دلالات مُضمرة


زخّات المطر تُعلنُ تمردها على نافذة الغرفةِ التي أجلس داخلها، بينما لحنها يتجانس مع صوت إيمي النابع من الغرامافون، لحظاتٌ كهذه أنا مغرمٌ بها، تذكرني بأيام شبابي، أيامُ الطيش والصّبا.

كم كانت أيامًا ممتعةً بحق، لا التي تهدرونها أنتم في كتابة السخافات! أنا أعلمُ كم الابتذال الذي تكتبونه في خواطركم، وكم اشمأزت نفسي من هذا الجيل! أين أنتم يا شعراء الأمس، رحمكم الله بأخذ أرواحكم قبل أن تشهدوا على كوارث الحاضر.

خرستُ للحظاتٍ أتنقل فيها بين شررِ نار المدفأة ومراقبة تزحلق قطرات المطر نزولًا من نافذتي.

«حسنًا أيها الجيل الواعد، وبعد التفكير العميق، سأكون اليوم دليلكم لكتابة خاطرة جيدة، وبالطبع مع استمراركم بالتدريب سترقى لأن تصبح جيدةً جدًا.

إذًا لأخبركم الآن بأول الخطوات التي عليكم الانتباه لها، وهي «اختيار العنوان» ترونه غريبًا صحيح؟
لكن يجب أن يكون عنوانُ الخاطرةِ معبرًا عن الفكرة الرئيسة لها؛ وأنْ يكُون له صلةٌ مباشرة بالموضوع. أعني أن تكون فكرة الخاطرة والمشاعر التي تبعثها كامنة بين ثنايا العنوان.

هل فهمتم ما أقوله؟ لا! يالكم من حمقى، سأتعب حقًّا في تدريسكم، سأوضح لكم بمثالٍ بسيط أعزائي، ومن لم يفهم ليعيد قراءة الذي كُتب وحسب.

أحيانًا نجدُ خواطرًا تحمل معانيَ الحبّ والهيام، وعند قراءتنا لها نفاجأُ بقسوةِ كلماتِها وحزنِ صاحبها الشديد؛ وذلك قد يودي بذهن القارئ إلى التشتت وعدم فهم الفكرة الأساسية للخاطرة؛ بسبب تنافر كل من فكرة ومضمون الخاطرة، لذا يفضّل أن يكون العنوان مجرد إيحاء أو عاكس لثوب الخاطرة ولا بأس أن يكون مقتبس من سياقها شرط أن يكون هذا العنوان قوي التعبير وعميق المعنى ومؤثر في النفوس ويجذب الانتباه.

انتهينا من اختيار عنوان خاطرتنا صحيح؟ أخبروني ماذا استفدتم؟ وهل لديكم أي أسئلةٍ حولها؟ سأجيبكم عندما أموت بإذن الرحمٰن 🖤. -كنايةً على أنّي لن أتعب نفسي بالإجابة عليكم-»

قُمتُ لتغيير الأغنيةِ بأخرى أكثر حماسًا، وضعتُ ذلك القرص الأسود المحبب لقلبي في مكانه الصحيح، لأعود نحو كرسيّ الهزاز أتمتع بلحظات الهدوء والسكينة مجددًا.

تلك السكينة التي لن تطول بسبب وجودكم، لمَ لا تذهبون من عقلي؟ لا أريد الحديث أكثر لليوم! تنَهدت فأصوات عقلي أبت السكوت حتى أعطيكم المزيد من المعلومات.

«لنتحدث الآن عن فكرة ومغزى الخاطرة.
كيفَ نختارُ فكرةً جيدةً لخاطرة؟ كثيرًا ما وصف الشعراء الأطلال وشبهوها بمعشوقاتهم. وكاتب الخواطر لا يبتعد كثيرًا عن هذا، فهو يكتب ليعبر عن مشاعر مختزلةٍ فيه، يرى موقفًا أحزنه، فينسجُ الموقف بكلمات يملأها البؤس مع أساليب بلاغية عدة تجعل منها خاطرةً مؤثرة.
كتدريب على كتابة الخواطر، ابحثوا عن صورٍ عميقة، ذات مدلولاتٍ واسعة، حدقوا في تفاصيلها، ثم حاولوا وصفها حسب ما رأيتموه فيها.

وعندما تحوي الخاطرة هدفًا معينًا، وتكون ذات معنى يكون هذا داعيًّا أكبر لكي تحوي الخاطرة في عمقها روحًا حركيةً تحركها الحروف وتجعل القارئ ينشد لقراءتها ويعيش أجواءها وهذا يحقق أسلوب التشويق وجذب الانتباه المطلوب تواجده في كل خاطرة.

أفهمتم هذا جيدًا؟ آملُ ذلك، إن أردتم مني الإعادة فسأفعل هذه المرة رأفةً بحالكم، لأنكم لا زلتم صغارًا لم ينل الشيب منكم بعد.»

صرير الأرضيةِ الخشبية يغريني كي أنام الآن وأتجاهل الشرح فحقًّا الجو يدعو للاسترخاء والاستجمام بعيدًا عن آلام الرأس، ابتسمتُ بحبور لفرقعةِ النار الهادئة بينما عيناي الضيقتان قد التقطتا زهرة النرجس، أوكم أحُبها فهي تذكرني بشبابي عندما كُنتُ مختالًا بنفسي! فالنرجس يعني حب النفس بشدة، وهذا ما كنتُ عليه تمامًا.

أتعرفون سبب ضربي لذاك المثال؟ إن كنتم لا تعرفون فدعوني أخبركم بهذا «إنّها الرمزية، أو الرمز الشعري.
ليسَ كافيًّا أن تكتبَ نصًا يتضمن العديد من المشاعر القوية دون رمزيات تزيده عمقًا، فتلك الرموز تفتح آفاقًا واسعةً من التفكير والتحليل للقارئ، فيتساءل من يقرأ حينها: «ماذا يكمن وراء الكلمات؟» 
وبالطبع فالرمز يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الكاتب عندما يكتب، وقد يكون الرمز: بحر، الريح، القمر، النجم… إلخ، وقد تكون تلك الدلالات مشتركة بين بعض الناس، لكنّ الفرق فيها هو المشاعر التي اجتاحت الكاتب، وحاول إيصالها.

فعندما نقول «البحر» قد تشعر بالخوف والرهبةُ تمثيلًا له، لكن الرمز يظهر معناه حسب السياق السردي للخاطرة، والكاتب هو من يشحن خاطرته بتلك المشاعر التي تلتف حول الرمز وتعطيه معناه.

وهناك العديد من الرموز التي تعطي النص (الخاطرة) المتانة والقوة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

أولًا الفراشة: هي رمز الحلم أينما وجدت؛ مثال ذلك: فراشات تحترق، أي أحلام تحترق. 

ثانيًّا الكلب: رمز للوفاء؛ مثال ذلك قول الشاعر «كالكلب في حفاظه للود.».

ثالثًا الحمامة: باعتبارها رمز السلام، إلا أنها تأتي رمزًا للمرأة الجميلة.
مثال على ذلك قول الشاعر:
«وأنا شاقني بالحيل منظر حمام شهار
صلاة العصر يوم انحدر بسفل الوادي» 
هنا استخدم الشاعر الحمام في الجمع للدلالة على مجموعة من الفتيات.

رابعًا الزهور: تختلف الزهور في الإسقاط الوظيفي داخل الخاطرة باختلاف الألوان التي تتسم بها، هناك الأحمر دليلٌ للحب، الأصفر دليل على الغيرة، الأبيض دليل للشفاء من المحن والأمراض، والبنفسجي دليل على الحزن الشديد… إلخ.

وتوجد العديد من الرموز الأخرى بالطبع التي تعطي معانٍ عميقةَ وجميلة ترد الحياة للنص، وتحيي شارلوك هولمز داخل الناقد ليستوضح معنًى للرمز XD، مثل نقّاد فريق النقد -سمعتُ عنهم، لكنهم أيضًا لا يزالون فاشلين بنظري-.

أنذهب لآخر نقاط اليوم؟ فلقد مللتُ منكم وإحساسي بعدم فهمكم يتصاعد، أورأيتم أي أساليب بلاغية في الفصل؟ إن لم تروا فأنتم عميان، فأنا أيضًا لا أذكر سوى وضعي لكناية عميقة وياليتني طبقتها.

البلاغة تنقسم إلى ثلاث أقسام؛ علم المعاني، وعلم البيان وعلم البديع. وسندرس آخر اثنين فقط، وبالطبع لا ننكر أهمية الأول!
وبالتأكيد كل علمٍ منهما واسعٌ أشد الاتساع، ولا تكفيني سنةٌ لشرحه. -هذه مبالغة-

سأعطيه لكم بإيجاز، ولكن قبلًا سمعتُ معتوهًا منكم يقول ما فائدة البلاغة؟ أرأيت نصًا أدبيًّا من الشعر أو النثر يخلو منها؟ وبما أن الخاطرة هي أسلوب بين الشعر والنثر، فبالطبع ستحتوي على زينةٍ تزيدها جمالًا!

لنبدأ بعلم البيان، والذي يتجزأ إلى:
التشبيه، من يعرفه منكم؟ لا أحد؟ خذلتموني فعلًا.

من اسمه يعني تشبيه شيءٍ بشيء، كأن أقول: « أنَا كالبدر» وهنا كان تشبيهًا وُجدت فيه أداةُ تشبيه، ويمكنني كذلك أن أقول: «أنا البدرُ إذا طلعت بانت حكمتي» وهنا كان النص أكثر بلاغة لوجود تشبيه حُذفت منه أداة التشبيه، أي أسئلة؟ -حتى أحفادي الذين لا وجود لهم لم يكونوا ليسألوا-.

لنأخذ نقطةً أخرى ألا وهيَ الاستعارة، وتنقسم إلى قسمين:
أولهما الاستعارة التصريحية، وهي سهلة بالطبع! تصريحية أي هنالك تصريح للفظ المشبّه به! أهذا واضح يا رؤوس الأناناس؟

سأعطيكم مثالًا سهلًا لتفهموا أكثر
 «فأمطرت لؤلؤًا من نرجسٍ وسقت**وردًا وعضت على العناب بالبرد»
يوجد في هذا البيت خمس استعارات تصريحية، عددوها أنتم فحلقي كاد يجفّ بسببكم.

لحظةً واحدة! توقف المطر، أي نحس الذي سوف يحل الآن؟ أصبحت الموسيقى نشازًا بدونه، سأغيّر الأغنية ريثما تعطونني إجابةً وافية وإلّا لن أتابع.

أنتم بائسون، سأجيبكم، فقط اصمتوا فأصواتكم تقاطع صوت حبيبتي إيمي! انتبهوا معي، قد شبه الشاعر الدموع باللؤلؤ والعيون بالنرجس والخدود بالورود والشفاه بالعناب (ثمر أحمر اللون) والأسنان بالبرد، ونجد أنه قد حذف المشبه وهو (الدموع، العيون، الخدود، الشفاه، الأسنان) وعوضهم بلفظ المشبه به وهو( لؤلؤ، نرجس، وردًا، العناب، البرد ).»

إن لم تفهموا فاغلقوا أفواهكم وأعيدوا قراءة النص وحسب، ولأخبركم الصدق فأنا هلكتُ بينما أحاول التمييز بين الاستعارة المكنية والاستعارة التصريحية، ولأريكم الآن ما هي الاستعارة المكنية عبر مثالٍ مباشر: «كشر البحر عن أنيابه» وهنا شبه البحر بوحشٍ مفترس له أنياب، وقد صرح بالمشبه وهو البحر وحذف المشبه به وهو الوحش المفترس، ولكن أبقى على شيء من صفاته وهي الأنياب.»، ومعلومةٌ بسيطة فإن الاستعارة المكنية أبلغ من التصريحية.

ارتشفت القليل من القهوة لترطيب حلقي، فقد تجرح سقفه من طول الكلام، وتيبست شفتاي فعلًا، أعدت إغماض عينيّ أبحث عن السكون، لكن هل للسكون وجود بوجود تعليقاتكم تلك؟ ابقوا صامتين لوهلة فقط كي أستعيد فيها تركيزي!

ليس لدي نيةٌ في شرح بقية أقسام علم البيان، فقلت قُلت الأكثر شيوعًا بالفعل، والأسهل في الاستخدام، ورغم هذا فيوجد المجاز والكناية وغيرهما، وكلها جميلةٌ في الاستخدام، ربما أشرحها في المستقبل غير القريب هي الأخرى.»

انتهينا أخيرًا من تلك، ظلّ علم البديع فقط، فله أقسام عدة كذلك، يا لوجع الرأس، سأحتاج لمسكنات بعد الانتهاء.

«حسنًا ببساطة ينقسم علم البديع لقسمين، أولهما هو المحسنات اللفظية وعندما أقول محسنات فهي تعني تحسين، مثل المحسنات الكيميائية التي نضعها في الكعك لكي يخرج هشًا لذيذًا، فهذه المحسنات عندما نضعها في النص يخرج للقارئ بليغًا فخمًا، كفخامة حروفي التي أكتبها لكم.

لنأخذ أول مُحسن وهو بسيطٌ، ليس غاليَ السعر، فهو أرخص مما تتوقعون -كنايةٌ على بساطته-.
الجناس، مشتقة من كلمة تجانُس، وهو اتفاق أو تشابه كلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى. مثل «صليت المغرب في أحد مساجد المغرب.» 
المغرب الأولى هي صلاة المسلمين في وقت الشفق، والأخرى هي دولة المغرب. 

أكان ذلك واضحًا؟ أكان سهلًا؟ أم كان باهظ الثمن؟
إن كان غاليًّا فانظروا معي لفوائد الجناس:
يعطي الجناس جرسًا موسيقيًّا تطرب له الأذن ويثار بسببه الذهن.

هذا يثيركم لتجربة وضعه في خواطركم؟ أتطلع لرؤيته رفقة بعض السجع! ألا تعرفون معنى السجع؟ أأنتم عُجم تم تهريبهم لوسط العرب؟

السجع وهو اتفاق جملتين أو أكثر في الحرف الأخير. لن أشتمكم.

لنأخذ مثالًا بسيطًا -بمناسبة شهر رمضان: «الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع»، فعليكم تأديب أدبكم كما تؤدبون أنفسكم في الشهر الفضيل، بذات الطريقة -وهي التعود.

وكما للجناس فوائد، فالسجع له ذاتها، فهو يحدث جرسًا موسيقيًّا يثير النفس وتطرب له الأذن.

انتهينا من محسنات الكعك؟
سنأخذ الآن محسنات الخبز ؛).
لا داعي للضحك، أعلم أن طرفتي أرقى من سماع ضحكاتكم ؛).

اسمها محسنات معنوية لا كعكية ولا خبزية! احفظوها معي، معنوية.

وتتفرع هي الأخرى لعدة أقسام، كأنها شجرة لا نهائية، وأول ما سأشرحه لكم هو الطباق، وهو الجمع بين الكلمة المفردة وضدها في الكلام الواحد.
مثل: لا فضل لأبيضٍ على أسود إلا بالتقوى.
 
كما سأشرح لكم المقابلة: وهي أن نأتي بجملة أو أكثر، ثم نأتي بما يقابلها (ينافيها)
مثل:
- (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث)

رأيتم التشابه الجميل بين الطباق والمقابلة؟ الأمر بسيط صحيح؟ أحدهما كلمة والآخر جملة، وفائدتهما بالنص أجمل فهما يبرزان المعنى ويقويانه، كما يعملان على إيضاحه وإثارة الانتباه عن طريق ذكر الشيء وضده.

اجلسوا هنا، لم ننتهي بعد، مهما كانت نهاية الدرس مملةً، فهي أهم شيء في الخاطرة، بعد الفكرة والبناء والرمزية والمغزى، ماذا تركت؟ الأهم أنها فعلًا ذات أهمية!

ولا تخافوا فهذه مسك الختام، ألا وهي التورية، ويُعنى بها ذكر كلمة لها معنيان أحدهما قريب ظاهر غير مقصود والآخر بعيد خفي وهو المقصود والمطلوب؛ مثل:
-قول الشبراوي: فقد ردت الأمواج سائله نهرًا.
[سائله] لها معنيان:
الأول معنى قريب وهو «سيولة الماء» وليس المراد.
الثاني معنى بعيد وهو «سائل العطاء» وهو المراد.
[نهرًا]: لها معنيان:
الأول معنى قريب وهو «نهر النيل» وليس المراد.
الثاني معنى بعيد وهو «الزجر والكف» وهو المراد.

أفهمتم يا صغاري؟ هذه المرة باب الأسئلة مفتوح، فالتورية ليست بسهلة على عقولٍ نادرًا ما يتم استخدامها.
ولأخبركم سرًا فالتورية تعمل على جذب الانتباه وإيقاظ الشعور وإثارة الذهن.

حاولتُ جمع أكثر الأشياء بروزًا في كل علم، وحسب ما تذكرته بالتأكيد لديكم مشاكل مع الاستعارة، أنا أعرفُ ذلك .)
حسنًا يا أعزائي الصغار، هنا يتوقف درسُ اليوم، نلتقي في يوم آخر، لحينها لا تزعجوا هدوئي!

كنتم برفقة العضو جود 🖤، دمتمْ بأحسن حال.

المصادر: 
-كتاب الأدب المدرسي.
-كتاب الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top