(2)
بقلم :نهال عبد الواحد
عادت شفق من ذكرياتها ودمعة دافئة فارة من عينيها عائدة لحياتها الحالية من جديد.
تعمل شفق كمعلمة للغة الانجليزية منذ أعوام وهي معلمة متميزة في عملها أكاديميًا وتربويًا وتتمتع بمعاملةٍ وخلقٍ طيب بين زملائها حتى من يكيدون لها تستطيع التعامل معهم بحكمةٍ ولا مبالاة حتى يأسوا من الكيد بها.
أما عن التلاميذ فيعشقونها ويطيعونها -إلا ميس شفق- هكذا يقولون، مما جعل إدارة المدرسة نفسها رغم أن مستواها راقٍ جدًا حيث يدخلها أبناء علية القوم لكنها متمسكة بشفق لأنها مكسبًا لهم وخاصةً وأنها تطور نفسها دائمًا بدورات تدريبية وبالطبع ذلك يكلفها الكثير لكن لا يهم، كما أن مظهرها الراقي هذا أيضًا يكلفها الكثير.
تعود شفق من المدرسة إلى شقتها وتبدأ في استقبال مجموعات التلاميذ للدروس الخصوصية رغم أنها تخبر ذويهم أنها تعمل بذمةٍ واحدة في المدرسة مثل الدرس لكنهم متمسكين بها ويؤمنون أن التكرار يعلم الشطار فتقبل لأنها فعلًا تحتاج إلى المال.
وتظل تعمل هكذا حتى المساء وبعد مغادرة آخر مجموعة من التلاميذ والتأكد تمامًا من ذهابهم تبدأ في العودة إلى سيرتها الأولى فترتدي العباءة السوداء وتترك كل شيء يشير إلى حقيقة عملها في تلك الشقة وتبدأ في رحلة العودة إلى المنزل وتأخذ معها القليل من المال للمواصلات ولشراء بعض احتياجات البيت.
تعود شفق، تبدل ملابسها وتصنع الطعام ربما يجئ أخيها اليوم، وبالفعل قد جاء ولا تعرف إن كان من حظها أم من سوء حظها مجيئه.
فما أن دخل حتى أعدت الطعام سريعًا ووضعته أمامه فنظر فيه بسخط وصاح بوقاحة: ده اللي ربنا قدرك تجبيه!
-إحمد ربنا.
-إحمد ربنا على إيه! على صينية البطاطس اللي فيها حتتين فراخ! إيه ما تعرفيش حاجة إسمها لحمة!
-إنت عارف الدنيا غالية إزاي! عل موسم الجاي أبقى أجيبلك نص كيلو لحمة إن شاء الله.
- يا فرحتي ياختي! معاكِ كام؟
- أول ما تشوفني كده! طب اقعد وكُل وغير هدومك ولا إنت نازل تاني؟
- وانتِ مالك! هاتي اللي معاكِ من سكات! يالا!
ودفعها فسقطت على الأرض وقد آلمها ذلك بشدة لكنها نهضت أحضرت ما تعطيه له فأخذها ينظر إليها بسخط يتقللها.
وصاح بوقاحة: إيه دول! يعملوا إيه دول!
- والله مش عجبك إشتغل! روح دورلك على شغلانة ولا افتح ورشة أبوك الله يرحمه وكفاياك م السم الهاري اللي بتتعاطاه ده! واكل فلوسك وصحتك وعقلك وعمرك ياخويا.
- خلصتي يا ست الشيخة! ممكن تسبيني آكل ولا هتطفحيهولي عشان إنتِ اللي جايباه!
- لا تقولّي ولا أقولك أنا هلكانة وداخلة أنام.
- إبقى خلي الناس اللي بتشتغلي عندهم يحطوا ف عينهم حصوة ملح ويزودوا يوميتك شوية، كتك الهم تسدي النفس داهية ف شكلك!
تركته ودخلت حجرتها فجلس وأكل وشعرت بوجوده بالخارج طوال الليل.
فإن كانت الليالي التي تمضيها وحدها تمضيها في قلقٍ وخوف فإن وجوده معها يضاعف ذلك القلق والخوف؛ فهي تخشى منه على نفسها خاصةً عندما يتعاطى مايتعاطاه ويبدأ يفقد وعيه.
حتى إنها لتدثر نفسها وتنام تحت السرير لتختفي تمامًا ويغيب أو ينصرف، لكن ذلك يكون قبيل الفجر موعد استيقاظها.
كانت شفق في المدرسة طوال اليوم تتابع التلاميذ فتعاملاتها مع زملائها لا تتجاوز العلاقات السطحية، ليس هناك أي أصدقاء فقد أغلقت هذا الباب منذ زمن فلا صداقات ولا علاقات وطيدة ولتبقى بين حياتها الرسمية وحدها دون شريك، ومن ثم فلم تجازف يومًا بأي علاقة عاطفية حتى ولو من طرفٍ واحد... فهي تقرأ نهايتها بمعرفة حقيقتها.
فهي الآن قد تجاوزت الثلاثين عامًا وتمضي دون أي تفكير إلا في عملها وكيف تبقى نصف حياتها سرًا دفينًا لا يعلم به أحد.
كانت شفق تلاحظ وجود طفلة جميلة لكنها دائمًا وحدها لا تتفاعل مع أحد زملائها ولا حتى معلميها فليس لها أصدقاء ويأس معها معلموها فكانوا يتركوها كأن لا وجود لها فاقتربت منها شفق بوجهها الباش ذات يوم فابتسمت لها الطفلة.
فتحدثت إليها شفق برفق: إيه ياحلوة قعدة لوحدك ليه؟ مش بتلعبي ليه مع صحابك؟
- مش بحب.
فابتسمت شفق وسألتها: طب إسمك إيه!
- شفق.
فزادت شفق من ابتسامتها وقالت بمرح: إده زيي!
فهزت الطفلة رأسها بأن نعم، فأكملت شفق: طب مش بتحبي تلعبي، بتحبي تعملي إيه؟
- ولا حاجة.
- إزاي ولا حاجة؟ مش بتحبي ترسمي.. ترقصي.. تعومي.. أي حاجة!
وكانت الإجابة تشير برأسها أن لا، فأكملت شفق: طب وانتِ مع مامي ف البيت بتعملي إيه؟
- أنا ماعنديش مامي، مامي عند ربنا.
فاغرورقت عينا شفق وضمت إليها الطفلة في رقة وحنان، ثم قالت: طب انتِ عايشة مع مين؟
- مع ننا لولي، و... وبابي.
قالتها بحزن شديد ثم سكتت قليلًا ثم قالت: هو على طول ف الشغل بيجي بعد ماانام ويمشي قبل مااصحي.
- معلش ياحبيبتي، ماهو بابي لازم يشتغل ويجيب فلوس عشان تدخلي مدرسة حلوة ويجيبلك لبس جميل ولعب كتير وأي حاجة تتمنيها.
- بتمنى أعيش زي صحابي مع مامي وبابي... اشمعنى هم!
قد آلمها كلام شفق كثيرًا ثم قالت لها وهي تمسح على رأسها: عارفة إنتِ برضو أحسن من ناس كتير، إنتِ عندك بابي وعندك ننا، أنا بأه ماعنديش لا بابي ولا مامي ولا ننا ولا أي حد.
- مش عندك ولاد!
- لأ..ولا عندي صحاب، شوفتي بأه في ناس بتعيش لوحدها خالص من غير أي حد يبقي أنهي أحسن؟
- أنا.
- يبقى نقول الحمد لله.
- الحمد لله.
- طب ممكن أنا وانت نكون أصحاب؟ إحنا الاتنين زي بعض لوحدنا، إيه رأيك؟
- فكرة حلوة أوي يا ميس شفق.
واحتضنتها بشدة ومنذ يومها صارت شفق الكبيرة والصغيرة صديقتين فكلًا منهما ترى في الأخرى ما ينقصها.
فشفق الطفلة ترى فيها أمها التي فقدتها منذ ميلادها وتمنتها كثيرًا وتخيلت ما يمكن أن تفعله معها وأخيرًا الآن وقد تحقق.
أما شفق الكبيرة فهي تحتاج لصديقة بريئة تقضي معها وقتها دون أن تسألها عن تفاصيل حياتها، تحتاج أن تشعر بأمومتها التي لن تشعر بها يومًا أبدًا...فمن سيقبل بها زوجة وأمًّا لأبناءه؟
وبالفعل أحدثت هذه الصداقة تحسنًا واضحًا في حالة شفق الطفلة فصارت أكثر إشراقًا وتلقائية، بدأت تندمج مع من حولها من الزملاء ربما ليس تمامًا لكنه أفضل من ذي قبل.
كما تحسّن وتطور مستواها الدراسي عن ذي قبل.
ولأول مرة تكتشف شفق موهبتها وأن لها صوتًا عذبًا وشجعتها شفق الكبيرة على الاشتراك في الحفل السنوي وقد فعلت.
وجاء يوم الحفل في المدرسة وكانت شفق يومها ذات أناقة وطلة ملفتتين واقفة عند الباب تحمل علبة من الشيكولاتة تقدمها لأولياء أمور التلاميذ أثناء دخولهم وتأخذ الدعوات وتعطيها لأحد المنظمين كي يصطحب أولياء الأمور إلى مكان مقعدهم في المسرح.
وإذا بها تأخذ من سيدة وقورة وأنيقة دعوتها وتقرأ اسم شفق فابتسمت إليها شفق ابتسامة عريضة ثم قالت: حضرتك جدة شفق؟
ابتسمت السيدة وأجابت: أيوة أنا هالة عوني جدة شفق، أكيد إنتِ ميس شفق!
فهزت برأسها أن نعم وقالت: فعلًا يا فندم، نورتينا! وسعيدة إني قابلت حضرتك.
- والله شفق مالهاش سيرة غير ميس شفق ميس شفق، وبعد التطور الهايل اللي حصل معاها، إحنا مش مصدقين، حقيقي ألف شكر ليكِ يابنتي وربنا يكرمك ويسعدك ويديكِ حبيبتي على أد تعبك.
- وأنا تكفيني الدعوة دي، وبعدين شفق مش محتاجة توصية دي حبيبتي.
- تسمحيلي برقم تليفونك عشان نتواصل مع بعض.
- طبعا يا فندم رقمي.........
وأعطت كلًا منهما رقمها للأخرى.
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top