XXX

‏قال أحد العلماء: من اعتاد تسبيح الله تعالى قبل نومه، أُعطي نشاطًا، وقوة في قضاء حاجاته، وقوة في عبادته.

جهزوا المناديل هناك صدمة عاطفية هائلة 😅

استمتعوا 😍

🌟 🌟 🌟

صمتٌ موحش جثم على مملكة توتيل، الطرقات خالية، السوق الذي كان ممتلئً بالبهجة والضوضاء إثر الحركة المستمرة فيه كلها تلاشت، حتى الحيوانات اختبأت، الجميع يلزمون منازلهم بعد أمر الملك بحظر التجوال.

سارت توتيل نحو المنزل بوتيرة سريعة، وعند وصولها أعطت أمرًا للحارس المتمركز على الباب بأن ينضم إلى حرّاس الحدود.

ولجت إلى المنزل فاندفعت نحوها أريناس متسائلة بقلق: هل الجميع بخير؟ أين آكين؟ لما لم يأتِ معكِ؟

عقدت توتيل حاجبيها، ونظرت إليها بتشوش فقالت بتعجّب: ألم يأتِ بعد؟ لقد تركنا وعاد إلى هنا منذ زمن.

جاءت والدتها فسألتها بقلق: ما الذي يحدث؟

لم تُجِبها توتيل وخرجت راكضة، متمنية أن تجد آكين حيث اعتاد أن يذهب عندما يحتاج إلى التفكير بهدوء؛ كما كان يفعل والدهما.

توهجت عينيها باللون الأحمر الناري، ونقوش بنفس اللون ظهرت على جسدها. زادت من سرعتها فصارت ككتلة لهب تحلق فوق الأرض بمسافة قصيرة، ثم تحولت شيئًا فشيئًا إلى طائر العنقاء بريش يتدرّج من الأصفر فالبرتقالي إلى الأحمر.

حلّقت عاليًا تراقب الأرض من تحتها. تتبّعت مجرى النهر حتى بلغت الجبل فعادت إلى شكلها الطبيعي ودخلت مسرعة إلى الكهف حيث عاش ستيفان حوالي شهرين أو أكثر في هذا المكان.

نفضت ذكرياتها معه، ومسحت المكان بعينيها حتى خرج جسد شقيقها من سطح ماء النبع، كان ظهره موجهًا لها فرأت ندوبه القديمة، مرّت أمام عينيها لمحات من الماضي البعيد، ولكنه ليس الوقت المناسب للغرق في الذكريات، فتنهدت بخفوت وتقدمت نحوه.

خرج من النبع وارتدى رداءه وترك بنطله المبلل، ثم التفت لها مراقبًا ملامحها دون حديث، فبدأت هي قائلة بهدوء:

- أخذوا ثلاثة من البشر وقتلوا الباقي.

- «عرّافة، وثلاثة من البشر، تمثال ملكة يقف شاهدًا أمام القصر، هكذا تعود الهايدرا بمساعدة القدر» هذه كلمات أفيانا التي قالتها لوالدي قبل إختفائها.

- هذا يعني أن الفرد الرابع من الهايدرا...

- قد عادت، ولم يبقى غير ديانا.

ابتعلت توتيل ريقًا جافًّا، وشردت بذهنها إلى ستيفان ومقدار الألم الذي سيصيبه إذا علِم بما سيجري لشقيقته.

وقف آكين أمامها فأحاطها بذراعيها جاذبًا إياها إلى حضنه، وقال بعد تنهيدة لم تخفف شيئًا من الحِمل الجاثم على قلبه: لن أسمح لأي أحد أن يمسّكِ بسوء، وهذا يشمل حماية ذلك الجرو الصغير.

ضحكت بنبرة باكية فقالت: إنه أكبر منك.

رد ببساطة متظاهرًا بعدم الاهتمام: المهم أنه كلب، لا يهم عمره.

توتيل تعلم جيدًا أن آكين لا يكره ستيفان، فلم تجادله لأنها تعلم أنه لن يؤذيها بسماحه بأذية أي أحد فكيف إن كان أحد أقرب الناس إلى قلب شقيقته.

جلسا على حافة النبع يبللان قدَمَيهِما بمائه، ثم بدأت توتيل في إخباره بتفاصيل ما حدث معها أثناء مهمتها.

بعد فراغها من حديثها، وجدته شاردًا في الماء أمامه، ثم التفت إليها وقال بتفكّر: لو كنتِ الهايدرا، ما هو أول شيء ستفعلينه عندما تستعيدين قواكِ؟ فكّري في أي شيء لم يحصلن عليه بالفعل.

استغرقت بضع دقائق، ثم أجابت بعد تفكير عميق: أُدمّر أي شيء يهدد بالقضاء علَي.

- وما هو أقوى تهديد لهم الآن؟

بدا آكين مستمتعًا باستدراجها لترى الصورة كاملة، كما كان والدهما يفعل معهما؛ يعطيهما أجزاء الأحجية ويتركهما ليتوصّلا إلى الحل، ويجعلهما ذلك يعتمدان على نفسَيهما، وعندما يرغب في إهدائهما غرضًا ما يعطيهما بعض الألغاز توصلهما إلى الهدية في النهاية.

تنهدت توتيل ماسحةً بكفها على وجهها، ثم قالت: أنا وأنت أكثر من ساعد أفيانا في القضاء على الهايدرا، وإن رغبن في الإنتقام من أحد ستكون هذه المملكة في بداية اللائحة.

تمدد آكين على الأرض، ثم حدّق في السقف قائلاً بثقة: لن يتمكَّن من الدخول إلى هنا، بل سيرسلن أحد أتباعهم ليبحث عن سلاح أفيانا، وإن حصلن عليه سنكون في عِداد الموت جميعًا.

حدقت به عاقدةً حاجبيها بحيرة فسألت بتعجّب: ولكن لا أحد يعلم مكانه غيرها!

ابتسم بهدوء وكأنه يستهزئ بأفكارها، ثم قال ببساطة: أتظنين أن أفيانا، سترحل -وهي تعلم أن الهايدرا سيستعدن قواهن- دون أن تترك لنا طريقة لنحمي بها أنفسنا؟

صمتت توتيل وهي تقلِّب حديثه في رأسها، وكان محقًا؛ لا يمكن أن تتركهم أفيانا دون حماية. بعد فشلها في معرفة الطريقة التي تحدث عنها سألت بيأس: أين هو سلاحها؟

اتسعت ابتسامته الغامضة وأجابها باقتضاب: في المنزل.

اتسعت عينيها بصدمة فتعجّبت قائلة: منزلنا!

همهم بالإيجاب دون أن تختفي ابتسامته أو يزيح ناظرَيه عن السقف الحجري للكهف، فصرخت به تطالب بتفسير لحديثه.

- هل تظنين أن والدي كان ليوافق على زواجي من بشرية لو كانت فتاة غير أريناس؟

حرّكت كتفيها لجهلها الإجابة فقال: عندما ربطت روحي بروح أريناس لم تنبت زهرة جديدة بل تفتحت بتلات إحدى الزهرتين وظهرت جوهرة بيضاء...

شهقت توتيل بصدمة، وعدم التصديق يكسو ملامحها فسألت متعجّبة: هل تقصد أن أريناس هي ابنة أفيانا المفقودة؟

اعتدل جالسًا ثم أجابها بغموض: ربما، لست متأكدًا.

صمت قليلًا ليفكر، ثم تحدث بهدوء وصوت منخفض: للهايدرا أذان في كل مكان، ويجب أن نفعل المثل. ستذهبين إلى مملكة السحرة، واجعليهم يظنون أنكِ رحلتي دون عِلم أحد، وستساعدين في التدريب، ويجب أن تراقبي ديانا؛ فهي سلاح الهايدرا الأعظم.

فكّرت توتيل قليلًا، ثم قالت: ستيفان سيرفض وجودي بجانبه؛ خوفًا علي، ولكنني سأقنعه.

لانت ملامحه وجذبها إلى حضنه، ثم قال بهدوءٍ حزين: سأحرص على عدم أذيّتكِ، لن يصيبكِ شيءٌ وأنا على قيد الحياة.

تشبثت به؛ تستمد منه قوتها، لا شيء في هذا العالم يمكنه تعويضك إذا فقدت أخيك، لا نور في غيابه، ولا سعادة في بُعده، ولا راحة في فراقه.

كسر آكين الصمت قائلًا بهدوء: ستحاول هيلا أن تتواصل مع ديانا أثناء فترة تحولها، ستجذبها نحوها وتقنعها بالإنضمام إليها، هل تذكرين التدريبات التي كانت أفيانا تخضعنا لها؟ أشعر أنها كانت تجهزنا ليومٍ كهذا. أفيانا تعرف أساليب الهايدرا وكيف يقنعِن ضحياهن لينضموا إليهن، وأنا متأكد أنها تركت لنا شيئًا لسياعدنا على التصدي لهن.

~٠~*~٠~

ظل الهدوء المؤلم هو المهيمن على القاعة في قصر السحرة، بعد أن تم نقل ديانا -الفاقدة للوعي- إلى حجرتها ووضع بعض الحراس حولها، وحكيم ليراقب حالتها الصحية، وفُض الاجتماع ولم يبقى في القاعة غير ويليام ووالديه والمشعوذة والعراف وبرفقتهم ريلاين، أما البقية فبدأوا في التنظيم وتقسيم الجيش إلى مجموعات من أجل التدريب، ثم أُعطيت الأوامر لبدء التدريب المكثف.

جلس ريلاين بجانب العرّاف هايجن بعد أن وضع علبة مستطيلة الشكل مصنوعة من الزجاج غير الشفاف. ضغط على زر في أعلى العلبة ففُتحت لتكشف عن خمسة أساور سوداء لامعة دون نقوش أو تفاصيل.

سألت السيدة منيرفا بصوت متحجرش: ما هذا؟

كان ويليام يقف أمام النافذة يراقب الأفق دون تركيز؛ فلم يشارك في الحديث حتى ذُكرت الهايدرا على لسان ريلاين حين أجاب:

- وسيلتنا للقتال. الهايدرا يملكون بعض الأسلحة القوية للغاية، ففكرت، لماذا لا نحصل على أسلحة فريدة أيضًا؟ هذه الأساور يمكنها التحول إلى أي سلاح يتخيله الشخص الذي يرتديها، ولكنني لم أستطع أخذ المزيد منها.

- سنقوم بنسخها باستعمال السحر.

- لا يمكن هذا، لقد صنعت خصيصًا لجنود مملكتنا، فإذا تمت سرقتها ستتعطل وكذلك إذا ألقيت عليها أي تعويذة.

تدخل ويليام قائلًا بسخرية: كيف تشجعت، وخنت والدك العزيز باحضارك هذه الأسلحة التي صنعت للقضاء علينا؟

اعترض ريلاين بهدوء: هذه الأسلحة صنعت لحماية المملكة في حال أراد أحد المساس بها، وليس لبدء المعارك والحروب ضدكم.

ابتسم ويليام بسخرية دون أن يفارق البرود نظرات عينيه، ثم تحدث أثناء تقدمه إلى الطاولة: من سينال شرف القتال بهذه الأسلحة؟

نظر ريلاين نحوه بابتسامة غامضة فأجاب: الذين سيقاتلون الهايدرا شخصيًا.

حمل ويليام إحدى الأساور ثم قال بغلٍ دفين: لي حساب قديم مع هيلا أرغب في تصفيته.

انظم إليهما أوين فحمل سوار آخر فقال باستمتاع: لدي شعور قوي بأنني سأتمكن من قتل إيلا هذه المرة.

راقبت منيرفا ابنها ووالده فغمغمت لنفسها: مهما انفصلتما ستجتمعان عند نقطة ما.

تدخلت يوجا مخاطبة ريلاين بصوتها الحاد: أخبرتم ديانا أن الطريقة الوحيدة للقضاء على الهايدرا هي سيف ملكة التايتينيا، ولا أحد يعلم مكانه... لا تنكر! كرتي البلورية لا تكذب.

نظر الجميع إلى ريلاين منتظرين إجابته، فجاءت كالتالي: سيف الملكة يقضي على الهايدرا بشكلٍ نهائي، ولكنه مفقود. هذه الأداة تساعد على قتل الهايدرا ولكنهن ستعدن، ربما بعد ألف عام آخر كما حدث في المرة السابقة.

لم يجد أحد منهم ما يرد به، فتعجّبت السيدة منيرفا قائلة: أفهم من كلامك أن الهايدرا اللواتي على الأرض تم قتلهن من قبل؟!

أومأ ريلاين بالإيجاب ولكن العرّاف هايجن هو الذي تحدث، فقال بهدوئه المعتاد: أوين قتل إيلا، وملكة التايتينيا قتلت رولّا ويولا بسيفها، ولكن كان يجب أن يتم القضاء عليهن جميعًا؛ ولأن هذا لم يحدث، استطاعت هيلا إرجاعهن...

أكملت يوجا حديثه: استخدمت السحر الأسود، بالإضافة إلى روح قوية، وثلاثة من البشر، وأداة خارقة تحمل في جوفها قوة.

عقد ويليام حاجبيه، ثم سأل:

- هل تعرفين ما هي هذه الأداة؟

- قلادة دائرية ذات ألوان متغيرة، كانت مِلكًا لوالدة أفيانا ملكة التايتينيا.

- هل كانت مخبأة مع قبر ملك المستذئبين؟

أضاف ويليام سؤالًا آخر، فأجابته قائلة: لا، إنها عند ملك مملكة توتيل السابق.

عقدت الصدمة لسانَي ويليام وريلاين، وقد اعترض الأخير قائلًا بتعجب: ولكن ويليام وضع القلادة ودفتر مذكرات زائف حتى يرشد ديانا إليه في حال مُسحت ذاكرتها.

نظر إليه ويليام عاقدًا حاجبيه والإستغراب يكسو ملامحه ثم استنكر: لم أضع شيئًا، ولم أفكر يومًا أن ذاكرتها قد تُمسح، كما أنني لا استطيع تجاوز حدود تلك القرية أصلًا!

طرَق العراف هايجن على الطاولة بإصبعه؛ ليجذب انتباه الجميع، ثم تحدث بهدوء: الذي وضعهما هو الملك أغيلاس بأمرٍ من أفيانا؛ حتى تجمعها بك.

سألت السيدة منيرفا باستغراب شديد: ملكة التايتينيا مختفية منذ أكثر من خمسة قرون.

قبض ويليام على يديه المرتجفتين، وقد تذكر زيارة أفيانا لجده عندما كان صغيرًا، ثم قال بعدم تصديق: لقد زارت هذه الملكة جدي قبل وفاته بأيام قليلة.

عقدت السيدة منيرفا حاجبيها باستغراب، وقالت: لم يخبرني أبي عنها قَط!

تبسّم العراف هايجن، ثم تحدث: لقد اختارت الملكة الأشخاص الذين سيعيدون بناء وطنها؛ ليتم نقل ذوي القدرات الخارقة إليه يومًا ما.

أردفت المشعوذة يوجا: اختارت والدتي، والملوك الثلاثة ووالدهم ديكسون. تركت الملك اسهيري على الأرض ليحرس البوابة بين العالمَين، والوحيدة القادرة على فتح تلك البوابة هي ابنتها.

نقل أوين بصره بين الجميع، ثم سأل باستنكار: إن كانت هذه الملكة تعلم بكل ما سيجرى معنا قبل حدوثه، لماذا لم تمنعنا من التقاتل فيما بيننا؟

نظر إليه ويليام بسخط فقال ساخرًا: لم يجبرك أحد على القتال ضد الممالك الأخرى، وما كان سيتمكن أي شخص من إقناعك بالعدول عمّا ترغب في فعله.

تحدث ريلاين مُغَيّرًا الموضوع: ذهبت الملكة أفيانا إلى جدك لسبب لا أحد يعرفه غيرهما، فالمعروف عنها هو أنها لا تترك جميع معلوماتها عند شخص واحد، وقد جاءت إلى والدي أيضًا، ولا أعرف ما دار بينهما، ولكن ما أنا متأكدٌ منه هو تغيُّر والدي منذ ذلك الحين.

- الجميع يعلم أن ملكة التايتينيا ضحّت بحياتها من أجل إنقاذ أهل مملكتها، كيف تمكنت من فعل كل هذا؟

إستفهمت السيدة منيرفا، فأجابتها المشعوذة يوجا: الملكة لم تَمُت، بل فصلت روحها عن جسدها. ولا أحد يعلم مكانه غير أغيلاس -ملك مملكة توتيل-، وهو مختَفٍ منذ أكثر من عام.

شرد ويليام بتفكيره، حتى أدرك أمرًا جعل قلبه يتوقف برهة من الزمن، ثم بتلع ريقًا جافًا فقال بصوت متحجرش:

- ماذا لو كان هدف الهايدرا هو قتل ديانا للقضاء على روح التايتينيا؟ أو ربما ليجبروا الملكة على إخراج روحها من جسد ديانا؟

- في كلتا الحالتين زوجتك ستموت؛ لأن روح التايتينيا تعتبر جزءًا منها، ولن يغير خروجها من جسد ديانا شيئًا.

إجابة العراف هايجن كانت الضربة القاضية لويليام، فخارت قواه وانهار على المقعد بقربه، ملامحه الشاحبة زاد شحوبًا ولأول مرة في حياته أُغرورقت عيناه بالدموع ولم يستطع كبحها. أما الضربة الأقوى فقظ تلقّها ستيفان الذي تصنّم أمام الباب وقد تمسّك بكف توتيل التي تجلّت مشاعر الألم والقلق على ملامحها.

~٠~*~٠~

الزمن أمره عجيب، تارة يمر كالسحاب، وتارة كأنه سلحفاة مصابة بالدوار. أحيانًا نعيش لحظات من السعادة نتمنى أنها لا تمضي، وقد نجابه حزنًا يجعل الثانية تتضاعب حتى نشعر أنها دهر... وفي كل الأحوال الزمن يمضي بالوتيرة ذاتها، شعورنا به هو الذي يختلف.

مضت الأسابيع ولم يبقَ على موعد قتالهم مع الهايدرا سوى بضعة أيام. كان التدريب يسير بشكلٍ جيد نوعًا ما. تم تقسيم الجيش إلى مجموعات، كل مجموعة بها خليط من المستذئبين ومصاصي الدماء والسحرة، يتدربون معًا، ويقضون وقتهم بالكامل مع بعضهم البعض؛ ذلك من أجل جعلهم يتأقلمون، ولم يكن بالأمر الهيّن وقد حدثت الكثير من النزاعات، ولكن أردك الجميع أن قتالهم فيما بينهم لن يساعدهم، وأُجبِروا على العمل معًا إلى حين إنتهاء هذه الحرب الضروس.

أشرف أوين على تقديم التعليمات العامة؛ بما أنه الأكثر خبرة في أمور الحرب، وقد تكفّل القادة بالمساعدة في ساحة التدريب. ليس جيشًا ممتازًا ولكنهم يبذلون قصارى جهدهم.

وقف يراقب ابنه البِكر من مسافة بعيدة، كان التدريب بين ويليام ولوكاس محتدمًا. قدرة لوكاس على قراءة الأفكار جعلته في المستوى ذاته مع أخيه، أما ويليام فكان يصب جام غضبه وحزنه في التدريب فأخذ يتطور سريعًا حتى بات لوكاس غير قادر على مجارات حركاته حتى مع قدرته الفريدة. أخضع ويليام نفسه لتدريبين مختلفين: الأول، التدريب الذي يخضع له الجميع، والثاني، تدريبٌ خاص باستخدام سوار الأسلحة مع والده وريلاين وستيفان ومعهم توتيل التي أصرّت على أن تشارك في المعركة رغم رفض ستيفان، وطلبه المستمر منها أن تعود إلى مملكتها حتى أصابه اليأس، ولم يعد يتكلم معها في هذا الموضوع.

أما ديانا فلم تستيقظ من غيبوبتها أبدًا، ولازمها ماثيو طوال الأسابيع الماضية، وكان ستيفان ينام على الأريكة في غرفتها ويقضي بقية وقته في التدريب، أما ويليام لم يزورها إلا بضعة مرات تُعد على أصابع اليدين، وقد كان يغرق نفسه في التدريب.
شعورٌ موجع أن تراقب حب حياتك يضيع من بين يديك قهو أكثر ألمًا من الموت.

ارتمى ويليام على الأرض؛ ليرتاح قليلًا، وفعل لوكاس المِثل، ثم نظر إلى شقيقه وقال بهدوء: متى ستزور ديانا؟

لم يرد عليه؛ فقد تحدثا في هذا الموضوع مِرارًا وتكرارًا ولم يجدي نفعًا، وكان ينتهي الأمر بعودتهما إلى التدريب أو رحيل لوكاس غاضبًا.

أغمض ويليام عينيه متذكِّرًا آخر مرة زارها فيها قبل يومين، فزادت النار المتأججة بين ضلوعه، وتجمدت أطرافه بردًا. كل لحظة ينهار فيها شيءٌ في داخله، ولكنه يظل واقفًا ينتظر النهاية، وقد أقسم أنه سيحرص أن يموت إن رحلت هي عن هذا العالم، ولكن ليس قبل أن ينتقم من الذين تسببوا في كل هذا الألم.

صوت خطوات مكتومة جعله يفتح عينيه ويجلس. تجاهل نظرات والده الحزينة ونهض مشيرًا نحو لوكاس ليكملا التدريب، ولكن تدخّل أوين مخاطبًا ابنه الأصغر: فلتنل قسطًا من الراحة، أنا سأتدرب مع ويل.

نقل لوكاس نظره من والده ثم إلى أخيه، وفكّر أن حرب التجاهل بينهما يجب أن تنتهي قبل الحرب ضد الهايدرا؛ فلا يمكنهم القتال في صفٍ واحد، والبغض الشديد يحكم علاقتهما.

ساحة التدريب مقسمة لأجزاء كثيرة تطوف في الهواء؛ حتى تتوفر المساحة الكافية للجميع. أومأ لوكاس نحو والده بصمت، ثم التفت ليقفز إلى حلبة أخرى حيث يتدرب أيزاك مع بعض المستذئبين.

حدّق ويليام نحو والده ببرود، وإنطفأ لمعان عينيه فصارت كأطلال منزل هجره سكّانه، ثم تحدث بتهكمٍ ساخر: تعلم أن تدريبك معي يعني نزالًا حقيقي؟

ابتسم أوين ابتسامة جانبية، ثم قال بتحدّي: إن فزت أنا ستقضي بقية نهارك بجانب ديانا.

تجهّمت ملامحه دون أن يتمكن من إخفاء ألمه الذي ظهر جليًّا في عينيه، ثم رد بتهكّم: وإن فزت أنا سأمسح بوجهك بلاط القصـ...

لم يتسنى له إكمال حديثه بسبب الإنفجار الذي أحدث فجوة في الجدار الشمالي للقصة، وكان ويليام يعلم أي غرفة تقبع خلف تلك الفجوة، فقفز سريعًا وركض نحو الجسد الذي يطفو في الهواء وقد خرج من الفجوة، وأصابته الصدمة الشديدة عندما تبيّن تفاصيل جسدها الضئيل، وخصلاتها التي تحولت إلى الأبيض وعينيها ذهبيتَين مشعّتَين.

أراد أن يتقدم نحوها ولكن ذراع المشعوذة يوجا منعته، نظر إليها باستنكار فقالت بتحذير: زوجتك من الهايدرا الأن، ولن نستطيع إرجاعها إلى وعيها الآن.

لم يرَ أحد ديانا بتعابير وجهها هذه، اعتاد الجميع على ابتسامتها اللطيفة، ونظراتها الحنونة، ووجنتَيها اللتين تشعّان عندما تخجل... كل هذا اختفى وأخذ مكانه برودٌ مخيف، نظرات خالية من المشاعر، وملامح شاحبة وكأنها من الأموات.

هبطت على أرض الإسمنتية تنظر نحو ويليام فتجمدت أطرافه ولم يعد قادرًا على الحركة، ثم بدأت خيوط ذهبية تحيط به وتشتد شيئًا فشيئًا وكل من حاول ابعادها احرقته حرارتها، وأما من نوى الهجوم على ديانا ابعدته بحركةٍ صغيرةٍ من يدها اليمنى دون أن تبعد عينيها عن ويليام.

الألم الجسدي الذي يعانيه ويليام لا يساوي شيئًا بجانب معاناة روحه وقلبه الجريحَين، وهو يرى توأم روحه بهذا الشكل الذي لا يشبهها.

حاول الكثير منهم أن يقطعوا الخيوط التي تحيط به ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك. ويليام بدا مستسلمًا بشكلٍ مستفز، كأنه ينتظر أن تضحك وتخبرهم أنها تمزح، ولكن هذه اللحظة لم تأتِ.

تقدمت توتيل مخترقةً الحشد، وبنظرات تملؤها القوة رفعت قبضتها ولكمت خد ويليام، فسببت حركتها الصدمة للجميع، ولكنها لم تكترث ووجهت إلى معدته ضربة أخرى، لم يكن ويليام يشعر بلكماتها المتتالية، فُصِل عن العالم وبدأت الحياة تُسحب من جسده، وكان على توتيل أن تُرجع إليه شعوره بما حوله؛ لأنها الطريقة الوحيدة لإنقاذه.

أمسك ستيفان بذراعها ليوقفها عمّا تفعل، فنظرت إلى الهلع في عينيه وعاد إصرارها من جديد فسحبت ذراعها والتفتت نحو ديانا متنفسةً بعمق، وقبل أن يتمكن أي أحد من توقع حركتها القادمة ظهرت نقوش متوهّجة على طول جسدها، وبدأ شعرها في تغيير لونه إلى الأحمر الناري، وظهر جناحَين كبيرين على ظهرها، فانطلقت نحوها بقوة أكبر.

أحاطت ديانا نفسها بقبة شفافة من أجل حماية نفسها، وعينيها لم تتحركا من على وليام، كيف تحوّل كل الحب الذي يسكنها إلى حقد يصل إلى الرغبة في القتل؟

عندما تسيطر روح الهايدرا على جسدٍ ما، تتحوّل كل المشاعر الإيجابية إلى أخرى سلبية؛ فيصير الحب كُرهًا، والوفاء خيانة، قد تقتل أقرب الناس إليك دون أن يرف لك جفن حتى.

حلّقت توتيل حول ديانا دون نية واضحة لمهاجمتها، ولكنها تحاول كسب بعض الوقت من أجل آكين؛ لينفذ خطته التي حبكها خلال الفترة الماضية. ضغطت على قلادتها ذات الطوق الجلدي، وخرزة متدلية من المنتصف دون تفاصيل أخرى، وقد امتلك آكين سوارًا يشبه طوقها، وفي اللحظة التي ضغطت هي على الخرزة في طوقها توهّجت خرزته فهبّ واقفًا وانتقل إلى حيث هي.

كانت الخطة تقتضي أن يتم نقل ديانا إلى مملكة توتيل ليتم إحتواء خطرها دون تعريض حياة أحد للخطر.

هبطت توتيل بجانب شقيقها والجيش خلفهما. ابتسمت ديانا بخبث لا يليق ببراءة ملامحها، واشتعلت  حلقة من النيران حولها، وازدادت القبة الحامية كثافة، وكأنها تتحداه أن يخترقها.

أشارت توتيل إلى الحشد -الذي جمدته الصدمة- خلفها بأن يلزموا مواقعهم، ولا يتدخل منهم أحد.

أحكم آكين قبضته محدقًا نحو ديانا بنظرات جامدة ثم خاطبها محذرًا: هذه أخر فرصة لكِ حتى تختاري الجانب الصحيح. فلتعلمي أن وجودك مع الهايدرا لن يجلب لكِ شيئًا غير الهلاك.

لم يتغير في ملامحها شيء، ولكن عينيها الذهبيتين إختلطتا بالأزرق وملأهما الهلع جزءًا من الثانية ثم أختفى وعادت نظراتها الجليدية؛ يبدو أن روح التايتينيا لم تستسلم، أو أن كلمات آكين أثّرت على ديانا.

تحدثت توتيل بهدوء كالذي يسبق العاصفة: أتركِ ويليام ليعيش، وإلا ستندمين بعد عودتكِ إلى رشدِك.

رسمت ديانا ابتسامة جانبية ساخرة، وجاء ردّها على شكل صرخة مدوية أطلقها ويليام إثر الألم الشديد الذي أُضرِم في جسده، وتلك الخيوط الذهبية تضيّق الخناق عليه.

اشتعلت نار الغضب في جوف آكين فبرزت عُروقه وظهرت نقوش زرقاء متوهّجة على كامل جسده، ثم أشعل جسمه بنارٍ تملك اللون ذاته حتى اختفت ملامحه، وفعلت توتيل المثل إلا أن ألسنة لهبها حمراء مصفرّة.

ارتفعا جسديهما في الهواء ثم انقضّا عليها، وفي اللحظة التي اخترقا القبة الحامية اختفت وظهرت بجنب ويليام فوضعت يدها على ذراعه واختفيا معًا.

أصدرت السيدة منيرفا صرخة ملتاعة، وكادت تسقط أرضًا لولا ذراعَي أوين اللتين أحيطتا بها، ثم همست بالقرب من أذنها اليسرى: أعدكِ أنه سيكون بخير، سأعيده وإن كلفني ذلك حياتي.

تقدم ريلاين نحو آكين الذي عاد إلى شكله الطبيعي، ثم خاطبه على عجل: هل ننفذ الخطة؟

نظر إليه بفك مسدود ونظرات مفكّرة، ثم أجاب: أي شيء نخطط له سيعلمن به، لذلك فلنرتجل.

~٠~*~٠~

قاعة حجرية مدوّرة، ذات سقف عالٍ جدًا، وجدرانها خالية من النوافذ، توسطتها طاولة دائرية من الزجاج دون أرجل تطفو على بُعد متر من الأرض، بعض المشاعل ذات نيران بنفسجية مثبتة على الجدار، وثلاثة جثث شاحبة تم تعليقها من أعناقها بحبلٍ خفي، فبدت وكأنها تطفو في الهواء.

وقفت هيلّا بجانب الطاولة تراقب الصور المتحركة على سطحها، فرأت ديانا عندما استيقظت من غيبوبتها وهاجمت ماثيو وأفقدته وعيه، ثم فجّرت الجدار فخرجت، وتوالت الصورة حتى انتقلت ديانا إلى حدود قصر الهايدرا المخفي.

رفعت عينيها نحو الباب وانتظرت بضع ثوانٍ حتى فُتح الباب، فدلفت ديانا وجسد ويليام يطفو خلفها وقد كان فاقدًا للوعي.

اتسعت ابتسامة هيلّا فرحّبت بابنتها، ثم اقتربت منها فوضعت كفّيها على وجنتَيها وقالت بغبطة شديدة: لقد انتظرت طويلًا حتى جاءت هذه اللحظة.

بادلتها ديانا الابتسامة فقالت مشيرةً نحو ويليام: جلبته معي حتى نتحكّم بجيشهم؛ لا أظن أن أحدًا منهم سيخاطر بحياة ويليام.

شبكت هيلّا أصابعها، خلف ظهرها، ثم سألت بعدم اقتناع: ما الذي يجعلكِ واثقة من هذا؟

ضحكت بسخرية، ثم أجابت دون اهتمام: الحب نقطة ضعفهم. أهل مملكته يحترمونه والسحرة كذلك، أما المستذئبين فلن يقدموا على أي خطوة دون مساعدة باقي الممالك، كما أن مملكة اللارميين يختبئون في جحورهم خوفًا من قوتنا.

كسا الجمود ملامح هيلّا فقالت: نسيتِ مملكة توتيل، هم الأكثر تأثيرًا على مسعانا، يجب أن نقضي عليهم قبل أن نشرع في القيام بأي شيء.

تأففت ديانا ثم ردت: حقدكِ القديم سيتسبب في دمارنا جميعًا.

اقتربت هيلّا من ديانا وشرارات الغضب تتطاير من عينيها، ثم أمسكت بمقدمة ملابسها وهمست بغضبٍ: لا تنسي أن حياة ذلك الأبله وراءكِ وابنه بين يدَي الآن.

ابتسمت ديانا بسخرية وقالت دون اكتراث: لم يعد الأمر يهمّني، ها هو بين يديكِ افعلِ به ما شئتِ.

حاولت هيلا تهدئة أعصابها حينما دخلت إيلا وخلفها يولا ورولا، وابتسامة واسعة تضيء ملامحهن، وتزيد جمالهن.

أشكالهن متشابهة كثيرًا، شكل الوجه المدوّر نفسه، عينان واسعتان مع اختلاف اللون، أما طول الشعر فكان ذاته بألوان مختلفة، وبالنسبة لثيابهن فكن عبارة عن بناطيل جلدية سوداء، وسترات من الجلد أيضًا مع قلنسوة أسدلت على أكتافهن، وأحذية ذات أعناق طويلة.

توهّجت ملامحهن بغبطة عظيمة فور وقوع أبصارهن على ديانا بفستان نومها الأبيض، فتقدمت يولّا نحوها وأحاطت كتفَيها بذراعها اليسرى وقالت بسعادة: كنت أتحرّق شوقًا لمقابلتكِ، وأن نعود إلى الوطن معًا.

رسمت ديانا ابتسامة جانبية، ثم سألت والدتها بسخرية: ألم تخبريهن عن السبب الحقيقي وراء كل أفعالكِ هذه؟ هذا مخزٍ.

نهرتها هيلا بنظراتها فقالت بهدوء مصطنع:

- أفيانا تمنعنا من العودة إلى الوطن، ويجب أن نجعلها تدفع ثمن خيانتها لنا، ولا يوجد طريقة غير تدمير الممالك الأربعة حتى نثبت قوتنا، ونتمكن من فتح البوابة المؤدية إلى عالمنا.

- قتل الجميع لا يثبت شيئًا سوى أنكِ مجنونة.

سخرت ديانا، فكادت تنقض عليها هيلّا لولا تدخل رولّا بوضعها حاجزًا شفافًا؛ يمنع هيلّا من الإقتراب من ديانا.

تحدثت إيلّا بحدّة: يجب أن نتوقف عن الشجار ونتجهّز. سنذهب اليوم إلى مملكة توتيل؛ لتخرج لنا ديلّا سيف أفيانا.

صححت لها ديانا بقولها: اسمي ديانا، لا أحتاج أسماءً مستعارة.

استعجلتهن يولا بنبرة آمرة: فلتذهبا لتغيّرا ملابسكما، سننطلق بعد قليل.

خرجت هيلّا غاضبة ولكن ديانا نظرت إلى ويليام الذي تقوم يولّا بأخذه إلى حجرة ما، ثم نقلت بصرها إلى إيلّا فسألت: كيف أعلم كل شيء بشأنكن، ولم أكن أفعل قبلًا؟

أجابتها بابتسامة لا تظهر مشاعرها ثم قالت: أرواحنا مرتبطة ببعضها البعض، واستغلينا كونكِ في غيبوبة لننقل بعض المعلومات إليكِ.

سحبت رولّا ديانا لتوصلها إلى حجرة في الطابق الثاني، كتب على بابها اسم «ديلّا» بأحرف ذهبية، فتجهمت ملامح ديانا وكادت تعترض إلا أن رولّا دفعتها إلى الداخل وأشارت نحو ملابس تشبه التي لبسنها هن موضوعة على السرير.

- استعجلي؛ يجب أن ننفذ الخطة سريعًا.

تحدث رولّا بنبرة هادئة ثم خرجت مغلقة الباب خلفها، وتركت ديانا تنظر إلى تفاصيل الغرفة ذات الجدران الحجرية، خالية من النوافذ، وأُنيرت الحجرة بكرة بلورية معلقة في السقف.

ارتدت ملابسها سريعًا، وعقدت خصلات شعرها القصير خلف رأسها، ثم خرجت متجهة إلى الحجرة التي سُجن بها ويليام.

لم تعرف ما إذا كان المكان قصرًا أم منزل كبير فحسب، لم تكن هنالك أي زخارف أو أثاث، وبعض المشاعل المثبتة في الجدران، الأبواب حديدية دون مقابض.

وقفت ديانا أمام باب الحجرة، وتسلل إلى سمعها صوت نبضات قلب ويليام من الجانب الآخر. لم تكن تشعر بشيء، لا مشاعر حب ولا كره، لا شيء على الإطلاق.

رفعت يدها ووضعتها على الباب دون أن تشعر ببرودته القارصة حتى، فاختفى على إثر لمستها، وأطلّت بحلّتها السوداء أمام ناظرَي ويليام المقيّد بسلاسل سحرية في يديه، ورجليه، وعنقه، وجذعه كذلك.

كان الضعف واضحًا على جسده، ولكن نظراته كشفت عن قوى لم ترى ديانا مثيلًا لها من قبل. اقتربت من موضع جلوسه، حيث أجبرته السلاسل على أن يفترش الأرض، ويستند على الجدار.

لم يتحدثا ولكن عينيهما نطقت بألف حديث، لم يتخيل ويليام أبدًا رؤيتها بهذا الشكل، لم تكن ثيابها هي الغريبة بل نظراتها الخالية من المشاعر، ملامحها الشاحبة، وشعرها الذي تغير لونه وعينيها معه.

بالنسبة لها لم يتغير به شيء، ولكنها لم تعلم ما شعورها نحوه، كان يجب أن تقتله ولم تفعل، مهمتها كانت قتل كل من يقف في وجهها، ولكنها لم تقتله أو التوأم اللذين تجرّآ على تحديها، يفترض أن تفعل الكثير من الأشياء ولكن شيء خفي يمنعها ولا تعلم ما هو.

- لماذا لا أستطيع قتلك؟

تمتمت دون شعور منها، فأجابها بثقة:

- لأنكِ تحبينني.

- لا أشعر بهذا الحب، أنا لا أشعر بأي شيء.

- الحب ليس شعور إنما أفعال ومواقف، ليس كلمات مدهونة بالزبد تختفي عند شروق الشمس. أنتِ تحبينني أكثر من نفسك، وتعرفين هذا أكثر مني.

امتلأت عيناه بالدموع ولكنه لم يذرفها، فنظر إلى السقف حتى يمنعها من الهطور على صحارى خديها اللذين لم تبللهما الدموع منذ سنين طويلة، ثم أردف بهدوء مفتعل:

- لقد كذبت؛ عندما سألتِني عن سبب معاملتي الجافة عندما كنتِ في منزل عائلي، والذي بالمناسبة منزل لوكاس.

- أعلم أنك كذبت.

شعرت ديانا بالإختناق فالتفتت راحلة ولكن أوقفها ويليام حين قال بكآبة يخفيها بهدوءٍ مصطنع: كنت خائفًا. عمري لم يتجاوز العاشرة عندما جاءت أفيانا إلى جدي وقد كنت معه حينها، قبل رحيلها سمعتها تهمس له قائلة: «حفيدك سيفقد أحب الناس إلى قلبه»، وخلال وجودكِ بجانبي كنت أرى في عينيكِ ما أراه الآن؛ نظرات خالية من المشاعر، وظننت أنه بإبعادكِ عني لن تفكر هيلّا في قتلك؛ لتحقق إنتقامها مني، وكما هو واضح لم استطع البقاء بعيدًا عنكِ.

خرجت دون أن ترد عليه، وتركته غارقًا في لوعته، ونارٌ متأججة في جوفه تحرق كل شيء. ستتحقق النبوءة، ولن يرى حبيبته مرة أخرى.

سارت ديانا حتى وصلت إلى الغرفة الدائرية -التي دخلتها عند قدومها-، فوجدت أربعتهن في انتظارها وقد تجهزن بالكامل، وعلى ظهر كلٍ منهم ثبتت جعبة للسهام، وكل واحدة منهن تملك قوسًا بنفس لون عينيها.

وقفن في دائرة حول الطاولة، فظهرت صورًا لجيش الممالك الثلاث ومعهم جنود مملكة توتيل وهم يتجهزون للمعركة.

بدأت إيلا الحديث قائلة بسخرية: يظنون أنهم سيهزموننا، يا لهم من حمقى!

أضافت رولّا بهدوئها المعتاد: يجب أن لا نستهين بهم، لا تنسوا أن توتيل وآكين معهم.

انفعلت هيلّا فقالت بغضب: هذين الطفلين لا يمكنهما فعل شيء من دون أفيانا، وهي غير موجودة ولن تكون كذلك أبدًا.

تدخلت ديانا وسألت بملل: ما هي مهمتي أنا؟

أجابتها إيلّا بإبتسامة جانبية:

- ستجلبين سيف أفيانا المسمى بضوء القمر من مملكة توتيل، وحينها سنصبح لا نقهر.

- وأين هو بالضبط؟

مررت هيلّا يدها فوق الطاولة فتغيرت الصورة إلى مركز الحكم في المملكة، ثم ظهر باب حجرة الاجتماعات، وقد توهّج الخنجر ذي النصل المتعرّج وتمدد ليصبح سيفًا، وجوهرة فضية تشبه القمر تزين مقبضه الأسود.

قهقهت ديانا وقالت بسخرية: السيف أمامهم طوال الوقت، يا لهم من أغبياء. ستكون مهمةً سهلة للغاية.

نظرت إليها هيلّا مفكّرة، ثم تحدثت بتهديد مبطن: تعلمين أنه في حال فكّرتي في خيانتنا، سأستمتع بقتل ذلك العاشق المقيّد على بُعد حجرات قليلة.

ابتسمت ديانا بسخرية وقالت: لو كنت خائفة عليه ما جلبته إلى هنا، ففعلي به ما شئتِ.

تقدمت نحوها فوقفت أمامها وجهًا لوجه وأردفت: العبث معي لن يفيدك، لا تنسي أن مصيركن بين يدي.

تدخلت إيلّا قائلة بازدراء: توقفا عن هذا حالًا، أمامنا الكثير لنفعله ولا وقت لنضيعه.

تبادلتا هيلّا وديانا نظرات مِلؤها البرود، ثم ابتعدت ديانا وحرّكت يدها اليمنى أمامها على شكل دائرة فظهرت بوابة ستنقلهن إلى حدود مملكة توتيل وكانت ديانا أولهن في العبور ولحقتا بها رولّا ويولّا، ثم إيلا بعد أن همست لابنتها بنبرةٍ زاجرة: تذكري أن حياتنا بين يديها، وإن ماتت سيكون قتلنا أكثر سهولة، ولن نعود للحياة كما حدث من قبل.

تجاهلت هيلّا حديث والدتها وعبرت دون مبالاة، ثم اختفت البوابة، ووقفن جميعهن في صف واحد حتى تقدمت ديانا لتعبر الحدود، وتبعنها من معها.

المدينة كانت خاوية تمامًا مما أثار الريبة في نفوسهن، وتعجّبت إيلّا: أين ذهب الجميع؟

ردت يولّا: بل كيف خرجوا دون علمنا ونحن نراقبهم عن كثب.

أنهت ديانا الحديث قائلة: هذا ليس مهمًّا، يجب أن نأخذ السيف ونرحل من هنا.

- إنه فخ بكل تأكيد، وسيظهر أولئك الخُرقاء في أي لحظة.

لم تُضِف إحداهن على حديث هيلّا الساخر، ولكن حاجز غير مرئ منعهن من متابعة الطريق بعد أن صار مركز الحكم في مرمى أعينهن، ديانا وحدها التي استطاعت العبور، فوقفت في الجانب الآخر مترددة بعض الوقت، ثم قالت بعزم: سأجلب السيف وأعود سريعًا.

لم تستمع إلى اعتراضاتهن، وسارت بخطى سريعة حتى دلفت إلى المبنى المشيّد من الطوب، وفي طريقها إلى الباب الكبير على بُعد أمتار قليلة منها، بدأ قلبها في الخفقان بشدّة، وتسارع تنفسها رغم محاولاتها في السيطرة عليه، وشعور غريب يحكم قبضته حولها.

وقفت أمام الباب بنظرات زائغة، وقد بدأ الألم يتسلل إلى جسدها ويجري مجرى الدم في عروقها، وتلك اللحظة التي أغمضت فيها عينيها، ورفعت فيها يدها نحو الخنجر المنقوش في الباب وقد شعرت كأنها دهر وفي النهاية استطاعت امساكه بيدها وسحبته بسهولة ويسر.

فتحت عينيها وحدقت بالسيف بين يديها، وشعرت بقوة لا مثيل لها تسري بدلًا من الألم الذي أحسّت به طوال اللحظات الماضية. وقد كان السيف كما رأته على سطح تلك الطاولة السحرية، وقد بدا أكثر جمالًا، ولكن انقبض قلبها وشعور مؤلم هاجمها عندما رأت إنعكاس صورتها على نصل السيف، وتغيرت فجأة إلى فتاة أخرى بشعرٍ أصهب وعينين فضيتين، تبتسم لها بفخر، ثم جاءها همسٌ أنثوي تزامنًا مع تحرّك شفتَي الفتاة على نصل السيف «إلتقينا أخيرًا، أيتها الإفاسيسا الموعودة»

سحبت ديانا نفسها وخرجت من المكان، وقلبها كان كعصفور سجين يطالب بالحرية. كان الهلع واضحًا على ملامحها حين خرجت لتجد آكين في انتظارها مع ابتسامة جانبية واثقة تزين ثغره.

تحدث باستمتاع لعوب: أرى أنكِ قد حصلتي على السيف، يا جلالة الملكة.

لم تتحدث في حين بدأت مشاعرها تتسلل إليها جالبةً معها الألم الذي تخلصت منها منذ تحولها، فأغمضت عينيها وكتمت صرختها، وانهارت لتسقط على ركبتيها والسيف بجانبها.

كان على آكين أن يستغل الفرصة ويخطف السيف منها ولكنه لم يفعل، بل قال مستغلًا ضعفها: عند زيارتكِ لي قبل فترة ظننت أنكِ مجرد كاذبة تبحث عن السلطة، ولكن نظرتُكِ الواثقة والمليئة بالصدق حين قلتِ أنكِ على استعداد تام لتُضحي بحياتكِ من أجل إنقاذ الأبرياء جعلتني أصدقك ولو قليلًا. لا أعلم إن كنتِ تتذكرين أم لا، ولكن موتكِ سيعطينا الفرصة للقضاء على الهايدرا، وقطع كل سُبل العودة للحياة عليهن، أثبتِ لي أنكِ كنتِ صادقة ولم تكذبِ.

صرخة فلتت منها، وقد كان ويليام يشعر بالألم ذاته الذي يحرق جوفها دون أن تعرف سببه.

تمالكت نفسها ورفعت ناظرَيها فوجدت ماثيو وستيفان مع مجموعة من الحراس يقفون خلف آكين الذي أردف مشيرًا نحوهما: انتصار الهايدرا يعني موتهما، توأمكِ وابنكِ، عند انتهاء كل هذه الفوضى ستجلسين وحيدة تفكرين بما حدث، وسينقض عليكِ تأنيب الضمير كالأسد الجائع، أخبريني، هل ستعيشين بسلام مع كل هذا الألم؟

غاب اللون الذهبي عن عينيها وأخذ الفضي مكانه. أعصاب الجميع مشدودة، حتى الهايدرا اللواتي يراقبن من بعيد كنّ على أعصابهن.

شدت ديانا على قبضتها، ثم همست بصوتٍ متحجرش: أنقذوا ويليام.

نظرت إلى طفلها وشقيقها وأردفت بنبرة ملؤها الأسى: لا تحزنا، سأذهب للقاء والدي، لقد اشتقت له كثيرًا، فلتعلما أني أحبكما أكثر من حياتي.

دون أن يتوقع أحد حركتها القادمة حملت هي السيف فعاد خنجرًا ووجّهت رأسه نحو قلبها، وقبل أن يتدخل أحدهم كانت قد طعنت نفسها وكتمت صرخة الألم التي كادت تفلت من بين شفتيها، وهي تحدّق بالسماء حيث ستصعد روحها إلى خالقها.

هرع إليها ستيفان فلتقط جسدها قبل أن يلامس الأرض، امسكت هي بيده تمنعه من محاولة إنقاذها، أما ماثيو فقد قيدته الصدمة ولم يستطع التحرك إنشًا واحدًا.

همس ستيفان متوسلًا، والدموع تهطل من عينيه: لا تتركيني أرجوكِ، لا حياة لي من بعدك، سأظل ناقصًا ولا أجد من يكملني في غيابك.

حاولت هي التكلم، ولكن لم يفهم من حديثها غير كلمتين وهما «اعتني وماثيو»، ثم غابت الحياة عن عينيها، فصرخ بكامل قوته حتى شعر وكأن إنفجارًا هائلًا قد حدث في جوفه، وسيول عينيه تجري على خدّيه.

سار نحوهما ماثيو كالجثة تمامًا، سقط بجانب جسد والدته الذي فارقته روحها إلى الأبد، ثم سحب الخنجر الملطخ بدمائها ورماه بتقزز، وأراح رأسه موضع قلبها المتوقف عن العمل، وعاتبها بهمسٍ حزين: رحلتِ باكرًا يا أمي. هل يرضيكِ ما سيصيبني في غيابك؟ ألم تخافي من أن أعود لما كنت عليه؟ ماذا سيصيب أبي عندما يعلم برحيلك؟ كيف سأزف له هذا الخبر الفاجع؟ لا أظن أنه سيصمد من دونكِ، بل لا أحد يمكنه أن يعيش بسلام من بعدكِ.

رحلن الهايدرا يبحثن عن طريقة لنجاتهن وقد نلن نصيبهن من صدمة وفاة ديانا، وبالنسبة إلى ويليام فقد شعر بتوقف العالم من حوله، ونبضات قلبه تخفت شيئًا فشيئًا حتى صارت تكاد تُسمع، تخدرت أطرافه وأغرورقت عيناه بالدموع، فانحدرت عبراتها على خديه لتبلل لحيته، ثم أطلق صرخة تصدعت على إثرها الجدران، وتحطمت السلاسل المحيطة به، فتحول الألم إلى قوة أعطته القدرة على الوقوف على قدميه.

خرج من الحجرة وقادته قدماه إلى الطاولة السحرية فرأى ما أثبت شكوكه ومشاعره... صورة ديانا وقد غطت الدماء صدرها وسالت على الأرض، وقد فارقت روحها جسدها وقد رافقتها روحه؛ لتتركه ميتًا بقلبٍ يجاهد للحياة.

🌟 🌟 🌟

-تمسح دموعها التي كالمطر-

شكرًا لصبركم طوال مشوار هذه الرواية، فأرجوا مزيدًا منه حتى الغد...

ترقبوا النهاية غدًا

اتركوا بعض الكلمات الداعمة لأكملها بنفس الحماس الذي بدأتها به.

سأترككم لتبلعوا صدمتكم...

في أمان الله ❤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top