الفصل التاسع : قرار
كانت تراقب تحركات ذلك القلم أمامها وهو يكتب العديد من الجمل بسرعة لم تدركها، ما كانت لتفهم معناها وقد غاصت بأفكارها بعيدا عمن حولها. كان القلق ينهشها من الداخل وإن كانت لا تبديه وهي تتصنع حسن الاستماع لشرح صاحب القلم وقلبها في مكان آخر.
نظرت إليه يضع قلمه أخيرا بعد وقت طويل من الكتابة ليجلس بعدها منتظرا منها ومن أقرانها نقل ماهو مكتوب على تلك اللوحة الضخمة المقابلة إليهم.
تنهدت نورسين بقوة جعلت أجوان تنظر إليها للحظة ثم تعود مجددا للكتابة. لم تكن لتظهر تلك المشاعر التي تنهش قلبها بعنف وهي وسط أشخاص لا يدرون شيئا منها. أصبح قلقها شديدا منذ اليوم الذي تلقت فيه تلك الصدمة التي أخفاها عنها والداها. الحقيقة مخيفة وإن كانت ماهرة في إخفاء خوفها إلا أنها لم تنجح بذلك عند عودتها إلى المنزل ليلة البارحة. لم تستطع كبح مشاعر الخوف تلك فأغلقت عليها غرفتها وقصدت النوم هروبا منها. كان قلبها يرتعش بقوة وهو يتذكر كلمات جدة أويس، تمنت بشدة أن يكون كلامها خاطئا وبأن تتصل والدتها في اي وقت تطمئنها فيه بأن كل شيء كان مجرد وهم. قالت أنها تشعر بالتعب فخلدت للنوم باكرا وإن أبى النعاس أن يزور جفنيها، وهاهي اليوم تستيقظ من جديد لتعود لها تلك المشاعر وقد تضاعفت بقوة مع اختفاء أخيها آنزا من المنزل. لقد قررت بالفعل أن تنام في غرفته البارحة لعل ذلك يجعله يدرك إلحاحها ومدى أهمية فتحه للكاميرا ذلك اليوم. أخبرته فيها بكل شيء سمعته من الجدة جوري وصورت كل شيء بمفردها هذه المرة بعد أن نامت خالتها. لم تكن لتبدي خوفها لآنزا، فقد جاهدت نفسها كثيرا على ذلك كي لا تدخل إلى قلبه رعبا كما أدخل إلى قلبها، ثم نامت بجانب الكاميرا في غرفته عله يستمع ولو مرة واحدة لصوتها ويدرك ذلك الخطر الذي يحدق بها وبزملائها من حيث لا يدرون. لكنها استيقظت اليوم وقد اختفى كليا من المنزل. ارتعبت لذلك وخالتها وقد ذهبت بها أفكارها إلى أسوء الاحتمالات.
هل كانوا مراقبين البارحة يوم أخبروا بالحقيقة؟!
هل علم المعهد أنهم يخططون للهرب فقاموا بخطف آنزا كوالديه ليكونوا أسرى لديهم يهددونهم بهم؟!
العديد من التساؤلات خطرت ببالهما ذلك المساء وقد ازداد توترهما بشكل مخيف.
انتهت الحصة الأولى لذلك اليوم وإن لم تدرك نورسين منها شيء. الفتت إليها أجوان كعادتها وأخذت تحاورها دون أن تشعر بأي خطب بها:
- امنحيني دفترك.. لم أكمل نقل كل شيء لقد كان الأستاذ سريعا..
أخذت دفترها دون أن تجيبها نورسين، نظرت إليه باستغراب ثم قالت:
- ألم تكملي الكتابة أيضا؟!!
نظرت إليه بإمعان أكثر ثم أكملت:
- نورسين.. مالذي كنت تفعلينه؟! أنتِ لم تكتبي إلا المقدمة.. والباقي كله خربشات..
ابتسمت نورسين بتكلف ثم قالت بهدوء:
- نعم.. لم أتمكن من اللحاق به فاستسلمت وتوقفت عن الكتابة..
رمقتها أجوان باستغراب لتكمل نورسين مستدركة بابتسامة أكبر:
- اعتقدت أنكِ أكملتِ كل شيء فأنتِ لم تتوقفي عن الكتابة منذ دخولنا..
رفعت أجوان أحد حاجبيها غير مقتنعة بكلامها ثم أومأت برأسها والتفتت إلى الفتاة التي تجلس خلفها لتستعير منها دفترها.
مرت لحظات على ذلك، كانت نورسين تشعر فيها بأشواك تخترقها. لم تأب تلك المشاعر المؤذية أن تختفي حتى بعد دخولها في جو الدراسة.
اجتمعت الفتيات حولها وحول أجوان التي كانت مركز اهتمامهن جميعا بأحاديثها المسلية. كانت تتحدث ببرودتها المعتادة دون أن تشعر بتلك الشعلة الملتهبة بجانبها. كانت نورسين صامتة تسايرهن أحيانا في أحاديثهن بصعوبة.
لم يكن موقفا سهلا، أن تجبر على إبداء نقيض ما يشتعل في داخلك لتخفيه عن الجميع، لا لأنك لا تريد لهم أن يعلموا بما يعتريك وإنما لكونهم لن يفهموا حتى ولو صارحتهم بذلك. لن يفهمها ولن يصدقها أحد وإن صرخت في وجوههم جميعا.
نظرت إلى ملامحهن واحدة واحدة وقد أخذ كلام الجدة يتكرر أمامها باستمرار. جميع من يحيطون بها الآن من عائلات هجينة وجميعهم في خطر محدق يقترب منهم يوما بعد يوم وهم يجهلون ذلك. يتحدثون عن أتفه المواضيع ويضحكون عليها بجهل، دون أن يشعر أحد منهم بحجم الخطر الذي يداهمهم شيئا فشيئا. نظرت إلى ملامح وجوههم الضاحكة، مرت بخاطرها صورة لها وقد اعتراها الخوف، وارتفعت صرخاتهم برعب، قبل أن يلقوا حتفهم جميعا.
نفضت رأسها بقوة مبعدة تلك الأفكار السوداء وقد شعرت للحظة بالغضب لذلك. كانت تدرك أن مشاعر الغضب تلك ستتغلب عليها يوما ما ولن تنجح في إخفاء الأمر أكثر حينها.
أخذت نفسا عميقا بعدها ثم التفتت إلى حيث يجلس أويس. الشخص الوحيد الذي يحمل معها هذا العبء في هذا المكان. شعرت بالراحة للحظات عندما تذكرت وجوده، فأن يكون شخص آخر غيرها يعلم بالحقيقة وسط جهل كل هؤلاء لهو أمر مريح ولو بشكل بسيط. كانت ترغب بشدة في إخباره عن أمر اختفاء آنزا، لكنها لم تكن لتتمكن من فعل ذلك أمام الحشد من الطلاب.
ابتسمت بعدها بصدق عند رؤيته يتناوش مع أصحابه في نهاية الفصل. كانت تلك عادته التي لم يتخلص منها أبدا. كان يتحدث بكل ما يجول بخاطره دون أن يلقي بالا للشخص الذي يخاطبه. صديقه بيجاد يبتسم كعادته هو الآخر ويلقي تعليقات إضافية على كلام أويس بين الحين والآخر.
ابتسمت لتصرفات أويس التي بدت وكأنه لم يكن نفس الشخص الذي انفجر البارحة في وجههم جميعا عند معرفته بالحقيقة. هو يخفي ذلك بالتأكيد، كما تخفيه هي. الأمر صعب، لكن لا بد منه، ريثما يجدان حلا لإخبارهم جميعا.
دخلت الأستاذة هتون مسرعة بعد لحظات من ذلك ليعود كل شخص إلى مكانه. حاولت نورسين الانتباه أكثر إلى درسها ونسيان الموضوع. جاهدت نفسها على ذلك وقد ساعدها أسلوب الأستاذة السلس.
مرت لحظات ولحظات، لتنتهي بعدها الحصة وتخرج الأستاذة مسرعة كما دخلت مسرعة.
وقفت نورسين باستعجال وهي تراقب خروج الأستاذة لتلحق بها دون أن تفسر لأجوان شيئا وهي تراقبها باستغراب..
لم تكن أجوان الوحيدة التي انتبهت لذلك، فقد لاحظ أويس كذلك خروجها المفاجئ والسريع من الفصل. وقف بعدها وأخذ يتمدد بقوة، التفت نحو بيجاد ثم قال بهدوء:
- سأعود بسرعة..
نظرت نورسين إليها وهي تبتعد في ذلك الرواق الطويل ثم نادت عليها وهي تسارع خطواتها.
التفتت إليها هتون لتتوقف بعدها وتستدير إليها باسمة كعادتها. قالت نورسين بصوت هادئ:
- أستاذة هتون، أريد سؤالك إن كان لديك معلومة بشأن المدارس التي سيتم اختيارها هذا العام من أجل الرحلة الطلابية للمريخ..
قطبت هتون حاجبيها وقد فاجأها الموضوع بشكل لم تتوقعه. تفحصت ملامح نورسين للحظات ثم أجابت بتأن:
- لا.. لم أسمع بشيء عنها.. فلا أحد يتحدث عنها هنا.. لماذا تطرحين هذا السؤال الغريب؟!
صمتت نورسين للحظات نظرت فيها حولها ثم أعادت نظرها إليها وأكملت بجدية بالغة:
- إن سمعتِ شيئا بشأنها رجاءً أخبريني..
لاحظت هتون ارتباك نورسين والتفافها إلى من حولها قبل أن تتحدث بصوتها المنخفض، ولم تكن لتتجاهل ذلك ببساطة هكذا. نظرت إليها للحظات ثم قالت بهدوء:
- هل تنتظرين أن يتم اختيار مدرستنا هذا العام؟!
صمتت نورسين دون أن تبعد نظرها عنها. لم تتمكن من الإجابة وقد تمنت للحظة أن تقول عكس ما يردده الجميع. رمقتها هتون بعمق وقد شعرت أنها تؤكد كلامها من خلال نظراتها تلك فابتسمت بهدوء وقالت:
- مستحيل أن يحدث ذلك نورسين.. لسنا قادرين على تسديد تكاليفها.. سيتم اختيار مدارس خاصة كما يحدث كل عام..
كان واضحا أنها ستقول كلاما كهذا. أومأت نورسين برأسها مستدركة بعد أن كادت تفلت ما بداخلها لثانية لولا أن الأستاذة سبقتها لتنفي الحقيقة في لحظة واحدة. ابتسمت بعدها ثم قالت بهدوء:
- أكيد.. أنا لم أقل عكس ذلك..
صمتت قليلا ثم شكرتها لتبتسم هتون ثم تستدير مكملة سيرها إلى قاعة الاجتماعات، لكنها لم تكد تخطو خطوتين للأمام حتى نادتها نورسين مجددا. التفتت إليها باستغراب شديد لتنطق نورسين وقد بدت الجدية واضحة على ملامحها:
- إلى أي مدى يمكنكِ الوصول في تصديق طلابكِ؟!
تفاجأت هتون بشدة لسؤالها الغريب هذا. نظرت إلى ملامحها الجدية تلك وقد شعرت أن جوابها ستبنى عليه الكثير من الأمور من طرفها، فابتسمت ثم اقتربت منها أكثر وقالت بصوت واثق:
- يعتمد ذلك على الطالب نفسه.. هناك من يكذب بلا مبالاة وهناك من يكذب ثم يشعر بالندم، وهناك من لا يكذب إلا خطأ..
صمتت قليلا تأملت ملامح نورسين للحظات ثم أكملت بنفس النبرة:
- أما أنت يا نورسين، فأراك من الصنف الثالث..
ابتسمت نورسين بصدق لسماع تلك الكلمات ثم شكرتها مجددا وانصرفت عائدة إلى الفصل.
شعرت للحظات في طريقها إليه بالقوة تغمرها. إن نجحت في إقناع الأستاذة هتون وقامت بتصديقها فسيكون أمر إخبار بقية زملائها في الصف أسهل بكثير. شعرت بسعادة لذلك وقد أخذت تطمئن نفسها بأن كل شيء سيكون على مايرام.
- أتنوين إخبارها؟!
جاءها صوته الحاد من الخلف في ذلك الرواق الواسع. أدركت صاحبه بسرعة قبل أن تلتفت إليه. نظرت إليه يقف بجانب فصل آخر ثم قالت بهدوء:
- هل قمت باللحاق بي؟!
- نعم.. لقد سمعت كل شيء..
صمتت للحظات ثم قالت:
- سأخبرك بكل شيء لاحقا.. فلسنا في المكان المناسب لنتحدث فيه..
رفع أحد حاجبيه مستنكرا ثم قال وقد أخذ يسير باتجاهها بلا مبالاة:
- لا أحد يمكنه فهم ما نقوله هنا.. أخبريني أي شيء قد تنوين فعله.. ولا تفعلي كل شيء بمفردك فقد تخطئين..
نظرت إليه وهو يتخطاها ويسير متوجها إلى الفصل لتقول حينها بصوت متردد:
- لقد اختفى آنزا هذا المساء..
توقف أويس عن السير ثم التفت إليها وقد اتسعت عيناه بقوة.
- مالذي تقولينه؟!
- لقد بحثنا عنه في المنزل كاملا ولم نجد له أثرا.. حتى أن حقيبته التي يأخذها معه عادة لا تزال في المنزل..
- مستحيل!! هل قاموا...
- لا.. لا تقل شيئا..
قاطعته نورسين بقوة ثم سارت باتجاهه وتخطته دون أن تنظر إليه وهي تقول بخفوت:
- قد نكون مراقبين.. سآتي إلى منزلكم فجر هذا اليوم وسأقص على الجدة جوري كل شيء..
نظر إليها أويس وهي تبتعد شيئا فشيئا، عض على شفته السفلى بتوتر ليهمس بعدها بحنق:
- تبا لهم..
***
- إذن.. مالذي ستخبرينني عنه؟!
وقفت نورسين في ذلك الشارع المزدحم ونظرت إلى أجوان التي بدا عليها الفضول جليا على ملامحها. شعرت بضربات قلبها تتضاعف وهي ترمقها وقد أخذ التردد يتسلل إليها شيئا فشيئا، لتنطق أخيرا بصوت هادئ:
- لقد اختفى آنزا من المنزل..
غيرت رأيها في آخر لحظة ولم تتمكن من إخبارها الحقيقة كاملة. لم تكن تشعر بأنها قادرة على تحمل مسؤولية الصدمة التي ستعتلي ملامحها الناعسة وتكون سببا في إدخال الرعب إلى قلبها. فكرت كثيرا في ذلك ليلة أمس وقد قررت إخبارها بغض النظر عن النتائج، فهذه هي الحقيقة وعلى الجميع تقبلها وتجاوز مشاعر الخوف تلك. لكن مواجهتها اليوم وجها لوجه جعلها تتردد وهي تنظر إلى ملامحها الهادئة، لتغير رأيها بسرعة على إثرها وقد خطرت ببالها فكرة أهون بكثير من إخبارها بنفسها مباشرة.
- ماذا تقصدين؟!
ارتبكت نورسين لكلامها وقد استيقظت على إثره من تفكيرها العميق ذاك لتقول بارتباك واضح:
- لقد استيقظت مساءً ولم أجده في غرفته.. وبحثت عنه في المنزل بأكمله ولم أجده.. لست أدري مالذي حدث معه..
- ألهذا السبب لم تكوني على طبيعتكِ اليوم ؟!
- ألاحظتِ ذلك؟!
- نعم أكيد.. لم يكن ليشعر أحد بتلك التفاصيل التي صدرت منكِ اليوم سواي.. شعرت بأن هناك خطب ما وكنت أنتظر منكِ أن تتحدثي أولا..
ابتسمت نورسين بتكلف وقد ازدادت ضربات قلبها بشدة. أكملت أجوان كلامها ببرود:
- لا أصدق أنكِ تقلقين على شخص مثله وهو الذي ضرب بكم وباهتمامكم به عرض الحائط.. لا أراه شخصا يستحق ذلك.. فهو بعد كل شيء قد غادر المنزل دون أن يكلف نفسه عناء إخباركم بالأمر..
نظرت إليها نورسين نظرة عميقة وقد تمنت من أعماقها أن يكون كلامها صحيحا وأن يكون آنزا قد غادر المنزل من تلقاء نفسه بالفعل. أكملت أجوان وقد وضعت يدها على كتف نورسين :
- لا تقلقي نورسين.. لا شك في أنه قد ذهب للمبيت عند أحد أصدقائه ليلهو قليلا.. أو ربما اشتاق إلى منزله ورفاقه في دار الرعاية فذهب لزيارتهم وقضاء بعض الوقت معهم..
صمتت قليلا ثم أكملت بجفاء :
- سيعود أخوكِ الأناني ذاك قريبا.. لا داعي للقلق..
ابتسمت نورسين لها وأومأت برأسها ثم أزاحت يدها من على كتفها وأمسكتها بقوة وقالت بصوت حاد:
- أجوان.. تعالي معي الآن..
- إلى أين؟!
- سأخبركِ لاحقا.. تعالي معي فهناك أمر مهم ينتظركِ هناك..
استغربت أجوان لكلامها بشدة. نظرت إلى يدها الممسكة بها بقوة ثم قالت بتلقائية:
- سآتي معكِ.. لكن أخبريني قبلا إلى أين..
أمسكت نورسين يدها بقوة وأخذت تجرها خلفها وهي تهرول بين تلك الحشود من الناس لتقول بعدها بلحظات وقد أخفضت صوتها لتسمعه أجوان فقط:
- سنذهب إلى منزل أحدهم..
لم تعقب أجوان على كلامها هذا وسارت معها دون أن تحاول فهم المزيد. كانت تدرك أنها ستعرف كل شيء قريبا وأنه أمر بالغ الأهمية له علاقة بأخيها آنزا.
بعد مدة معينة توقفت نورسين أمام منزل كبير تحيطه حديقة صغيرة أنيقة. نظرت إليها أجوان باستغراب ثم قالت:
- منزل من هذا؟!
عبرت نورسين تلك البوابة الزجاجية المفتوحة لتدخل إلى حديقة المنزل. التفتت إلى أجوان بعدها مشيرة لها بالدخول ثم قالت بابتسامة:
- إنه منزل أويس...
اتسعت عينا أجوان بشدة وقد صعقت لسماع اسمه من بين كل الأسماء التي تعرفها. اقتربت إليها وقالت بصوت خافت:
- نورسين.. مالذي تقولينه؟! هل حقا هذا منزل أويس؟!
أومأت لها نورسين لتكمل أجوان بصوت أقرب إلى الهمس:
- هل جننتِ؟! تحضرينني إلى منزل أويس من دونهم جميع؟! فلنعد بسرعة قبل أن يسمعوا أصواتنا ونقع في مشكلة..
استدارت نورسين وأكملت سيرها نحو ذلك الباب خلفها متجاهلة كلامها. وصلت إليه ثم طرقت عليه بضع طرقات والتفتت إلى أجوان التي كادت تهرب بعد طرقها للباب لتبتسم بعمق وتقول:
- تعالي أجوان.. فلدى جدة أويس ما تخبرك إياه..
ارتبكت أجوان بشدة لكلامها الأخير هذا وإن كانت تستنكره، فهي لا تعرف جدة أويس لتخبرها بأمر مهم كما تقول. اقتربت إليها بخطوات بطيئة وهي تنظر إلى الباب أمامها ينفتح بهدوء ليظهر خلفه أويس بملامحه المقتطبة المعتادة.
دهش أويس لرؤية أجوان خلف نورسين. رمقها بنظرة ثاقبة ثم قال موجها كلامه لنورسين:
- لماذا أحضرتها معك؟!
- أريدها أن تقابل الجدة جوري..
رمقتهما أجوان باستغراب وقد ازداد ارتباكها لكلامهما هذا. تنهد أويس بقوة ثم قال:
- لقد طلبت منكِ أت تعلميني قبل أن تفعلي أي شيء..
ابتعد عن الباب ثم أكمل:
- اتبعاني..
دخلت نورسين أولا ثم تبعتها أجوان بتردد وقد أزعجها تصرف أويس الفظ معهما. قادهما أويس إلى نفس الغرفة التي اجتمعوا فيها البارحة. دخل أولا وجلس بجانب جدته التي ابتسمت عند رؤيتهما خلفه وقالت:
- يبدو أنكِ أحضرتِ صديقتكِ أيضا.. لقد جئتما في الوقت المناسب..
تفاجأت نورسين وأجوان بشدة وهما تنظران إلى ذلك الفتى الجالس بمحاذاة أويس والذي بدت عليه هو أيضا الصدمة لرؤيتهما. أدركت نورسين عند رؤيته أن أويس قد توصل إلى نفس الفكرة التي أحضرتها إلى هنا، فيبدو أنه قد أحضر صديقه بيجاد هو الآخر لتخبره الجدة بالحقيقة بدلا منه.
جلست نورسين وأجوان على تلك الأريكة المقابلة للجدة بعد أن أشارت لهما هذه الأخيرة بذلك.
نطق بيجاد بعدها مستغربا:
- أويس.. مالذي يحدث هنا؟! لماذا نورسين وأجوان في منزلك؟! هل تربطك بهما أية علاقة؟!ِ
نظر إليه أويس نصف نظرة وقد أزعجه كلامه الأخير ليعلق ساخرا بعدها:
- لو كان الأمر بيدي ما سمحت لهما بالدخول..
انزعجت أجوان وقد رمقته بحدة، أما نورسين فقد بدا عليها أنها لم تعد تكترث لكلامه الوقح.
- ويحك أويس، إنهم ضيوفنا..
صمت أويس على إثر كلام جدته ذاك لتكمل بدلا عنه مجيبة على بيجاد:
- نورسين جارتنا وأمها صديقتي.. وقد أحضرت صديقتها اليوم كما أحضرك أويس لأجل أمر مهم..
تبادل بيجاد وأجوان نظرات استغراب ثم أعادا بصرهما إلى الجدة التي أكملت كلامها بنفس النبرة:
- الموضوع يخص الرحلة الطلابية التي يتم تنظيمها للمريخ كل عا..
وقفت نورسين ولم تكد الجدة تنهي كلامها بعد. التفت الجميع إليها بتفاجؤ لتنتبه إلى نظراتهم تلك. لم تستطع السيطرة على نفسها في تلك اللحظة وقد تخيلت كل تلك المشاعر التي شعرت بها البارحة تمر أمامها من جديد. نظرت إليهم للحظات مرتبكة ثم ابتسمت بوهن وقالت:
- أعتذر على المقاطعة.. شعرت بالتعب للحظة.. يمكنكِ الاستمرار..
أغبى عذر خطر ببالها. شعرت بالارتباك أكثر عندما قرأت الاستغراب على وجوههم. جلست بعدها وصمتت متجنبة النظر إليهم مجددا.
- يمكنكِ غسل وجهكِ إن كنت تشعرين بالنعاس.. الحمام في آخر الرواق على اليمين..
قالت الجدة ذلك مبتسمة، شعرت بها ربما.
استجابت نورسين لذلك وقد أومأت برأسها دون أن تعقب شيئا. غادرت الغرفة بعدها مسرعة وقد تضاعفت ضربات قلبها بشكل مريع.
- "جبانة"
تمتم أويس بينه وبين نفسه بصوت خافت بعد رحيلها لتبدأ الجدة بعدها سرد نفس الحكاية بنفس التفاصيل لوجوه جديدة.
بعد فترة من الزمن كانت تقف بجانب الباب تستمع لنقاشهم الذي بدأ يأخذ مسارا آخر. لم تكن أجوان لتقتنع بكونها من أسرة هجينة بعد أن أفصحت لهم الجدة بذلك، وكان أويس يحاول جعلها تصدق الأمر بأسلوبه الفظ الذي لم يكن مساعدا على الإطلاق. أما بيجاد فقد كان صامتا طيلة الوقت يراقب كلماتهم عن كثب.
نظرت نورسين إليهم وقد أخذت مشاعرها تلتهب بداخلها شيئا فشيئا. لم يكن ذلك مجديا، كلامهم كله لا طائل منه، لا يستحق ذلك، كانت تدرك أنها صدمة بالنسبة إليهما أن يكتشفا فجأة أنهما من عائلة هجينة. كانت تقدر ذلك وتتفهمه جيدا، لكنه ليس الوقت المناسب لذلك الآن. لا يجب أن يتوقفوا عند هذه النقطة طويلا، فما خفي أعظم بكثير، لن يتقبلاه أبدا إن لم يتمكنا من تقبل حقيقة بسيطة كهذه، والوقت يداهمهم. اختفاء آنزا المفاجئ جعلها تدرك أن الخطر قد اقترب منهم بشكل مخيف، لا وقت لمثل هذه المناوشات.
خطت للأمام بسرعة وقد وجدت نفسها تندفع بقوة إليهم. وقفت أمامهم جميعا لتقول بصوت قوي ونظرة حادة على ملامحها المرتعشة:
- أجوان.. توقفي رجاءً..
التفت الجميع إليها لتقف أجوان عند رؤيتها وتقول باندفاع:
- نورسين.. لا تقولي أنكِ تصدقين ذلك أيضا؟! إنهما يحاولان إقناعي بأننا جميعا من عائلات هجينة.. جميع زملائنا في الصف كذلك!! هذا مستحيل!!
- بلى.. هذه هي الحقيقة أجوان.. وإن كنتِ تريدين تكذيبها فهذا قراركِ أنتِ.. لكن.. تعلمين أني ما كنت لأحضركِ إلى هنا لو كنت أشك في الموضوع ذرة واحدة..
كانت نظرتها الثاقبة ونبرة صوتها الجدية كافيتان لتجعلا أجوان تصمت للحظات طويلة بعدها.
ابتسم أويس لتصرف نورسين وقد فاجأته بكلامها القوي الذي لم يتوقعه منها أبدا. التفت نحو بيجاد الذي بدا عليه التفكير ثم قال بصوت هادئ:
- بيجاد.. هل تُكذب ذلك أيضا؟!
نظر بيجاد إليه ثم التفت إلى الجميع أمامه و قال بابتسامة ضيقة:
- لا يمكنني نفي ذلك أو تأكيده.. إنه أمر مفاجئ لي حقا لكني لا أستبعده لأني لا أعرف الكثير عن خلفية عائلتي..
نظر إليه أويس بعمق ثم انتبه إلى أجوان التي كانت تطالعه باستغراب لردة فعله الباردة. رفعت نظرها مجددا إلى نورسين ثم قالت بعد أن تنهدت بقوة:
- بالرغم من أني أثق فيكِ نورسين.. إلا أنه لا يمكنني تصديق ذلك.. فلا أحد من أفراد عائلتي أو من أجدادي ظهرت فيه تلك الصفة.. لا دليل على ما تقولونه الآن..
نظرت نورسين إليها بعمق ثم قالت بنفس النبرة:
- ليس لدينا وقت لنضيعه في محاولة إقناعك بهذا الأمر أجوان.. بينما الحقيقة الكاملة لم تعرفاها بعد.. فنحن لم نحضركما إلى هنا لنخبركما بأنكما من عائلة هجينة فقط.. هنالك أمر أكثر أهمية من هذا كله..
طالعتها أجوان باستغراب شديد. كانت تريد الخوض أكثر في هذا الموضوع لكن صوت الجدة أوقفها عندما قالت بابتسامتها المعتادة:
- أجوان.. نورسين.. اجلسا من فضلكما لأكمل كلامي..
استجابت أجوان لكلام الجدة أما نورسين فقد خطت خطوتين للأمام ثم قالت موجهة كلامها للجدة:
- اعذريني جدتي.. هلا سمحتِ لي بإخبارهما بنفسي..
تفاجأت الجدة لطلبها ذاك كما تفاجأ أويس كذلك. ابتسمت بعدها وأومأت برأسها إيجابا لتلتفت نورسين مجددا إليهما وتقول بصوت صافٍ:
- أجوان.. بيجاد.. اسمعاني جيدا..
أخذت نفسا وهي تطالعهما بعمق ثم أكملت بنفس النبرة:
- يجب ان نجد حلا يمنعنا من الذهاب في تلك الرحلة، إنهم يخططون لشيء سيء ومن المحتمل أن لا نعود منها أبدا...
تفاجأ أويس بشدة لكلامها. لم يتوقع إطلاقا أن تقفز مباشرة إلى النتيجة وتصدمهما بها بدون مقدمات. أمرها غريب حقا، لم يعد قادرا على توقع تصرفاتها الغريبة أبدا. ابتسمت الجدة جوري بعدها وكأنها كانت تتوقع شيئا كهذا منها لكنها آثرت الصمت لتفسح المجال لتلك العاصفة التي ستهب في المكان خلال ثوانٍ.
- مالذي تقولينه نورسين؟!
علقت أجوان بارتباك واضح. نظرت إليها نورسين بجدية بالغة ثم أخذت تسرد عليهما كل تلك التفاصيل التي أُخبرت بها ليلة البارحة. شرحت لهما كل شيء وأجابت على أي سؤال قد يخطر ببالهما كي يقتنعا بسهولة. كانت تتحدث بسرعة فائقة محاولة إنهاء هذه الجلسة التي استغرقت طويلا في نظرها.
توقفت بعد أن أنهت كل شيء، نظرت إليهما بعمق ثم قالت بعد أن لاحظت الصدمة على ملامحهما:
- عذرا.. يجب أن تعلما الحقيقة بسرعة.. فالوقت يداهمنا..
لم يعلق أحد ولم يجرأ أي منهما على الحديث بعدها. الفتت نورسين بسرعة إلى الجدة جوري لتقول بارتباك واضح:
- جدتي.. أخشى أنهم قد اكتشفوا أمرنا.. لقد اختفى آنزا من المنزل اليوم..
تفاجأت الجدة لكلامها الأخير ثم قالت بعد أن اختفت البسمة من على ملامحها:
- ماذا تقصدين نورسين؟! قد يكون غادر بنفسه إلى مكان معين..
- لو كان الأمر كذلك لأخبرتني توناروز به..
- من توناروز؟!
نظرت نورسين إليها وقد أدركت أنها لم تحدثها بشأن توناروز بعد. تنهدت بقوة ثم قالت بارتباك:
- إنها فتاة من هيرو كنت أتواصل معها منذ مدة.. وقد طلبت منها مراقبة آنزا مؤخرا لأنه رفض التواصل معنا..
- طلبت منها التجسس عليه.. رائع.. أنت تفاجئنني..
نطق أويس ساخرا لتكمل نورسين بنفس النبرة دون أن يزعجها كلامه ذاك :
- إنها غالبا ما تأتيني بأخباره أو صفاته عن طريق صديقه الذي يعلم بالأمر كذلك ويتعاون معنا.. لكن اليوم وجدتها تخبرني أن صديقه ذاك قد قام بقطع وسيلة التواصل بينهما وقام بحظرها تاركا رسالة اعتذار يقول فيها أن عليه التوقف عن التواصل معنا..
صمتت للحظة ثم قالت بارتباك أكبر:
- أخشى أنهم قد اكتشفوا أمرنا وقاموا بأخذه لسبب مجهول وربما هددوا صديقه ذاك أيضا..
نظرت إليها الجدة طويلا ثم قالت بعد تفكير:
- نورسين.. لا تقفزي إلى نتيجة خطيرة كهذه ما دمتِ لا تملكين أدلة.. يجب أن نتأكد أولا فربما هناك سبب آخر لاختفائه بعيد عن هذا الموضوع..
- لكن جدتي.. لقد ترك كل أغراضه في المنزل.. عدى هاتفه الذي اختفى أيضا..
كان ينظر إليهم ويراقب حوارهم وقد أخذ قلبه ينتفض بقوة. لم يكن يستوعب كلامهم جيدا وهو الذي تلقى لتوه صدمة بدون سابق إنذار. نطق بعدها منفعلا بصوت مرتعش:
- مالذي سنفعله الآن؟! مالذي كنتم تنوون فعله؟! إن كان كلامكم صحيحا فهذا يعني أننا في خطر جميعا إن لم نفعل شيئا ما..
التفت الجميع إلى بيجاد وقد أربكهم كلامه بشدة. نظرت نورسين إليه بجدية ثم قالت بثقة مهتزة:
- نحن نفكر في حل يمنعنا من الذهاب..
قاطعتها أجوان بانفعال أكبر:
- مستحيل.. أكيد سنفشل مهما حاولنا.. لما لا نخبر الشرطة.. أعتقد أنه أفضل حل.. سيحموننا منهم..
- لا يمكننا فعل ذلك أجوان.. فنحن لا نملك دليلا قويا على ذلك.. سنكشف أمرنا ليس إلا..
قالت الجدة ذلك بحزم لتعقب نورسين بابتسامة شاحبة:
- لا تقلقي أجوان فلدينا خطة..
قال بيجاد بتردد:
- ماذا لو لم تنجح؟!
نظرت إليه نورسين وقد مر بذهنها أسوء تصور لذلك الاحتمال ثم قالت بتردد:
- سنجد حلا آخر بإذن الله.. المهم أن لا نستسلم..
نطق أويس بعدها بهدوء غير معتاد:
- فلتسألي تلك المدعوة توناروز عن سبب اختفاء آنزا.. بإمكانكِ جعلها تتأكد إن كان غائبا عن الجامعة كذلك.. حينها سنتمكن من الجزم في هذا الأمر..
- معك حق.. سأفعل ذلك..
صمتت لوهلة جلست فيها بعد أن أدركها التعب ثم قالت بحسرة:
- لقد أخبرته بكل شيء وسجلت كل التفاصيل التي أخبرتني بها الجدة بشأن هذا الأمر في الكاميرا.. لقد جربت كل شيء لأجعله يشاهد تلك الفيديوهات ولو هذه المرة فقط.. لكنه لم يفعل..
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت:
- لا يمكنني أن أخبر توناروز لتوصل له كلامي لأني أخشى أن يكون هاتفي مراقبا.. لقد شعرت بالعجز ولم أجد أي طريقة قد تجعل كلماتي تصله..
صمتت مجددا وصمت الجميع بعدها وقد عجزوا عن إيجاد كلمات قد تكون حلا لذلك.
مرت لحظات مريرة بعدها غاص كل واحد منهم فيها في أفكار سوداية اجتاحته رغما عنه، لتنطق أجوان بعد مدة وقد التفتت نحو نورسين وعلى وجهها نظرة شاردة:
- أعتقد أن لدي حل لذلك..
التفت الجميع إليها بتفاجؤ على إثر كلامها ذاك الذي بدا مخيفا نوعا ما مع ملامح وجهها الغريبة تلك.
***
نظر إليه من بعيد. لا يزال هناك يجلس في نفس المقاعد تقريبا، تفصله عنه صفوف كثيرة. يبدو أنه بخير من منظره ذاك، الحمد لله.
تنهد بعدها بقوة ونظر إلى ساعته قبل أن تنتهي آخر ثوان من عمر تلك الحصة الطويلة. طالعه من بعيد وهو يخرج مسرعا من القاعة دون أن يلتفت للخلف كما كان يفعل دوما. بدا الشرود واضحا على ملامحه وإن كان ذلك من صفاته إلا أنه طغى عليها بشدة هذه المرة.
وقف راني بعدها مغادرا وقد اجتاحه ذلك الشعور بالغضب مجددا. لا يدري كيف سيجعل علاقتهما تعود لطبيعتها كما كانت. شعر بحجم الأذى الذي ألحقه به وإن كان لا يفهمه. فكر كثيرا في الموضوع البارحة ولم يجد تفسيرا منطقيا لذلك، ورؤيته اليوم أعادت إليه تلك المشاعر السلبية من جديد بعد محاولات عديدة للتخلص منها البارحة.
- المعذرة..
التفت راني إلى يمينه على إثر ذلك الصوت الذي كان يقصده قبل خروجه من القاعة. تفاجأ بشدة لرؤية صاحبه. كانت تلك توناروز تقف بجانب الصفوف وتطالعه بنظرة عميقة على ملامحها. ارتبك فجأة لرؤيتها وقد تضاعف ذلك الشعور بداخله. تجمد للحظات في مكانه لا يعرف ما قد يفعله، لا يمكنه التحدث إليها مجددا بعد الذي فعله بآنزا، وفي الوقت ذاته نظراتها تلك توحي بأن أمرا مهما قد حدث بالفعل جعلها تأتي إلى هنا فجأة. ثوان مرت على أفكاره تلك ليقرر بعدها المغادرة وعدم الوقوع في نفس الخطأ مجددا.
- راني.. لدي رسالة لك من نورسين..
أوقفه كلامها هذا قبل أن يخطو أول خطوة للمغادرة. نظر إليها مجددا لتقترب منه قليلا وتكمل قائلة:
- لقد اختفى آنزا من المنزل.. إنها تشعر بالقلق الشديد عليه، لقد طلبت مني تفقده في الجامعة لكني وصلت للتو إلى فصلكم ولم أجده.. هل هو بخير؟!
تضاعف ارتباكه بشدة وقد وجد نفسه في موقف لا يمكنه تجاهله بسهولة وهو الذي قرر البارحة أن لا يتدخل في شأن عائلته مجددا، لكن آنزا يستمر بحشره في الموضوع بتصرفاته اللامراعية تلك. تنهد بقوة بعدها ثم قال بخفوت:
- أخبريها أن لا تقلق بشأنه.. لقد كان هنا قبل لحظات.. إنه بخير.. لقد اضطر إلى المبيت خارج المنزل البارحة لكنه سيعود قريبا..
نظرت إليه توناروز وقد شعرت بارتباكه لتقول بعدها بهدوء :
- هل حدث شيء بينكما جعلك تقرر إيقاف تعاونك معنا؟!
ابتسم راني لكلامها وقد مرت مشاهد عديدة بذاكرته لثوانٍ. لم يتمكن من قول شيء للرد عليها وقد شعر بأنه حوصر من كل الاتجاهات ولم يتبق له أي مهرب من الحقيقة. فهمت توناروز من صمته ذاك جزءا من إجابته فقالت بتردد:
- هل علم آنزا بشأن تعاونك معنا؟!
- رجاءً توناروز لا يمكنني إخباركِ بأي شيء أكثر مما قلته قبل قليل.. ويجب أن أغادر الآن..
أخرج تلك الكلمات بصعوبة شديدة ثم التفت بعدها مغادرا، وما كادت قدماه تتقدم خطوة واحدة للأمام حتى شعر بوخزة في صدره وهو ينظر بصدمة إلى ذلك الشخص الواقف أمامه. كان ذلك آنزا يقف أمام باب القاعة يحدق فيهما بصدمة أخرى. لا يدري مالسبب الذي قد يجعله يعود فجأة في أسوء توقيت على الإطلاق.
صدمت توناروز هي الأخرى عند رؤيته وقد شعرت بالتوتر فجأة.
تقدم آنزا باتجاههما وقد تغيرت ملامح الصدمة تلك لتتحول إلى أخرى منفعلة بدا الارتباك عليها واضحا بشكل مخيف.
- راني.. مالذي تفعله معها مجددا؟!
- ليس الأمر كما تظن آنزا.. فهي من أتت إلي بنفسها..
رد راني مدافعا عن نفسه وقد شعر بأنه وقع مجددا في نفس الشبكة بعد أن عانى طويلا في محاولة الخروج منها. فهمت توناروز من كلامهما ذاك بأن توقعها كان صحيحا وبأن آنزا بات يعرف كل شيء حدث بينهم ويبدو أن الأمر أزعجه بشدة وسبب فجوة عميقة بينهما استطاعت استنتاجها من نظرات راني المرتبكة.
ابتلعت ريقها وقد شعرت بجزء من المسؤولية لما سببته لراني فقالت مؤكدة ما قاله :
- معه حق.. لقد قدمت إليه بنفسي لأوصل له رسالة أختك نورسين..
اتسعت عيناه عند سماعه لاسمها مجددا. لم تمنحه توناروز فرصة ليعلق على ذلك فقد أردفت بعدها مباشرة:
- لقد أقلقت عائلتك باختفائك هكذا فجأة دون سابق إنذار.. إنها تريد معرفة أين ذهبت وإن كنت بخير ليس إلا..
- لا أريد سماع هذا الكلام مجددا..
قاطعها آنزا منفعلا.. صمت لوهلة ثم أكمل بعد أن التفت إلى راني:
- راني.. هل أخبرتها بما حدث؟!!
أجاب راني بحدة:
- لا لم أفعل.. لم أخبرها شيئا..
تدخلت توناروز بعدها لتؤكد كلام راني بعد أن أزعجها اتهام آنزا له وهو الذي رفض الخوض في الحديث معها قبل قليل لأجله. نظر إليها آنزا نظرة ثاقبة ثم قال بنفس النبرة:
- لست أفهم لماذا تريدون التدخل في حياتي غصبا عني..
تفاجأت توناروز بشدة ولم تتوقع إطلاقا أن يصدر منه كلام كهذا. لم تتمكن من الرد بعدها وصمتت طويلا.
- آنزا اهدأ.. لقد أخبرتك البارحة اني لن اتواصل معهم مجددا.. ولم افعل.. عائلتك لم تخطىء في شيء.. إن كان هناك شخص يحق له التدخل في حياتك دائما فستكون عائلتك هي الأحق بذلك.. يجب ان تفهم ذلك آنزا !!!!
أراد بشدة إيصال له تلك الحقيقة التي لا يمكن له نكرانها أبدا. كانت نبرة صوته مختلفة، انفعل بشدة وهو يسمع كلام آنزا القاسي الذي حاول كثيرا أن يبرره من قبل. لكنه الآن ما عاد قادرا على الاستمرار أكثر في موضوع لم يفهم منه شيئا.
نظر إليه آنزا مطولا وكأنه قد أدرك شيئا من كلامه الأخير. حوَّل نظره بعدها إلى توناروز وقال بنبرة أكثر عمقا:
- بما أنهم يريدون جوابا فأوصلي لهم كلامي هذا بدلا مني..
صمت للحظات بعدها رمقته توناروز فيها بنظرات حزن بعد أن استشعرت مقدار عجزه على نطق كلمة عائلة. هي لا تعرف شخصه ولا أي نوع من المشاعر يحملها لعائلته في قلبه ذاك. لكن موقفه هذا جعلها تدرك مدى صعوبة تحطيم ذلك الحاجز الذي وضعه بنفسه بينه وبين عائلته.
أكمل آنزا بعدها كلامه وقد ضاقت نظرة عينيه وهو يثبتها على توناروز بشكل مخيف:
- أخبريهم أن لا ينتظروا عودتي فأنا لن أعود إلى المنزل.. وهذا بإرادتي..
تفاجأ راني وتوناروز لكلامه بشدة. علق راني بعدها مسرعا:
- ماذا تقصد آنزا؟! هل ستعود إلى دار الرعاية؟!
لم يجبه آنزا واكتفى باعطائه نظرة عميقة. لم يتمكن راني من فهم معناها جيدا لكنه أدرك أنه قد لا يريد التحدث عن الأمر أمام توناروز، فصمت هو الآخر متفهما.
ابتسم آنزا بعدها ابتسامة خفيفة وقد أخفض بصره ثم قال بنبرة هادئة التمس فيها راني حزنا عميقا:
- أخبريهم أن لا يقلقوا بشأني.. منزلهم بعيد للغاية عن الجامعة ومكان عملي.. ولدي انشغالات عديدة صعب علي انجازها في ذلك المنزل.. لذلك يجب علي أن أغادر..
- فهمت.. سأوصل لهم كلامك هذا..
قالت توناروز ذلك بتفهم وإن شعرت بالغموض يلفه لكنها قررت عدم التدخل في خصوصياته التي يرفض التحدث عنها حتى أمام عائلته.
أومأ آنزا برأسه ثم استدار مغادرا دون أن يلتفت لراني الذي كان يحدق فيه بحسرة وهو يبتعد بخطواته المهرولة. التفت بعد مغادرته نحو توناروز وقال بابتسامة مقتضبة:
- لقد رأيتِ بنفسكِ موقفه من هذا الموضوع.. لذلك من الأفضل لكِ ولي أن لا نتواصل مجددا.. ولا تنسي أن تقدمي اعتذاري لعائلته بدلا مني..
أومأت توناروز موافقة ليخرج كلاهما من القاعة، كل في طريقه الخاص.
أخذ راني يبحث عن آنزا بعد ذهاب توناروز وقد استغرب كثيرا كونه لم يلحق به بالرغم من أنه لم تمر خمس دقائق كاملة منذ مغادرته. قد يكون سلك طريقا آخر وإن كان من الغريب كذلك أن يفعل ذلك وهو الذي اعتاد دائما استعمال نفس الطريق. تنهد بقوة بعدها مستسلما ليغادر مكانه هو الآخر.
شعر بعدها بلحظات قليلة أثناء سيره بذراع تمتد إليه لتلتف حول عنقه مع تلك الضحكة الساخرة التي انطلقت من صاحبها. التفت راني إليه وقد أدرك من يكون من نبرة صوته. أزاح ذراعه الثقيلة بعيدا وهو يتذمر من ظهوره في وقت سيء كهذا.
كان فرقد واحدا من مجموعته التي اعتاد مرافقتها في الجامعة. كانت شخصيته المسلية كثيرا ما تجعل راني يضحك من اعماقه، لكنه اليوم ولسبب واضح شعر بالانزعاج من كلام فرقد بالرغم من أنه لا يمكن لومه لجهله بكل شيء.
علق راني بكلمات بسيطة على كلامه ثم استأذن مغادرا. لم يكن ليهتم بكلام فرقد ذاك بقدر اهتمامه بكلام آنزا قبل قليل. كان ذلك أكثر ما شغل تفكيره حينها، فهل من المعقول أن يعود آنزا إلى دار الرعاية مجددا. سارع خطواته حينها وقد قرر سؤاله بنفسه بدلا من تلك التساؤلات التي لن تفيده بشيء.
***
فتح باب السيارة بهدوء وجلس بجانب ذلك الشخص في المقدمة. لم ينبس بكلمة حتى بعد جلوسه ذاك ليلتفت إليه ذلك الجالس بجانبه ويقول بهدوء:
- إذن.. هل أخبرت عائلتك بأمر مغادرتك للمنزل كما طلبت منك؟!
أومأ آنزا برأسه إيجابا دون أن يلتفت إليه. كان يحدق في الطريق أمامه عبر الزجاج الأمامي للسيارة بذهن شارد. ابتسم من بجانبه بهدوء دون أن يعقب شيئا لينطلق بعدها بسيارته إلى مكان مجهول.
***
- نهاية الفصل التاسع -
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top