الفصل العاشر : لا أستطيع


- هل يمكنني مقابلة الدكتور رافي؟

- هل لديك موعد معه؟

- لا.. لكني أحتاجه في أمر خاص..

- لحظة من فضلك سأتصل به.. هلا أخبرتني باسمك لأعلمه..ِ

- راني.. راني فقط وسيعرفني..

أومأت برأسها وأخذت تتصل وهي تثبت نظرها على الشاشة أمامها. لحظات قليلة مرت على ذلك لتتحدث بعدها بعد أن أجابها من الجهة الأخرى. صمتت بعد كلامها ذاك ثم تمتمت شاكرة وأغلقت الخط.

- إنه في مكتبه.. الغرفة رقم 201 في الجناح الرابع.. يمكنك مقابلته هناك..

- شكرا جزيلا..

التفت بعدها وسار متوجها إلى حيث أشارت له موظفة الاستقبال لذلك المستشفى الضخم. سارع خطواته وأصبح يهرول في مشيته وكأن أمر لقائه أصبح مستعجلا. لم يحاول ترتيب كلماته هذه المرة وقد غلبته مشاعره المختلطة تلك. كان يدرك أنها ستتحدث من تلقاء نفسها دون حاجة لترتيب مسبق.

وصل إلى الغرفة المقصودة -201- نظر إليها بعمق وهو يشعر بضربات قلبه تبلغ أقصاها. لم يكن واثقا إن كان يشعر بالتوتر حقا أم أن سرعة مشيته تلك هي السبب في ارتفاعها بذلك الشكل. أخذ نفسا عميقا بعدها ثم طرق على بابها طرقات خفيفة.
وماهي إلا لحظات حتى فتح الباب أمامه ليظهر من خلفه الدكتور رافي وعلى وجهه ابتسامة هادئة.

كان رجلا طويل القامة عريض الكتفين. شعره القصير المسرح للخلف بأناقة قد تمكن منه الشيب بشكل كبير لولا تلك الشعيرات السوداء التي تتخلله لتمنحه لونا رماديا أكسبه وقارا مع تقاسيم وجهه الهادئة والبشوشة التي جعلت له هالته الخاصة.
استطاع راني لحظتها ولأول مرة أن يلاحظ ذلك. تأمل تفاصيل وجهه لأجزاء من الثانية حين نظر إليه ببشاشة، قبل أن يبتعد فاسحا له المجال للدخول وهو يقول مرحبا:

- أهلا بك راني.. تفضل بالدخول..

كان بمثل طوله تقريبا، تجاوزه ببضع سنتيمترات فقط. دخل راني إلى مكتبه وقد لاحظ كمية تلك الأوراق المتناثرة على طاولة المكتب بشكل جعله يدرك أنه كان يراجعها قبل دخوله.

- أعتذر على مقاطعتك دكتور.. يبدو أنك مشغول للغاية..

أشار له الدكتور رافي ليجلس على الكرسي المقابل لمكتبه وهو يتجه نحو مقعده قائلا:

- لا بأس.. فمثل هذه الانشغالات لا تنتهي أبدا..

رفع نظره إلى راني بعد أن استوى في جلسته وأخذ يتفحص ملامحه المرتبكة بعينيه الهادئتين. شعره الأسود الكثيف بدا له فوضويا وكأنه نسي تسريحه قبل قدومه. عيناه الزمرديتان الواسعتان قد ضاقتا بشكل كبير وهو يثبتهما على سطح مكتبه. لم يخلع معطفه الصوفي بالرغم من دفء المكان في الداخل. كان واضحا له أنه يشتعل داخليا وقد بات شبه واثق من الموضوع الذي جلبه إلى هنا بحالة كهذه.

ابتسم لتحليلاته تلك التي أصبحت جزءا من شخصيته وتقدم بجسمه إلى المكتب ليقول محافظا على ابتسامته الودودة تلك:

- لا شك في أن هناك أمرا هاما جعلك تأتي لمكان عملي لتبحث عني..

رفع راني نظره إليه بعد صمته ذاك ليقول بعدها بهدوء:

- في الحقيقة لقد أتيت باحثا عن آنزا.. اعتقدت بأنه لا يزال في المستشفى.. لكني لم أجده واكتشفت بأنه قد غادر غرفته اليوم صباحا..

صمت قليلا ثم أردف باسترسال:

- لقد التقيته صباحا في الجامعة وأخبرني بأنه لن يعود إلى منزل عائلته مجددا.. لكنه غادر قبل أن يخبرني عن السبب وعن المكان الذي سيذهب إليه.. لقد حاولت الاتصال به كثيرا لكنه أغلق هاتفه.. لذلك أتيت باحثا عنه وعندما لم أجده أتيت إليك..

نظر إليه الدكتور رافي مطولا دون أن ينبس بكلمة وقد شعر بأن كلامه لم ينته بعد. تنهد راني بعدها بقوة وهو لا يزال ينظر إليه ثم أكمل بابتسامة واهنة:

- أعلم أنك تعرف الكثير عن آنزا بالرغم من شخصيته الكتومة.. لقد تفاجأت كثيرا حينما أدركت أن هناك شخصا مثلك في حياته يعرف عنها أشياء لا يسمح آنزا لأحد أن يطلع عليها.. وهذا يعني بأنك قريب منه كثيرا بشكل يجلب لي الدهشة كونه لم يحدثني عنك ولو مرة واحدة بينما حدثك عني وجعلك هذا تعرفني من أول لقاء بيننا..

توقف للحظة ثم أكمل بنبرة مترددة:

- منذ متى وأنت تعرف آنزا.. دكتور؟!

أجاب الدكتور رافي وعلى وجهه نفس الابتسامة:

- منذ سنتين.. بالرغم من أني التقيته لأول مرة قبل ذلك بثلاث سنوات إلا أنه كان لقاءً عابرا فقط..

ابتسم راني بمرارة لكلامه وقد اجتاحه شعور خانق ليقول بعدها بصوت خفيض:

- هذا يعني بأنه أبقى أمرك سرا عني لمدة سنتين كاملتين..

صمت قليلا ثم أكمل:

- هل يحق لي سؤالك عن طبيعة العلاقة بينكما وكيف تعرفت عليه؟!

اتسعت ابتسامة الدكتور رافي بشدة لطريقة صياغته لكلامه ذاك ثم قال:

- لو كان الأمر بيدي لأخبرتك بكل شيء دون تردد..

- أعلم أنه هو...

تمتم بصوت خافت وقد تغيرت نظرته الهادئة واختفى بريق الزمرد فيها عند وصوله إلى تلك النقطة. كان واضحا من نبرة صوته أية مشاعر يحملها وهو يتمتم بتلك الكلمة لكنه لم يرد الخوض فيها أكثر كي لا يطلق لها العنان للخروج، وبدلا من ذلك أومأ برأسه متفهما ليصمت بعدها مطولا. لقد أدرك بأن مجيئه إلى هنا لن يساعده في معرفة ما يود معرفته عن آنزا فيبدو أن الدكتور رافي لن يخبره بشيء بعد كلامه الأخير ذاك، وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن من منع ذلك الشعور الذي يدفعه بقوة للاستمرار. رفع نظره إليه وقال باندفاع واضح:

- أخبرني بمكانه على الأقل.. إلى أين سيذهب بمغادرته لمنزل عائلته؟! لا اعتقد بانه سيعود لدار الرعاية كونه لم يذهب إلى هناك بعد الجامعة..

حافظ الدكتور رافي على ابتسامته الهادئة ثم قال مثبتا نظره على راني:

- ألا ترى أن تصرفه هذا معك أنانية منه؟!

تفاجأ راني لسؤاله لكنه سرعان ما أجاب مباشرة دون تفكير مسبق:

- كلا.. ليست أنانية فأنا أعرفه جيدا وهو لن يخفي عني شيئا دون سبب..

صمت قليلا وقد أخفض بصره ليرفعه بعدها ويكمل بصوت أكثر حدة:

- لست أراها أنانية بقدر ما أراها ظلما.. أعلم أن هناك امرا كبيرا يحدث معه، وله علاقة بمرضه البارحة وبعائلته، وبسبب ما فعلته هو الآن يرفض إخباري.

صمت مجددا ثم أردف وقد ثبت نظره على وجه الدكتور رافي:

- لست أدري إن كنت على علم بما حدث مع عائلته وبما فعلته أنا.. لكني لا أراه سببا كي يفقد ثقته بي بهذا الشكل المخيف.. يجدر بي أن أكون شخصا استثنائيا في حياته.. لا يمنعه مني شيء أبدا كما لم يمنعه منك وأنت الذي دخلت حياته فجأة..

كان ذلك مقصودا، قصد راني أن يقول آخر جملة من كلامه بعد أن شعر أن هذا الرجل الجالس أمامه ليس رجلا عاديا، وعلاقته بآنزا ليست بتلك البساطة التي كان يتصورها في البداية. بات شبه واثقا أن هذا الرجل يعلم كل شيء عن آنزا ويعذر تصرفاته الغريبة تلك.

فهم الدكتور رافي المغزى من وراء كلامه ذاك، لكنه لم ينزعج منه البتة وإنما ابتسم بلطف وقال مؤيدا:

- معك حق في كل ماقلته.. لذلك.. ما رأيك في أن تسأله عن ذلك بنفسك؟!

- لقد حاولت بالفعل.. لكني لا أعلم مكانه وهاتفه مغلق.. هو لم يترك أمامي أي فرصة لسؤاله..

- ماذا لو منحتك فرصة بنفسي؟

نظر إليه راني باستغراب ثم قال تلقائيا:

- ماذا تقصد؟! هل ستخبرني عن مكانه؟!

نظر إليه الدكتور رافي للحظة دون أن يجيبه ثم رفع هاتفه ونقر عليه بضع نقرات ليوجهه بعدها باتجاه راني وهو يقول:

- تفضل.. تحدث معه واسأله مباشرة..

- لكن هاتفه مغلق بالفعل فقد اتصلت به قبل مجيئي إلى...

لم يكد ينهي جملته حتى سمع ذلك الصوت الذي يشير إلى أن الخط متاح. ارتبك فجأة لذلك ورمق الدكتور رافي بنظرة استنكار ليأخذ منه الهاتف، وبين يديه أخذ ينتظر الإجابة من الطرف الآخر الذي تأخر كثيرا في ذلك.
انتفض قلبه فجأة على إثر ذلك الصوت الذي جاءه من الجهة الأخرى:

- مرحبا..

لم يشعر راني بالارتباك من قبل وهو يحدثه كما يشعر به الآن. أنكر ذلك على نفسه وقد انزعج بشدة لضربات قلبه القوية. حاول أن يتمالك نفسه ويخفي ذلك الاضطراب الذي حل به فجأة فقال دون تفكير مسبق:

- آنزا.. أين أنت يارجل؟! لماذا اختفيت هكذا وأغلقت هاتفك؟!

- راني؟!

- نعم.. أنا بجانب الدكتور رافي وهو من سلمني هاتفه لأتصل بك..

صمت آنزا من الجهة الأخرى ولم يعلق. نظر راني إلى الهاتف بين يديه ثم قال بهدوء:

- أعلم أنك أغلقت هاتفك لتتهرب من أسئلتي التي ترفض الإجابة عنها..

صمت قليلا دون أن يأتيه أي رد من الجهة الأخرى ليكمل بعدها بانفعال أكبر:

- يمكنني التنازل عن بعض الأسئلة لكن لابد لك من إخباري على الأقل أين أنت؟! إلى أين ستذهب وأين ستعيش؟! لا يمكنك تركي هكذا فجأة دون إخباري بمكانك.. هل تظن بأني سأتقبل الأمر بهدوء وأتجاوزه وكأنك شخص غريب عني؟! أخبرني.. هل كنت لتفعل ذلك لو كنت مكاني الآن؟!

جاءه صوته أخيرا من الجهة الأخرى وقد بدا أقرب للهمس وهو يقول بخفوت:

- راني.. لا تقلق.. سأنتقل إلى مكان آمن..

- اهذا يعني بأنك ستعود إلى دار الرعاية؟!

- كلا..

- إلى أين ستذهب إذن؟! هل قمت باستئجار شقة؟!

- يمكنك القول بأنه منزل جديد.. نعم..

صمت راني للحظات وقد جالت بباله أفكار كثيرة. رفع نظره إلى الهاتف بعدها ثم قال بصوت منفعل:

- ألهذا السبب كنت ترفض ترك عملك؟! لا تخبرني أنك منذ البداية لم تكن تنوي العيش مع عائلتك وكنت تخطط لاستئجار شقة لوحدك..

- لا.. الأمر ليس كذلك..

أجاب آنزا بتوتر. شعر راني به وكأنه يحاول خفض صوته قدر المستطاع، استغرب لذلك فقال بهدوء:

- هل أنت في المكتبة؟! لماذا تتحدث بهمس هكذا؟!

- لست في المكتبة لكني في مكان لا يمكنني أن أرفع صوتي فيه..

- مالذي يحدث معك آنزا؟! أين أنت الآن؟!

صمت آنزا للحظات ثم قال بصوت مكتوم:

- راني.. أخبرتك أن لا تقلق بشأني.. سأكون بخير..

- كيف تطلب مني أن لا أقلق وأنت ترفض إخباري عن مكانك وكأنك مختطف ومهدد بالقتل؟!

- أخبرتك أني بخير.. لماذا لا تصدق كلامي؟!

عض راني على شفته السفلى بغضب ثم قال بانفعال واضح:

- لأنك تعاملني وكأني شخص غريب عليك لم يقض كل حياته برفقتك.. تجعلني أشعر أن كل سنوات عمرنا التي قضيناها كالإخوة معا لا تعني لك شيئا أمام تلك الأسباب القوية التي لا يمكن لعلاقتنا الطويلة أن تكسرها بينما تنازلت عنها بسهولة أمام شخص دخل حياتك للتو..

ساد هدوء مرير في المكان بعدها وقد انتبه راني لزلة لسانه تلك والتي لم تكن مقصودة هذه المرة. رفع نظره إلى الدكتور رافي ليقابله هذا الأخير بوجهه البشوش المعتاد وقد أومأ له برأسه ليكمل كلامه. شعر راني بالحرج لما قاله عنه وهو الذي ساعده دون تردد منذ أول وهلة. صمت بعدها طويلا منتظرا الرد من آنزا لكن هذا الأخير لم يقل شيئا وآثر الصمت هو الآخر.

- أنت لم تعد تثق بي بسبب اتصالي بعائلتك.. تخشى أن أستمر في ذلك وأخبرهم بمكانك الجديد صحيح؟!

لم يجب آنزا مجددا ليبتسم راني بعدها بمرارة وقد أدرك إجابة تساؤلاته من صمته المطول ذاك.

- آنزا.. لا تكن وقحا وأجب على أسئلته..

التفت راني إلى الدكتور رافي وقد تفاجأ بشدة لكلامه المباغت هذا. لم يتوقع إطلاقا أن يتدخل مجددا لمساعدته بعد كلامه عنه قبل قليل. تراجع بعدها للخلف ليتكئ بظهره على الكرسي ويضع الهاتف على سطح المكتب بجانبه ثم يقول باستسلام:

- لا بأس.. لا يمكنني إجباره على الحديث.. شكرا لك دكتور..

مد الدكتور يده ليلتقط الهاتف وقد شعر بأن آنزا لن يتحدث مجددا لكنه توقف عندما جاءه صوته الهادئ من الجهة الأخرى وهو يقول:

- أنا آسف راني.. لا يمكنني إخبارك أكثر مما قلته.. لكن كن واثقا بأني سأعود بعد فترة أحتاج لقضائها بمفردي وسيعود كل شيء إلى طبيعته بإذن الله..

رفع الدكتور نظره إلى راني الذي بدا وكأنه كان يتوقع منه ردا كهذا. شعر به على وشك أن يقول شيئا لولا أن آنزا قطع الخط بعدها دون أن يسمح له بإخراج كلماته تلك.

أحس راني بصدره يضيق فجأة وقد زاده ذلك شعورا بالندم لما فعله قبل أيام. رفع الهاتف وأعاده للدكتور دون أن يعقب شيئا. نظر الدكتور إليه وهو يقول بعد أن رفع نظره إليه بهدوء:

- شكرا جزيلا لك دكتور على مساعدتي بالرغم مما قلته عنك قبل قليل.. أنا أعتذر على ذلك.. لم أقصد إهانتك..

ابتسم الدكتور بلطف ثم قال:

- لماذا تعتذر.. أنت لم تقل شيئا خاطئا.. كلامك عني صحيح ولا إهانة فيه..

ابتسم راني بهدوء ثم وقف وهو يقول:

- شكرا جزيلا لما فعلته لأجلي اليوم بالرغم من انشغالك.. سأغادر الآن.. إلى اللقاء..

أومأ الدكتور رافي برأسه مهتما ليغادر راني بعدها بنظرة اختلفت عن تلك التي دخل بها قبل قليل إلى نفس المكان.

تنهد الدكتور رافي بقوة بعد ذهابه ليقف هو الآخر ويتوجه إلى ذلك الباب على جانبه. لم يكن نفس الباب الذي خرج منه راني قبل لحظات وإنما باب آخر يؤدي إلى غرفة آخرى مجاورة لمكتبه.

فتح الباب بهدوء وسار بداخلها خطوتين ليلتفت بعدها إلى يمينه وقد لفته منظر ذلك الشخص أمامه.

كان جالسا على الأرض يتكئ بظهره على الحائط خلفه وقد أخفض رأسه محدقا في الأرض بشرود بعد أن اختفت ملامحه تحت خصلات شعره العشوائية. لا يزال هاتفه بيده اليمنى على الأرض بينما أخذ يفرك شعره بيده الأخرى بعصبية.

اقترب منه الدكتور رافي وقد تفاجأ لمنظره ذاك وكأنه لم يكن يتوقع حجم التأثير الذي قد تخلفه محادثة صغيرة كتلك عليه. انحنى إليه بهدوء ثم قال بعد أن وضع يده على كتفه بلطف:

- لقد ذهب.. يمكنك الخروج الآن..

رفع آنزا رأسه ليقابله بنظرته المنكسرة تلك. أومأ له ثم أبعد يده بهدوء ليقف بعدها مستجيبا لكلامه.

- لماذا لم تخبره عن المكان الذي ستنتقل إليه؟!

توقف آنزا قبل أن يغادر تلك الغرفة ليجيبه دون أن يلتفت إليه:

- لأن الأمر ما كان ليتوقف عند ذلك الحد فقط.. لن تتوقف أسئلته بعدها أبدا..

صمت قليلا ثم التفت إليه ليرمقه بنظرة عتاب شاردة وهو يقول:

- لماذا اتصلت بي؟! كان بإمكانك أن تمنحه أي عذر فهو لن يلح عليك كما يفعل معي..

ابتسم الدكتور رافي لذلك ثم قال وهو يقترب منه:

- لقد أخبرتك منذ البداية أنني لن أستطيع إخفاء الأمر عنه إن حدثته بنفسي.. ولو أنك لم تستجب لي وتركت هاتفك مغلقا لكنت أخبرته بأنك هنا وأحضرته إليك مباشرة..

تجاوزه ليخرج من تلك الغرفة ويعود ليجلس على مكتبه مجددا ثم يقول بهدوء:

- لا يمكن لأحد أن يحل هذه المشكلة غيرك.. وبالرغم من ذلك أنت لا تزيدها إلا تعقيدا..

لم يجبه آنزا وبقي واقفا في مكانه للحظات سار بعدها قاصدا المغادرة.

- ألا ترى بعد ما سمعته منه اليوم أنه يستحق معرفة الحقيقة؟! وبأنه مستعد لها؟!

استوقفه كلامه ذاك ليقف مطولا بعدها أمام باب الخروج. أمسك مقبضه ليضغط عليه بقوة ثم يقول بصوت منكسر دون أن يلتفت إليه:

- بلى.. لكني لست كذلك..

***

- راني.. هل أخبرت آنزا بالأمر؟!

- ليس بعد..

- لماذا؟! مالذي تنتظره؟!

- لم تسمح لي الفرصة بذلك فهو مشغول جدا هذه الأيام..

نظر إليه وهو يستلقي على فراشه الفوضوي واضعا رجلا فوق الأخرى يخفي نصف ملامحه خلف قلنسوة قميصه الكبيرة. يتصفح هاتفه ويجيبه على أسئلته دون أن يلتفت إليه. رفع ليث حاجبا وقد استغرب لتصرفه البارد ذاك فاقترب منه دون أن يلحظ راني ذلك ثم انخفض إليه مطلا على ما يشد انتباهه في هاتفه.

- كل هذا التركيز وهي مجرد لعبة..

قال ذلك بخفوت لينتفض راني متراجعا للخلف وقد فاجأه وجوده القريب أمامه. صرخ بعدها متذمرا وهو يلتفت إليه تاركا هاتفه على الفراش:

- مالذي تفعله؟! لقد فاجأتني حقا..

اعتدل ليث في وقفته، نظر إليه بانزعاج ثم قال:

- لقد بدوت مشغولا للغاية.. اعتقدت بأنك تحدث أحدهم..

تنهد راني بتذمر ثم قال وهو يعيد رفع هاتفه:

- لقد كنت على وشك الفوز لولا تدخلك.. هل أنت سعيد بهذا الآن؟!

- لا.. فقد خاب ظني بعد كل شيء..

تجاهله راني هذه المرة وأخذ يكمل اللعب بهاتفه من جديد. رمقه ليث بنصف نظرة ثم جلس على السرير المقابل له. أسند مرفقيه على ركبتيه وهو يقابله ويحدق فيه ثم قال بصوت حاد:

- مالذي حدث بينك وبين آنزا؟! هل تشاجرتما؟!

تفاجأ راني لسؤاله. التفت إليه بحذر ثم قال محاولا اخفاء ارتباكه:

- أخبرتك أنه مشغول بالدراسة لهذا لم أتمكن من فتح الموضوع معه ليس إلا..

تنهد ليث بقوة ثم ثبت نظره على راني ليقول بعدها بحدة:

- لا يمكنك إخفاء الأمر عني.. أعلم أن علاقتك بآنزا متوترة حاليا فقد لاحظت تغيرا في تصرفاتك مؤخرا..

توقف راني فجأة عن اللعب وترك هاتفه جانبا. نهض ليعتدل في جلسته وقد بدا الارتباك جليا على ملامحه وهو يقول:

- مالذي تقصده؟!

رفع ليث حاجبيه بثقة ليكمل بنفس النبرة:

- تهربك من الإجابة كلما سألك الأطفال عن آنزا وتعللك بكونه مشغولا إن ألح أحدهم عليك وأنت الذي كنت دائما ما تحدثنا عن أحداثكما اليومية في السابق.. شرودك المستمر وتحديقك في السقف لفترات طويلة.. وأكثر ما جعلني أشك في الموضوع هو انطفاء حماسك المفاجئ بشأن الحفلة التي نعد لها بينما كنت تتحرق شوقا لها في البداية..

كانت حدقتاه الزمرديتان تحدقان فيه بصدمة. لم يكن يتوقع إطلاقا أن ينتبه أحدهم لذلك وقد كان يظن أنه يجيد إخفاء ارتباكه ذاك. حدق فيه للحظات دون أن ينطق شيئا ليردف ليث مبتسما بعد أن لاحظ ارتباك راني:

- هل كنت تظن أنه باستطاعتك اخفاء الأمر عني؟! لا تكن ساذجا فأنا أعرفكما منذ مجيئكما إلى هنا..

نزع راني القلنسوة من على رأسه ليطرح نفسه بعدها على ظهره مستلقيا. تنهد بقوة ثم قال وهو يحدق في السقف:

- نعم معك حق.. بيننا بعض المشاكل الصغيرة.. لكن لا تقلق سأحلها قريبا فليست بالشيء الصعب..

- إذن فأنت ترفض إخباري عنها..

- أخبرتك بأنها امور تافهة لا تستدعي القلق..

وقف ليث حينها مبتسما أخرج هاتفه ثم قال بهدوء:

- إن كنت ترفض إخباري فسأضطر إلى سؤال آنزا شخصيا عنها.. سأتصل به الآن..

انتفض راني من مكانه عند سماع كلامه ذاك ووقف مرتبكا وهو يقول:

- لا.. توقف.. سأخبرك.. سأخبرك..

اتسعت ابتسامة ليث ثم عاد ليجلس مكانه وهو يقول:

- تفضل إذن.. كلي آذان صاغية..

جلس راني هو الآخر وأخفض رأسه بهدوء. أعاد قلنسوته ليغطي بها شعره الفوضوي ثم أخذ يسرد عليه ما حدث بينهما من البداية.

كان ليث يستمع إليه دون أن يقاطعه أو يعلق على أي نقطة من كلامه، وبالرغم من أنه تفاجئ من تصرفات آنزا إلا أنه لم يبد شيئا من ذلك. ابتسم بعد أن أنهى راني كلامه ثم قال بهدوء:

- أهذا كل شيء؟!

- نعم.. لذلك لا يمكنني أن أطلب منه القدوم لزيارتنا كما خططنا من قبل.. أعتقد أنه من المستحسن أن نؤجلها..

- نعم.. لا يمكنك ذلك في الوقت الراهن.. لكن..

رفع هاتفه وهو ينظر إلى راني ثم قال بابتسامة صغيرة:

- أنا يمكنني..

رفع راني رأسه متفاجئا وهو ينظر إليه يتصل بآنزا لكنه لم يوقفه هذه المرة وكم تمنى أن يرد عليه ويقبل عرضه.

- كيف حالك يا صاحبي؟!

وقف راني متفاجئا كونه رد عليه بالفعل فاقترب من ليث وأخذ يشير إليه كي يفعل مكبر الصوت ليستمع لكلامه هو أيضا.

ابتسم ليث لذلك واستجاب لطلبه وهو يقول:

- أين انت يا رجل لقد اختفيت كليا منذ ذهابك ونسيتنا بسرعة..

- لدي بعض الانشغالات بسبب الدراسة لهذا لم أتمكن من الاتصال بكم..

اتسعت ابتسامة ليث عند سماعه لذلك وأخذ يرمق راني بنظرة ذات معنى.

- أنت دائما مشغول بالدراسة.. لكن لابد لك من ان تخصص لنا بعضا من وقتك.. الأطفال ينتظرون زيارتك على أحر من الجمر..

- بالتأكيد.. سآتي لزيارتكم عندما اجد وقتا لذلك.. لكن حاليا لا يمكنني.. ربما الشهر القادم..

اختفت ابتسامة ليث بعد كلامه ذاك ليقول بعدها بصوت شعر آنزا بحدته من الجهة الأخرى:

- آنزا.. لا تنس أنك وعدت الأطفال بأنك ستأتي لزيارتهم كل أسبوع.. وقد مر الأسبوع الأول ولم تف بوعدك فيه.. والآن تخبرني بانك ستأتي بعد شهر!! أهكذا تفي بوعودك؟!!

صمت آنزا وقد أصابه كلامه بوخز في صدره. شعر ليث بأنه كان قاسيا عليه إلا أنه تعمد ذلك لسبب معين. صمت هو الآخر مفسحا المجال أمام آنزا، لكن هذا الأخير لم يجبه ومرت لحظات من السكون على ثلاثتهم.

- سأحاول المجيء في نهاية هذا الأسبوع..

أجاب آنزا أخيرا ليبتسم ليث حينها ويرد بحماس:

- رائع.. سأخبر الأطفال بذلك وسننتظرك جميعا..

أكد آنزا ذلك وتبادلا بضع كلمات بينهما ثم أغلقا الخط ليقف ليث بعدها ويلتفت إلى راني قائلا:

- لم يكن الأمر صعبا.. كان علي التحدث معه بنفسي منذ البداية..

نظر إليه راني للحظات ثم قال وهو يجلس على فراشه من جديد:

- لماذا لم تعلق على مشكلتي مع آنزا؟! لماذا لم توبخني على ما فعلته به؟!

- تقصد أمر تواصلك مع عائلته؟!

- نعم..

رفع ليث كتفيه ثم قال بدون تردد:

- لأني ببساطة لا أرى بأنك أخطأت فيما فعلته.. فلو كنت مكانك لفعلت الشيء نفسه معه..

تفاجأ راني لكلامه ولم يتوقع منه ذلك أبدا وهو الذي كان ولا يزال مقتنعا بأنه أخطأ خطأ كبيرا بحق آنزا ولا يدري كيف يصحح فعلته تلك.

ثبت ليث نظره على راني وقد أدرك شعوره بالذنب من نظراته تلك ليكمل كلامه مجيبا على دهشته البادية على ملامحه :

- في المقابل أرى أن آنزا هو المخطىء بحق عائلته.. فأين قد تجد عائلة محبة كهذه في ديجور تستقبل ابنها من هيرو وترحب به في بيتها بهذه الطريقة.. إنه محظوظ ولكنه لا يدرك ذلك..

صمت للحظة وقد لاحظ تغيرا في ملامح راني التي شردت عنه بعيدا. ضاقت عيناه وقد أدرك مشاعره، فليث كباقي الشباب ذوي الصفة المتنحية قد تم رفضه وطرده بعيدا من قبل عائلته. لقد نسي الأمر بالفعل بعد مرور سنين عديدة. لكن بالنسبة لراني، لم يكن ذلك بعيدا، قبل اربعة أشهر فقط، لا شك في أنه لم يتجاوز الأمر بعد ولا زالت تلك الذكرى تؤثر في نفسه. ابتسم ليث وقد جالت بذهنه صورته من الماضي. اقترب من راني ووضع يده على رأسه مربتا وهو يقول:

- لا تقلق.. ساحرص على أن أوبخه جيدا حتى يدرك حجم الخطا الذي اقترفه..

رفع راني رأسه متفاجئا. أبعد يده وهو يقول منتفضا:

- لا.. لا تفعل.. لا يجب أن يعلم بأني أخبرتك عن عائلته..

نظر إليه ليث ثم استدار مغادرا وهو يقول:

- نعم.. نعم.. أدرك ذلك..

وبمغادرته أمسك راني بقلنسوته وأخذ يشدها بقوة ليغطي بها ملامح وجهه كليا، ليتركها بعد لحظات ويعود إلى فراشه مستلقيا وقد ذهبت رغبته في اللعب كليا.

وفي مكان بعيد عنهما. كان آنزا يستلقي على فراشه ويعبث بهاتفه هو الآخر في تلك الغرفة الواسعة. نظر إلى السقف للحظات ثم ترك هاتفه جانبا وهو يطمئن نقسه قائلا:

- لا بأس.. سأكون على طبيعتي معهم ولن أشعرهم بأي شيء..

استدار بعدها على جانبه الأيمن لتقابله تلك التفاصيل الجميلة لتلك الغرفة. تأمل ألوانها الرخامية للحظات وعبارة واحدة تتردد على ذهنه:

- تفضل هذه ستكون غرفتك.. لا أحد يستعملها على كل حال..

كانت غرفة بسيطة، سرير واسع، مكتب صغير أنيق وخزانة ملابس متوسطة الحجم، لكنها كانت مميزة. تنتشر فيها أدوات طبية في كل مكان. استطاع آنزا تمييز بعضها وهو يجول بنظره فيها واحدة واحدة.

تنهد بعدها بهدوء وهو يتذكر ما حدث معه البارحة، كان يتذكر كل شيء بالرغم من غياب بعض التفاصيل إلا أن صورة وجه راني المرتبك كانت حاضرة بقوة في ذاكرته. تذكر عتاب الدكتور رافي له لاستهانته بموعده في المستشفى وتغيبه عنه وكان آنزا يسمع كل ذلك دون أن يعقب عليه شيئا. كان مدركا أنه أخطأ، وخطؤه هذا كلفه ما كان يخشاه منذ مدة طويلة. أن يشهد صديقه راني رؤيته في أسوء حالاته. كان قد شعر بتلك الأعراض وقد بدأت تداهمه وهو في المطعم رفقة راني لذلك انسحب من هناك بسرعة دون أن يدري أن انسحابه بتلك الطريقة جعل راني يتبعه ليطمئن عليه. كان عليه ان يبتسم أكثر، أن يطيل الحديث معه أكثر، أن يشعره بأنه بخير وبأن الخبر الذي جاء به لم يؤثر عليه كثيرا وبأنه غادر المكان لشيء يشغله. لم يتمكن من إخفاء تعبه وبعض الآلام التي بدات تظهر في نظرة عينيه فغادر مسرعا وكل همه أن يبتعد عن ذلك المكان كي لا يرى صديقه ما رآه بالفعل. والآن بات راني مدركا بأن جسده يشكو من أمر ما وإن لم يتمكن من الإفصاح عنه إلا أنه أصبح واضحا له أنه يخفي أمره، وازداد حجم الهوة بينهما لمعرفته بأمر الدكتور رافي وعلاقته به.

- ألا ترى بعد ما سمعته منه اليوم أنه يستحق معرفة الحقيقة؟! وبأنه مستعد لها؟!

تنهد بقوة وقد جال بخاطره كلام الدكتور رافي في ذلك المكتب المظلم، فتقلب على جانبه الأيسر في ذلك الفراش محاولا تجاهله لتقابله تلك الكومة الكبيرة من الكتب على سطح ذلك المكتب الصغير. نظر إليها للحظات ليتذكر تلك المكتبة الضخمة الأنيقة التي ملئت رفوفها بشتى أنواع الكتب وقد وضعت خصيصا له في غرفته، تساءل للحظة عن عناوينها وتمنى لو أنه منح نفسه وقتا من قبل ليتصفح بعضها فضولا منه.

قطع حبل أفكاره تلك صوت قرع باب الغرفة، نهض آنزا من فراشه وفتح الباب ليجد خلفه الدكتور رافي بابتسامته المعتادة. لمحه آنزا وهو يرتدي ملابسا مريحة غير تلك الخاصة بالأطباء التي اعتاد رؤيته بها كل يوم فبدا له فيها إنسانا آخر. ابتسم آنزا لمنظره ذاك ووقف منتظرا مراده ليدخل الدكتور رافي قاصدا ذلك المكتب في الغرفة فتح أحد أدراجه واستخرج منه علبة دواء وحقنة ثم التفت إلى آنزا قائلا:

- إنه موعد الحقنة..

سار آنزا مستجيبا ليستلقي على فراشه مجددا، كشف عن ذراعه ثم التفت برأسه إلى الجهة الأخرى متفاديا النظر إليه. ابتسم الدكتور رافي لتصرفه وقد اعتاد عليه، ولسبب يدركه لم يكن آنزا قادرا على رؤية تلك الإبرة وهي تخترق عروقه، فكان دائما ما يتجنب النظر إليها.

- من كان ليظن أن فتى مثلك سيصبح مطيعا بهذا الشكل..

علق الدكتور رافي بابتسامته وهو ينظر إليه يغمض عينيه بقوة إثر شعوره بالحقنة تخترقه. لم تكن هذه أول مرة يحقنه فيها لكن اليوم ولسبب ما شعر بألمه، وأخذت صورته قبل خمس سنوات تتجلى أمامه بقوة، يوم التقاه أول مرة. وضع الحقنة فوق المكتب بجانبه ثم ضغط على مكان الحقن بلطف وهو يقول:

- انتهيت، يمكنك أن تفتح عينيك الآن..

فتح آنزا عينيه والتفت إليه قائلا بهدوء:

- شكرا..

صمت قليلا ثم أردف:

- أنا آسف لإزعاجك في منزلك..

ابتسم رافي ورد وهو يقوم بإعادة الدواء إلى مكانه:

- لم يكن الأمر بيدك أصلا.. تعلم أني كنت لأخبر راني بكل شيء لو أنك رفضت المجيء إلى منزلي، وحينها كان لياتي إليك بنفسه ليعيدك إلى دار الرعاية..

صمت آنزا مطرقا وقد توقع كلامه ذاك، كان الدكتور رافي يعلم جيدا أنها نقطة ضعفه التي دائما ما يستعملها ضده كلما رفض طلباته ليستسلم له في النهاية دوما، فلم يكن آنزا قادرا على رفض طلبه هذه المرة أيضا بالرغم من أنه حاول إقناعه كثيرا بأن يسمح له بكراء شقة فلديه ما يكفي من المال إلا انه كان مصرا على قراره. لم يتقبل الدكتور رافي فكرة مغادرة آنزا لمنزل عائلته عندما أخبره بذلك، وقد نهره بشدة ورفض قراره، لكن آنزا لم يهتم لنهره ذاك وكان قد قرر بالفعل عدم العودة إليهم، فحتى نقطة ضعفه تلك لم تنجح في إقناعه بالبقاء، بل جعلته ينفعل أكثر وقد هدد بترك المدينة كاملة وعدم العودة إليها إن أخبر الدكتور صديقه راني. كان إصراره مخيفا وإن كان يدرك جزء بسيطا من السبب الذي قد يجعله يفكر بتلك الطريقة ليسمح له في النهاية بفعل ما أراده بشرط أن يأتي إلى منزله. هدأ آنزا بعدها وبالرغم من رفضه ذلك في البداية إلا أنه وافق فقط كي يستطيع الابتعاد عن عائلته.

التفت الدكتور رافي إلى آنزا وقد طال صمته ليقول بجدية أكبر:

- آنزا، توقف عن التفكير بأنك ستكون عبئا علينا، أخبرتك باننا لا نستخدم هذه الغرفة منذ البداية ثم إنك ستسهل علي الوصول إليك هكذا بدلا من البحث عليك في كل مرة لتذكيرك بمواعيدك في المستشفى.. سأشرف عليك بنفسي هنا..

أومأ آنزا برأسه وقد اعتدل في جلسته دون أن يعقب شيئا. نظر الدكتور رافي إليه بعمق ثم جلس بجانبه وقال :

- لا تقلق آنزا، ستشفى بإذن الله قريبا فلست أول حالة أعالجها، الأمر يتطلب وقتا فقط ويجب أن تتحمل..

لم يكن آنزا أول حالة يعالجها الدكتور رافي بالفعل، لكن ليس هذا ما كان يؤرق آنزا عميقا. كان شيئا أكبر بنظره، شيئا لا يمكن لكلمات بسيطة كهذه أن تخفف عنه ذلك الشعور الخانق الذي يلتف حول قلبه.

***

كان المطر غزيرا بشكل جعل الرؤية غير واضحة عبر نافذة تلك السيارة التي كانت تسير ببطء على إثر ذلك، كان يسير في طريق فرعي لا تقصده الكثير من السيارات ولا حتى المارة في الشوارع، فكان شبه خال في ذلك الوقت المبكر من الصباح.
لم يكن ليقطع ذلك الهدوء هناك سوى صوت قطرات المطر الغزيرة وهي تتصادم فوق سيارته بسرعة فائقة ولم يكن يسمع شيئا غيرها لولا أصوات الصراخ تلك التي أخذت تقترب شيئا فشيئا مع تقدم سيارته للامام. أوقف السيارة بعدها بلحظات وقد أخذ ينظر عبر نافذتها الجانبية لتلك المجموعة الصاخبة من الفتيان يلتفون حول شيء ما. مسح بخار أنفاسه من على زجاج النافذة كي يرى بشكل أوضح، للتتجلى أمامه الصورة كاملة. نزع حزام الأمام بسرعة وترجل من السيارة وأخذ يركض باتجاههم وقد فتح مظلته بحركة واحدة. انتبه إليه أحدهم فصرخ مخبرا زملاءه ليلتفت جميعهم إليه ثم يهربو جميعا قبل أن يسمحو له بالكلام. نظر الدكتور رافي إلى ذلك الفتى المطروح أرضا وهو يحاول الوقوف بصعوبة. كان جسده مغطا بالدماء والجراح التي لولا المطر لأصبحت الأرضية تحته حمراء، كان أنفه ينزف بشدة وجرح في رأسه كذلك وملابسه العلوية قد تمزقت أطرافها إثر ذلك الضرب المبرح. لم يكن قادرا على الدفاع على نفسه أمام تلك المجموعة الكبيرة من الفتيان الذين بدا بعضهم بعمره والبعض الآخر أكبر سنا. اقترب الدكتور رافي وهو ينظر إليه يحاول الوقوف بعجز وكأنه يحاول الهرب منه هو أيضا. انحنى إليه ووضع مظلته فوقه ليغطيه، ثم أخذ يتفقد جرح رأسه بيده الأخرى وهو يقول بقلق:

- جرح رأسك عميق، يحتاج لخياطة.. تعال معي بسرعة إلى المستشفى..

- لا..

صرخ الفتى وهو يبعد يده عن رأسه. نظر إليه بحدة ثم قال بنفس متقطع:

- لن أذهب إلى المستشفى.. اتركني بحالي..

- إن بقيت هكذا تنزف فسيغمى عليك بعد لحظات، ومع هذا الجو البارد قد تصاب بعدوى خطيرة تتسبب في هلاكك.. اسمع كلامي فانا طبيب..

نظر الدكتور إليه وقد رأى حالته تزداد سوءً مع ارتفاع وتيرة تنفسه، فلم يترك له خيارا وأمسك بذراعه مسرعا وأسندها على كتفه وأخذ يجره إلى سيارته دون أن يجد مقاومة منه وكأن قواه قد خارت بالفعل. فتح باب سيارته الأمامية وألقى بجسده المرتعش على المقعد الجانبي ثم جلس هو على مقعد السائق وأخذ يستخرج من ذلك الصندوق بجانبه علبة إسعافات أولية دائما ما تكون برفقته. كان الفتى يتابع حركاته بإرهاق واضح وقد شعر بالراحة لرؤيته يحمل أدوية وضمادات بيده ليكشف له أنه صادق بالفعل في ما قاله قبل قليل.
أخذ الدكتور رافي يعقم جرح رأسه ويضمده بهدوء وبالرغم من عمق الجرح إلا أنه لم يكن يبدو على ذلك الفتى الشعور بالألم، كان متكئا بظهره على الكرسي وهو يراقب حركات الدكتور رافي بتمعن دون أن يحرك ساكنا.

- ألا يؤلمك الجرح ؟!

نطق الدكتور رافي وقد استغرب لهدوئه العجيب، لم يجبه الفتى وإنما اكتفى بإعطائه نظرات غريبة، ثم قال بعدها بلحظات بعد أن أنهى الدكتور تضميد جرحه.

- اعتدت على ذلك..

شعر الدكتور رافي للحظة بالأسى عليه وقد اتضح جزء من حياته له. التفت يخبىء أدواته الطبية وهو يقول :

- لقد قمت بإيقاف النزيف فقط، لا زلت تحتاج ألى خياطة.. سآخذك معي إلى المستشفى..

- لا يمكنني الذهاب إلى هناك.. لن افعل..

- لماذا؟! هل هناك شيء تخشاه هناك؟!

تقدم الفتى بجسده للأمام بصعوبة وقد بدا أنه يحاول المغادرة. أمسك الدكتور رافي بكتفه واعاده إلى مقعده وهو يقول بحسم:

- توقف، سآخذك إلى أقرب صيدلية لأشتري الأدوات اللازمة وسأقوم بخياطتك بنفسي..

سكن الفتى لكلامه ولم يعلق، لينطلق الدكتور رافي بسيارته مسرعا إلى أقرب صيدلية في المكان. لم يستغرق وقتا طويلا حتى ترجل من السيارة واشترى ما يلزمه من أدوات. أخفض ظهر الكرسي الأمامي للوراء ليستلقي فيه الفتى بوضعية أفضل ثم شرع الدكتور في خياطة جرحه بمهارة عالية. شعر به بعد لحظات يغلق عينيه بقوة وقد أدرك إحساسه الكبير بالألم هذه المرة. تجاهل منظره ذاك مركزا على عمله وهو يقول:

- تحمل قليلا بعد وسينتهي كل شيء..

دقائق مرت على ذلك ليضع الدكتور رافي تلك الضمادة الكبيرة على الجرح معلنا نهاية الخياطة. شعر بملامح وجهه وقد ارتاحت مع زوال ذلك الألم فابتسم متنهدا واعتدل في جلسته ليقابل مقود السيارة ثم يقول:

- أحمد الله أني وصلت إليك في الوقت المناسب..

التفت إليه مجددا ليرى نظراته تلك وهي تحدق فيه بعمق. ابتسم الدكتور رافي ثم قال بهدوء:

- إذن أخبرني.. مالذي حدث لك هناك؟!

نظر إليه الفتى نظرة متعبة ثم التفت برأسه إلى النافذة بجانبه ولم يجبه. حافظ الدكتور رافي على ابتسامته وكأنه توقع تصرفه ذاك ثم أكمل بنفس النبرة:

- الجرح في رأسك عميق.. لا يمكن لقبضة يد عارية أن تسببه.. هل هي الحجارة أم العصا؟!

لم يحرك الفتى ساكنا فاستمر الدكتور بالكلام غير آبه بصمته:

- هل اعتدو عليك صدفة أم أنك تعرفهم؟!

التفت إليه الفتى مجددا وأخذ يرمق وجهه بشكل غريب دون أن ينبس ببنت شفة. بدا وكأنه مستغرب من استمرار حديثه ذاك دون توقف.

- واضح أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا معك.. هل يعرف والداك بشان هذا الأمر؟!

شبح ابتسامة ساخرة ظهرت على ثغره إثر سؤال الدكتور الأخير جعلته يلتفت إليه وقد بدا له أنه سيتحدث أخيرا.

- هما لا يعرفان شيئا عني..

صدم الدكتور رافي لجوابه ذاك وقد بدا أنه لم يتوقعه. نظر إليه وهو ممد على ذلك الكرسي بالكاد يستطيع حمل جسده عليه، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي تحمل معانٍ كثيرة.

- سيدي.. أنا بخير.. لقد تشاجرت فقط مع رفاقي وسأعود إليهم في النهاية فلا تضخم الأمر..

فهم الدكتور رافي قصده وقد أخذ يشعر بالأسى عليه. التفت إلى المقود أمامه ثم قام بتشغيل السيارة وانطلق بها وهو يقول:

- أرشدني.. ساعيدك إلى منزلك..

لم يعلق الفتى على كلامه وبدلا من ذلك أخذ يحدق فيه طوال الطريق دون ان يحرك نظره عنه. شعر الدكتور رافي بنظراته تخترقه فالتفت إليه للحظة ثم عاد ببصره للطريق وقال:

- لم تخبرني بعد ماهو اسمك؟!

كان يستغرق مدة من الزمن في كل مرة يجيبه فيها وكأنه يفكر كثيرا قبل أن يجيب. لاحظ الدكتور رافي ذلك وقد بدا له أنه غير واع بشكل كبير إثر نزيف رأسه.

- آنزا..

أجابه الفتى بصوت خافت ثم تقدم للأمام فجأة دون ان يمنحه فرصة للتعليق عليه، التفت إليه للحظة رمقه فيها بنظرة خالية من أي تعبير ثم نزع حزام الأمان فجأة واستدار للجهة الأخرى ممسكا بمقبض الباب ليفتحها على حين غرة في ذلك الطريق المليء بالسيارات. ارتعب الدكتور رافي لذلك وكاد يفقد توازنه في القيادة وهو يرى من بجانبه سيقفز من السيارة بتهور مع سرعتها تلك. صرخ بقوة باسمه وقد أمسك ذراعه بيده اليمنى مانعا إياه من القفز ريثما يجد فرصة مناسبة لإيقاف السيارة. قاومه آنزا للحظات محاولا تخليص ذراعه منه لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب ضعف جسده فاستسلم له وهو يراه قد أخفض السرعة راكنا السيارة في مكان مناسب.
توقفت السيارة ببابها المفتوح على ذلك الجانب تحت الشجرة. التفت الدكتور رافي إليه بصدمة، طالعه للحظات وقد كاد قلبه يتوقف لتصرفه ذاك ثم قال بانفعال واضح:

- هل جننت؟! مالذي كنت تحاول فعله؟! هل كنت تريد الموت؟!

لم يكن على طبيعته، وبالرغم من أنه لا يعرفه إلا انه كان واضحا له أن ملامحه الخالية من أي تعبير لم تكن طبيعية. كان منهارا على ذلك الكرسي وكأنه لم يعد قادرا على حمل جسده، ينظر بعينيه الشبه مفتوحتين إلى الطريق أمامه بعيدا. لم يتكلم ولم يجبه ولم ينظر إليه حتى. صرخ الدكتور رافي بقوة أكبر كي يحثه على الكلام:

- أجبني، مالذي كنت تنوي فعله؟! كنت على وشك الموت لو لم أتدخل وأمنعك.. ما كنت لتنجو أمام كل تلك السيارات..

التفت إليه أخيرا على إثر صراخه ذاك ثم قال بنبرة هادئة:

- لا تقلق سيدي، لن يتهمك أحد بالقتل..

راى ذلك في عينيه، لم تكن نظرته نظرة شخص واعٍ، ولا تصرفه الطائش ذاك. أكان ينوي قتل نفسه حقا أم هو الجرح الذي في رأسه سلب منه وعيه. لكن مما لا شك فيه أنها ليست المرة الأولى التي يرى فيها نظرة كتلك. فهم الدكتور رافي شيئا من كلامه جعله يسكن فجأة ويعود لهدوئه السابق. وضع رأسه على مقود السيارة وتنهد بقوة ثم قال بهدوء:

- لا اعلم مالذي يمر به فتى مثلك في حياته.. لكني مدرك أنها ليست سهلة على الإطلاق..

صمت للحظات ثم رفع رأسه واستدار إليه وأكمل بابتسامة حزينة:

- آنزا.. هل تعرف الله؟!

هدوء غريب أحاط بهما في تلك السيارة السوداء بجانب الرصيف، توقف المطر عن الهطول وبقي أثره على الطريق وعلى نوافذ السيارة. تغيرت نظرته تلك إلى أخرى ظهرت الدهشة جلية عليها. لم يكن ليتوقع سؤال كهذا، بل ولم يفهم معناه والمغزى من طرحه. رمقه طويلا دون إجابة وكأنه يحاول استيعابه جيدا، لكنه أدرك متأخرا انه لا معنى من محاولة فهمه. مالذي يفعله حقا مع هذا الرجل الغريب الذي أنقذه للتو. ابتسم بعدها وقد تذكر بانه أنقذ حياته مرتين بالفعل فقام معدلا جلسته ثم استدار إليه وقال بنفس الابتسامة:

- شكرا لك سيدي على معالجتي.. منزلي قريب من هنا لذلك سأكمل مشيا على الأقدام..

وقبل أن يمنحه فرصة للرد نزل من السيارة وذهب مبتعدا دون أن يستدير مرة واحدة للخلف. نسي آنزا كل شيء حدث في تلك السيارة بابتعاده عنها فكان حادثا عابرا في حياته لم يمنح نفسه فرصة للتفكير فيه مجددا ونسي ذلك الدكتور الذي عالجه يوما تحت المطر لمدة طويلة قبل ان يأتي اليوم الذي يجمعه به مجددا بعيدا عن ذلك الجو الماطر.




Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top