفرصة إذ سارعت تقول "أين حبر فؤادك لتمزجه مع حبر مدواتك قبل أن تشرع بالكتابة؟ وأين ضياء روحك لتعطي منه قبسا لكلماتك لتنيرها قبل أن تطلب عينا تقرأها؟ وهل لهدف نبيل أنت تجند قلمك؟ أم لتشارك الأقلام الكاتبة ما تكتب فحسب؟"
رمشت أجفانه مرارا باستغراب، لكن الظلال واصلت المسير في حديثها "أتخال أن من أبهرتك يوما أحرفه قد صاغها من فراغ؟ وأن بريقها الأخَّاذ الذي جذبك إليها قد وجد من اللاشيء؟"
على هيئة إنسان تشكلت، وراحت تخطو بهدوء نحو أدراج مكتبه، ثم مدت يدها المعتمة نحو أحدها واستخرجت منه ظرفا تنطوي في أعماقه رسالة مكتوبة بخط اليد، وفي حضن قبضته وضعت تلك الرسالة وقالت "هذه رسالة صديقك الأخيرة. أحقا أنك قررت عدم العودة إلى الكتابة بشكل نهائي وقاطع بسبب أنه لم يعد يقرأ ما تكتبه؟ أم تراك قد فقدت رغبتك بالكتابة بالكامل؟"
أمسك الظرف بحرص ثم مسح عليه بأطراف أنامله برقة، في حين كانت نار الحنين قد اعتلجت بين أضلعه، ذاك آخر ما خطه قلم صديقه إليه قبل أن يرحل مع ركب المودعين للحياة، بعد صراع مرير مع مرضه
كان هو من بقي مع صديقه المريض حتى النهاية، وحدها كلماته من كانت تؤنس وحدة ذاك الصديق وتسلي عليه دائما
هبت رياح الذكريات في رأسه تجلب معها لحظاتهما الحلوة والمُرة، مذ أن تعرف عليه حتى وارى عليه التراب، وتحت تأثيرها القوي تحركت أصابعه بلا وعي منه تفتح الظرف لتنتشل منه الرسالة وتفتحها، لتعانق بعدها عيناه تلك الأحرف التي خطها صديقه
"مرحبا! كيف حالك؟ آمل أنك بخير وأفضل حال
لا أعلم كيف ابتدأ حديثي معك لكن لأنك صديقي سأبدأ دون مقدمات
أما زلت تصر على التوقف عن الكتابة؟ من الذي أخبرك بسوء ما تكتب؟ كفاك حماقة ولا تحتقر ما كتبته، اعتبره دائما الجسر الذي سيوصلك إلى قمة جبل التألق
لا تجعل ما يذهلك من كلمات للكُتاب الآخرين المبدعين يحبطك، بل اجعله محفزا لك، الجميع بدأ من الصفر، لمَ لا تفكر بأنك تكتب لمنافستهم مثلا؟ أو لأنك ستفوقهم ذات يوم؟ أليست فكرة جيدة؟
أنت حقا لا تعلم كم تعني لي كلماتك، إضافة إلى أني ألحظ تطورا مذهلا في كتابتك
حسنا الآن: سأكتب لك كلمات ألهمتني أنت إياها بما تكتب، اقرأها جيدا اتفقنا؟ مع أنها لن تصل إلى ما وصلت إليه كلماتك من جمال، ها هي ذي في الأسفل
[استمر في رسم الربيع في لوحات القلوب الفارغة، لون جدران الأرواح الباهتة بألوان زاهية، واعزف للطيور لحن أمل تغني به في آفاق النفوس اليائسة، هيا يا صديقي انهض نحو المجد وحُثَّ المسير، انهض وعانق نسمات السعد مع العبير، حلق نحو الغيوم نحو النجوم افرد جناحيك ودعها تطير، لا تتخلى عن بنات أفكارك، ولا تبخل علينا بنفحات أقلامك، ولا تحتقر ما غزلته يوما بنانك، إن صنعتْ لك اليوم وشاحا فضعه بحب على عنقك، فغدا ستصنع لك عقدا من لالئ تعلقه بفخر على نحرك
يا صديقي للكلمات سحر عظيم الأثر، وسناها ينير الدياجي بظفر، فجُدْ علينا برشفات منها نعود للحياة أقوى، وابعث نداها ليعانق آلام قلبي فأشفى]
كيف سيكون حاله بعد أن يقرأ كلمات خليله هذه، بالذات أنها نفسها الكلمات التي تبكيه كلما قرأها؟
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top