XXVIII
-تتنهد بتعب-
أخيرا خلص البارت، 5594 كلمة، حد كان متوقع اني اوصل الرقم دا؟ مستحيل أنا نفسي مش مصدقة 😂💔
اولا كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك أعاده الله علينا وعليكم بالخير والصحة ❤
بما أن مفيش حد عطاني افكار عشان نحتفل بالذكرى السنوية الأولى لرواية فمش هحتفل بيها، وكتبت 3 فصول في واحد. لكن نشرت المقدمة من رواية جديدة اسمها الفارس والعفراء، مش هنشر فيها لحتى اخلص كتابتها عشان متأخرش في النشر بعدين 😋❤
استمتعوا ❤
🌟 🌟 🌟
قد يواجه المرء الكثير من المشاعر في حياته، منها المبهج ومنها الكئيب، بعضها يمضي وبعضها يظل يحمله في جوفه طول العمر... أحدها هو الخيانة.
هناك أشكال كثيرة للخيانة، قد تكون من صديق، حبيب، زميل، شريك حياة، أو أي شخص أعطيتَه ثقتك فقام برميها في أقرب سلة مهملات.
أشد أنواع الخيانة هو أن يستبدلك شخص -ذي مكانة هائلة في قلبك- أو يعطي مكانك لأحد آخر، قد يكون سببها الملل من العلاقة، وهنا تأكد أن هذا الشخص لم يحبك أبدًا، أو قد تكون أنت هو المقصّر في حق الطرف الآخر، وقد تعطي كل ما لديك لمن تحب، ولكن بعض الأشخاص لا يكتفون، والخيانة تجري في عروقهم مجرى الدم.
لم يذُق طعم الألم، من لم يُطعن بخنجر الخيانة...
كانت خطواته بطيئة للغاية، كأنه سجين يُقاد إلى حبل المشنقة، دخل إلى منزله الذي تركه قبل أيام قليلة، بعد أن رحلت عنه سبب بهجته الوحيد.
مر من أمام غرفة ألفين ولم يمنع نفسه من الوقوف لبعض الوقت، حتى تتضاعف كآبته، ويزداد معها عذاب ضميره.
أكمل طريقه حتى وصل إلى آخر حجرة في الممر، فتحها فقابله الأثاث البسيط لحجرة طفله، لم يدخلها منذ سماعه بخبر وفاة زوجته وطفله، والذي اتضح أن وفاتها لم تكن سوى خدعة.
نقل بصره بين السرير الصغير، وصندوق الألعاب، الستائر التي إختارها وعلقها بنفسه، والجدران التي حرص على على تلوينها والرسم عليها، والأرضية المغطاة بسجادة باللونين الأبيض والأزرق... كل شبر من هذه الغرفة يزيد من العذاب الذي عاشه لسنوات.
خارت قواه فهوى أرضًا، وراقب المكان من حوله بعينين ممتلئتين بالدموع، شعر وكأنه يشاهد حياته وهي تتفتت وتتحول لقطع صغيرة، ولم يبقى منها إلا الحطام، ما أبشع الخيانة!
خطوات هادئة قاطعت خلوته، وعند سماعه لأفكار القادم الجديد علم هويته، فمن غيرها ستترك الراحة وتأتي لتكون إلى جانبه؟ تواسيه بنظراتها العطوفة، لمساتها الحنونة، أحضانها الدافئة، كلماتها اللاتي تنسيه وجعه، وابتسامتها التي تضيء عالمه.
همس بنبرة مرتجفة دون أن يرفع نظره إليها: لا يجب أن تكوني هنا.
جلست أمامه ثم أحاطت وجهه بكفيها لتدفعه للنظر إلى عينيها المليئتين بالحنان، فهمست بنبرة مازحة بالكاد تخفي تعبها: لن يقرر أحمق مثلك ما الذي يجب والذي لا يجب علي فعله.
حاول أن يبتسم ولكنه فشل وقد خانته عيناه فهطلت أمطارها، فخرجت نبرته بتوسل بائس: أرجوك عانقيني.
امتثلت لرجائه الباكي وأحاطته بذراعيها فأدخلته جنان النعيم المتمثلة بعناقها الدافئ، ومضت دقائق من الصمت قطعه بقوله وما زال أثر البكاء مسيطرًا على صوته الهامس:
- قضيت سنوات طويلة واقفًا على أطلال حب كاذب، عشت تحت رحمة عذاب الضمير من أجل لا شيء، ظننت أنني أخونها بوجودي معك، ولكنها كانت تخونني منذ زمن الرب وحده يعلمه...
- وهل كان ليتغير شيء إن علمت الحقيقة؟
قاطعت حديثه بسؤاله الهادئ، فرفع رأسه لينظر إلى ملامحها المظللة بالأسى والتعب، فأجابها عاقدًا حاجبيه باستنكار: بالطبع.
ابتسمت بأسى وهي تحارب دموعها ثم ردت بنبرة متألمة:
- ما كنت لتحبني عل كل حال.
- بل كنت سأكسر تعويذة إيروس منذ رحيلها.
اكتسحت ملامحها صدمة عظيمة، وكانت ستبتعد لولا ذراعه التي أحاطت خصرها فقربها إليه، ثم قال: كنت واثقًا من قدرة هتين العينين على إيقاعي في شباكك، كنت وما زلت خائفًا من خسارتك كصديقة إن رفضتكِ. أعلم أنني أناني لاحتكاري لك دون أن أمنحك الحب الذي تستحقينه، ولكن هاجس فقدانك ظل يلاحقني طوال الوقت. كان يجب أن أكسر التعويذة منذ اعترافك بحبك لي، منذ أن جئتِ للعيش معي، ولكنني جبان كبير ولم استطع فعل هذا.
صمت قليلًا يحاول ترتيب أفكاره، ثم أكمل: عندما علمت أن الفتاة التي أحبها ويليام من قبيلة الذئاب، ووالدتها هي هيلا، حاولت أن أجبره على أن يعيد التفكير في الأمر ويتركها؛ فعلاقته بها شبه مستحيلة، لم أكن أعلم وقتها أنها زوجته، ولكن ما قاله لي قبل عودتها برفقة طفلهما جعلني أكسر التعويذة، لقد قال أن الحب الذي نتمكن من التحكم به ليس حقيقيًا، وإن استطعت نسيان من تحب فتأكد أنك لم تحبه أبدًا، لم أتذكر زوجتي بحب منذ سنوات، كنت أفكر فيها بدافع الألم وعدم قدرتي على حمايتها هي وطفلي.
حديثه جعلها غير قادرة على الرد، وظلت تفتح فمها وتقفله غير قادرة على التلفظ بأي حرف، فأحاط وجهها بكفيه وأسند جبينه على جبينها، ثم همس:
- أشعر أنني غارق في غرامك.
- لا أظن أن هناك حب يحصل بهذه السرعة، سيد أندرسون.
- التعويذة لم تكن ذات نفع في الحقيقة.
أبعدت رأسها عنه دون أن تبعد كفيه، فابتسمت قائلة: كان عليك القيام بتعويذة آغابي فهي أفضل.
تبسّم بعبث وغمز لها فقال: سأقوم بها معكِ يوم زفافنا.
تظاهرت بالعبوس وردّت: من خدعك، وقال أنني سأقبل بك زوجًا؟
ابتسم وعينيه تقولان الكثير ثم همس: عينيكِ لا تكذبان، ولكنني سأعمل جاهدًا لأثبت لكِ صدق مشاعري.
~٠~*~٠~
- هذه الطريقة مؤلمة...
- ما هي؟
قاطعته ديانا بحزم، فتردد قبل أن يجيبها: تسمى إتصال الثِّيرا بِيا.
تدخّل ويليام: هذا الإتصال لمشاركة الذكريات بين شخصين أو أكثر، كيف سيعالج ماثيو؟
تنهد ريلاين، ثم تحدث بهدوء: الذكريات تصنعنا، الماضي يبني شخصياتنا، كل شيء يحدث لسبب، وحده الخالق يعلمه. في مملكتي توجد طريقة لعقاب المجرمين بدلًا من إعدامهم، وهي تدمير ذكرياتهم، كل ذكرى سعيدة نجعلها بائسة وهذا يتلف شخصية المُعاقَب، تجعله متألمًا، وضائعًا طوال الوقت... هذا ما فعلته هيلا بماثيو، جعلته مظلمًا، وألقت عليه اسم مافرو ليكون اسمًا على مسمى.
كان وقع كلماته عليها، وكأنها انهيار جبلي على روحها، أما ويليام فلم يعلم هل يواسي نفسه أم يواسيها؟ وإن فعل، أسيجد كلمات تخفف عنها وجعها؟ هل هناك شيء ينقذ روحها من الاحتراق ألمًا وهي ترى طفلها يعاني الأمرّين، ولم تكن بقربه لتبعد عنه ألمه وحزنه، أو تؤنس وحدته.
سأل ويليام بصوت متحجرش:
- وهل سيفيده هذا الاتصال؟
- أجل، ولكن فلتعلما أن ما فعلته به هيلا أضعف روحه ولن يصمد طويلًا، لذلك لا يجب أن يستمر الاتصال أكثر من دقيقتين أو ثلاثة، ويجب أن تكونِ أنتِ الطرف الآخر من الاتصال؛ لأنكِ الأقرب إليه.
ختم ريلاين حديثه بالنظر إلى ديانا، مسحت دموعها وأومأت ثم توجهت إلى الطاولة الحجرية فاستلقت عليها، وفكّت شعرها لتغطي خصلاتها السوداء جانبَي وجهها، فأزاحتها لتتدلى من الطاولة وكادت تلامس الأرض. وقف ويليام بقربها ممسكًا بكفّها، فهمس مشجعًا: طفلنا سيكون بخير، أثق أنكِ قادرة على فعل هذا.
كان الرجل الذي يقف على رأس الطاولة التي يستلقي فوقها ماثيو يسمى يامانو، أما الآخر فيدعى أمون.
توجه يامانو نحو الجدار الشرقي، وضغط على نقطة ما ففُتح دُرج يحتوي على عدة قوارير صغيرة بألوان مختلفة، أخذ واحدة باللون الفضي وأخرى سوداء، أعطى الأخيرة لرفيقه فمررها إلى ديانا وأشار لها بأن تشربها، بينما قام بمساعدة يامانو ليسكبا السائل الذي تحتويه القارورة الفضية في فم ماثيو، ويتأكدا من دخوله إلى جوفه.
كان طعم السائل الذي شربته ديانا مُرًّا للغاية، فشربته دفعة واحدة مغمضةً عينيها بشدة، وبعد فراغِها من شُربها أخذ أمون القارورة ليضعها مع الأخرى في دُرج آخر أظهره كسابقه.
شعرت ديانا بدوار خفيف إزداد شدة فأعادت رأسها إلى الطاولة بعد أن جلست لتشرب السائل، وقبل أن تفقد وعيها شعرت بقبلة ويليام على جبينها، وسمعت همسه بكلماتٍ مشجعة.
أخذ يامانو مكانه أعلى رأس ماثيو في حين وقف أمون في نفس الموضع بقرب ديانا، وضعا كفهما الأيمن على جبين كلً من ماثيو وديانا ليبدءا في تلاوة تعويذة جعلت الخطوط السوداء بين الطاولتين تتوهج وتتمدد لتتسلق الطاولتين حتى وصلت لجسدَي ديانا وطفلها، وما زالت كف ويليام متشبثً بخاصة ديانا وكأنها ستختفي إن تركها.
بدأت حياة ماثيو الجديدة بين جدران حجرة مظلمة، دون نوافذ، يوجد باب وحيد ذي فتحة صغيرة يمررون له الطعام عبرها، كان يتخذ جسد الشاب ذي العشرين عامًا خلال استيقاظه وعندما يرغب في النوم يعود طفلًا، ولكن مستوى ذكائه وطريقة تفكيره تعدت عمره بكثير، ظل وحيدًا لأيام طويلة حتى قُتِلا الأمل والبهجة داخله، ثم نُقل إلى مبنى آخر وهناك تم حقنه بعقاقير لغت مشاعر الخوف والوحدة، وبعدها وضعوه في ساحة التدريب وأصبح لا يقهر، وحش لا يخاف ودون مشاعر، لا عائلة، لا أصدقاء، ولا أحد يحبه، الجميع يهابونه، ويفزعون من ذكر اسمه، وهكذا استخدمته مافروس ليكوس ليكون الأغلال التي تُكبل قبائل الذئاب من حولهم.
رأت ديانا كل هذا في مشاهد سريعة، ولكنها أحست بما كان يصيبه من ألم، وحزن حتى ابتلع الظلام كل المشاعر والأحاسيس الجميلة التي كانت تُضيؤه.
في الجانب الآخر رأى ماثيو أجمل لحظات حياتها، طفولتها برفقة شقيقها ووالدها، ثم تسللها الدائم للقاء ويليام، تطور علاقتها به، تعرفه على والدها وزواجه منها. حملها به وسعادتها الغامرة عندما امسكته للمرة الأولى ومواقفه معها، غيرة والده لإستحواذه التام على إهتمام والدته. الخدع السحرية التي كان والده يقوم بها ليلاعبه ويجعله يضحك... كل ذكرى سعيدة أضيفت إلى ذكرياته.
بعد مدة قصيرة همس يامانو ورفيقه بتعويذة أخرى جعلت الخطوط المتوهجة تعود حيث كانت ثم انطفأ توهجها، لينتهي اتصال الثيرا بيا قبل أن يهدد حياة ماثيو بالموت المحقق.
جلب أمون قارورة أخرى من أجل ديانا فساعده ويليام لتشرب الجرعة حتى تستعيد وعيها، وسرعان مافتحت عينيها لتستقبلها إبتسامة ويليام وعينيه العطوفتين، فسأل: كيف تشعرين؟
أغمضت عينيها فتنهدت، ثم أجابت بهمس: لا أشعر بشيء، كيف هو ماثيو؟
تقدم ريلاين فوقف بقربها، ثم قال: إنه بخير، سيستعيد وعيه بعد فترة قصيرة، في هذه الأثناء سنذهب للقاء الملك وعندما نعود سنجده مستيقظًا.
عقدت حاجبيها باستنكار ثم اعترضت قائلة:
- لن أتركه وحده هنا.
- لن يكون وحده، هذا المكان مليء بأناس نثق بهم أشد الثقة...
قاطعته قائلة بعد أن اعتدلت جالسة: بعد الذي رأيته قبل قليل، يستحيل أن أسمح بإبتعاده عني أبدًا.
تدخل ويليام محاولًا إيجاد حل يرضي الطرفين: ألا يمكننا أن نأخذه معنا، أو نعود به للمملكة ونذهب بعدها؟
أجابه ريلاين: يجب أن يبقى هنا حتى يستيقظ ونتأكد من سلامته، كما أنه ليس لدي وقت لتضييعه.
نزلت ديانا عن الطاولة فوقفت في وجهه، ثم قالت بنبرة مليئة بالتحدي: إذًا فليستمتع والدك العزيز برحلته إلى مملكة السحرة لمقابلتي.
تبادلا نظرات التحدي دون أن يتلفظ أحد بأي شيء، تدخّل ويليام فقال: سأبقى أنا هنا، وبعد استيقاظه سأعيده للمملكة؛ لتعتني به والدتي، وألحق بكما بعدها.
رد ريلاين عاقدًا ذراعيه فوق صدره: أنت لا تعرف كيف تصل إلى هناك، كما أنني سأعيدها من حيث أخذتها، لا تتعب نفس باللحاق بنا لأننا لن نتأخر، وقد نرجع قبل أن يعود وعيه.
شعر ويليام أنه قد تم التخطيط لكل هذا، لم يرغبوا في السماح له بدخول أرضهم من الأساس؛ لم تطأ قدم أحد ليس من اللارميين تلك المملكة أبدًا، ويرغبون في أن يستمر هذا الوضع على هذا النحو.
نظر إلى ديانا ليجد الرفض قد كسا ملامحها الطفولية، وقبل أن تتمكن هي من قول أي شيء وجّه حديثه نحو ريلاين بنبرة تهديد:
- إن أصابها أي مكروه، فصدقني عندما أقول أن نسف مملكتكم، ومسحها من الوجود سيكون من دواعي سروري، فأنا لا أمزح على الإطلاق.
- بالرغم من تأكدي من عدم قدرتك على فعل هذا، إلا أنني سأطمئنك وأقول أنها ستعود كما رحلت.
حاول ويليام أن يسيطر على أعصابه ونجح رغم أنه كاد يفقدها بسبب نبرة ريلاين الهازئة.
دنا ويليام نحو ديانا فأخذها بين ذراعيها، ثم قبّل جبينها، فقال:
- اعتني بنفسك من أجلي.
- سأفعل، عندما يستعيد ماثيو وعيه فلتخبره أنني أحبه.
ابتسم بمزاح فهمس: وماذا عن والده المسكين الذي حمَلَه طوال الطريق إلى هنا.
ردت بابتسامة ضاحكة:
- وأنا حملته في داخلي لتسعة أشهر كاملة.
- معكِ حق.
قهقه لردها فطبع قبلة أخرى على جبينها، ثم توجهت برفقة ريلاين لخارج الحجرة، ومنها إلى الممر المائي، فسألت ديانا باستغراب: كيف جلبتم البحر إلى الصحراء؟
حاول إخفاء ابتسامته فأجابها: لم نفعل.
عقدت حاجبيها باستنكار فقالت بِغَيط:
- أتستهزئ بي؟
- كلا، نحن فعلًا لم نجلب البحر إلى الصحراء.
ولجا إلى حجرة النباتات ومنها إلى باب جانبي وقبل أن يفتحه أكمل حديثه بابتسامة مشيرًا نحو الدرج: تلك البوابة التي جئنا منها تتنقل باستمرار، في الحقيقة نحن في مكان آخر تمامًا، وكما قال زوجك العزيز عن مملكاتنا، فموقعنا الحالي هو أطراف مملكة اللارميين بالقرب من القارة القصيّة. ومن حسن الحظ أن هذه الجدران مسحورة فلن يستطيع سماع حديثنا.
أردف حديثه بفتحه للباب الفولاذي، فكشف عن عالم آخر أقل ما يقال عنه أنه قد صُنع من الخيال.
كانت الأحصة المجنّحة البيضاء تحلق في السماء ذات الزُّرقة الخلابة، والخالية من السُّحب... كل شيء كما لاحظت في تلك الرسومات التي أراها ويليام إياها في المكتبة، كان القصر شامخًا في منتصف حلقات اليابسة التي تفصل بينها الخنادق المائية، بالرغم من موقع وقوف ديانا على أطراف المملكة إلا أنها تمكنت من رؤية التفاصيل المعمارية، التي تجمع بين الحضارة الفرعونية والإغريقية، كل شي كان من الرخام الأبيض، ومُزيّن باللونين الفضي والذهبي.
لم يمهلها ريلاين الوقت الكافي لتتأمل، فسأل على عجل: أتريدين وسيلة نقل مائية أم جوية؟
استغرقت بعض الوقت حتى عادت إلى الواقع، ثم أجابت: الجوية.
عند سماعه لإجابتها أصدر صفيرًا عاليًا نسبيًا وسرعان ما هبط اثنين من الأحصنة المجنحة على مقرُبة منهما، مما جعل عينيها تتسعان بإعجاب مختلط بالصدمة.
ساعدها ريلاين على إعتلاء أحدهما وامتطى الآخر ثم انطلقا. المنظر من السماء كان أكثر جمالًا، راقبت المنازل والسُّكان، والأجهزة الكبيرة، ومما لاحظت فهي تستخدم لتصفية المياه المنعزلة عن المحيط.
هبطا أخيرًا في حديقة القصر المليئة بالنباتات والأزهار وهناك نوافير كتلك النافورة الزجاجية التي رأتها في حجرة النباتات.
هبط ريلاين عن الجواد بخفة، ثم ساعد ديانا على النزول، وبمجرد أن تركت ظهر الحصان، ووقفت على الأرض حلّق الحصانان عائدين إلى السماء.
قادها نحو باب جانبي، وعندما دخلاه قابلهما رواق طويل يحتوي على عشرة أبواب، وفي نهايته يوجد باب فضي اللون كأنه صنع من العديد من الأغصان المتشابكة، وعند إقترابهما منه فُتح تلقائيًا كاشفًا عن قاعة كبيرة بدت مألوفة للغاية، وسرعان ما تعرفت ديانا على الأرضية الزجاجية حيث تقبع تحتها مياه صافية مليئة بالأسماك، وجدرانها الخضراء، وسقفها السحري، الإختلاف الوحيد كان العرش الذهبي، وقد وضع على جانبيه تمثالَين متماثلَين لطائر ذي ألوان عديدة، يجمع طرفَي جناحيه أمامه، وينكس رأسه ناظرًا للأرض، فبدا وكأنه غافٍ.
نقلت ديانا بصرها حول المكان ومشاهد حُلمها تُعاد أمان ناظرَيها، وفي منتصف القاعة رأت جدها بردائه الملكي ذي اللون الأحمر القاني، وخصلات شعره السوداء منسدلة على كتفَيه بمسافة قصيرة.
فتح ذراعَيه مُرحِّبًا، فقال بابتسامة لا تصل إلى عينيه: مرحبًا بعودتكِ.
أومأت وعلى شفتَيها طيف ابتسامة، وتساءلت عن السبب وراء خداعهم لها وويليام حتى لا يأتي برفقتها، وكانت الإجابة واضحة كقرص الشمس في السماء، وهي أيًا كان ما سيدور حديثهما حوله فلا يرغب جلالته بأن يعرفه أحد.
قطعت ديانا الصمت الذي سيطر على الأجواء ثوانٍ قليلة، فقالت بشك: رأيت هذا المكان في حلمي قبل فترة قصيرة، رغم أنني لم أدخل هذه القاعة في زيارتي السابقة، ما هو السبب يا تُرى؟
ابتسم اسهيري بسبب نبرتها التي تخفي وراءها اتهام مبطن، ثم قال: أثناء النوم تخرج الروح من الجسد، وقد استغلّيت هذا الأمر حينها لأجلبكِ إلى هنا.
عقدت هي حاجبيها فقالت بتعجّب:
- تجلبني؟
- كان يجب تزويدكِ ببعض المعلومات دون أن تدرك الهايدرا، وحتى لا يشك أحدٌ بالأمر تظاهر بأنني والدي وأننا التايتينيا، وبذلك حتى وإن علمت الهايدرا ستظن أن التايتينيا قد تواصلوا معكِ وسيخيفهم هذا.
تقدم ريلاين فأشار نحو باب في الجانب الآخر من القاعة، ثم تحدث بهدوء: ما رأيكما بأن نكمل حديثنا في قاعة الاجتماعات، فالجميع ينتظروننا هناك.
آثرَت ديانا الصمت وهي تتبعهما، فولجوا إلى قاعة أخرى تشبه التي كانوا فيها إلا أن حجمها أصغر، وتتوسطها طاولة بيضاوية من العاج، يجلس حولها ثلاثة أشخاص، وقد وقفوا احترامًا عند دخولهم، المرأتين والرجل من ذاك الحلم، ففهِمت ديانا السبب وراء حديث اسهيري بصيغة الجمع.
سيطرت على علامات الصدمة التي ظهرت على وجهها واستبدلتها بأخرى حانقة، فسألت بغضب مكبوت: أيمكن لأحد منكم أن يشرح لي ما يحدث هنا؟
أشار ريلاين نحو أحد المقاعد الشاغرة فقال برجاء: اجلسي من فضلك، سنشرح لكِ كل شيء، وسنجيب على كل أسئلتكِ.
بللت شفتيها بطرف لسانها، وتنفست بعمق لتهدئ أعصابها فجلست على رأس الطاولة، وبسبب حجم وشكل المقعد المختلف علمت أنه يخص الملك، وقد فعلت ذلك لتغيظه، ولكنها فشلت إذ تسللت ضحكته المكتومة إلى مسامعها، وجلس على المقعد المجاور لها، تحت أنظار الجميع المصدومة.
جلس البقية وانتظروا بدء الملك في تفسيره لما حدث، ولم يطل ذلك طويلًا إذ حمحم فقال: قبل سنوات طويلة جدًا، جرت حرب بين التايتينيا والهايدرا، راح ضحيتها الملايين، ولكن ظهرت ملكة التايتينيا الشرعية ونقلت شعبها إلى بر الأمان، والجميع ظن أنها ضحّت بحياتها في سبيل القضاء على من تبقى من الهايدرا، ولكنها لم تتمكن من قتل أحد منهم وفضّلت تجريدهم من قواهم ونفيهم إلى عوالم أخرى، ومن سوء حظنا فرّت فتاة برفقة جدتها إلى كوكبنا قبل أن تتمكن الملكة من تجريدهما من قواهما.
صمت ثوانٍ قليلة، وقد ظهرت صور مجسمة على الطاولة توضح ما قاله، ثم أكمل: كانت الجدة مريضة فاضطرت الفتاة أن تطرق باب أول منزل تجده في طريقها، وقد جاء بها القدر إلى كوخ صغير يمتلكه شاب وحيد...
قاطعته ديانا بهمس: الجد ديكسون!
ابتسم اسهيري فأومأ بالإجاب، ثم قال: أجل، كما أنّ القصة التي كتبت في الدفتر ناقصة، ومن واجبي أن أكملها لكِ.
راقب اختفاء الصور المجسمة على الطاولة، بينما تجاهلت ديانا تساؤلاتها حول معرفته بالقصة في ذلك الدفتر واستمعت إليه بتركيز حينما تابع بنبرة هادئة تخفي حزنًا دفينًا: في ليلة وِالدتنا كان من المفترض أن نكون خمسة، ماتت والدتي ودفنت وفي أحشائه ما زالت شقيقتي على قيد الحياة، وجاءت لوالدي في منامه العجوز نفسها التي زار حديقتها في حلمٍ سابق، وأخبرته عن الطفلة وأنها على قيد الحياة، فذهب مسرعًا والمفاجأة كانت إختفاء والدتي من القبر، ومما زاد الأمر تعقيدًا هو عدم وجود أثار للحفر على القبر، وبعد وفاته بسنوات عديدة وذهاب كلٍ منّا في طريقه الخاص، زارتني ملكة التايتينيا وهي تحمل بين يديها طفلة لم تتجاوز اليومين، وطلبت مني أن أعتني بها، وقالت أن اسمها هو هيلينا.
شعرت ديانا بصداع يفتت جمجمتها إثر الكم الهائل من المعلومات، فسألت بتعجّب:
- ماذا حدث لوالدتك وشقيقتك؟
- لا أحد يعلم سوى ملكة التايتينيا، ولكنها قالت أن هيلينا هي ابنة شقيقتي.
- سأصاب بالجنون، أوليست هيلينا ابنتك وزوجتك هي إيلا.
- إيلا هو اسم شقيقتي المستعار، اسمها الحقيقي إيلينا، كما أن زوجتي تجلس أمامكِ الآن واسمها كورا.
نقلت ديانا بصرها نحو السيدة السمراء الجالسة قُبالتها، ثم أعادته نحوه فسألت بشك:
- كيف تمكنتم من إخفاء هذه الحقيقة؟
- من عاداتنا أن لا يعرف أحد -غير الزوجين- بشأن جنس الطفل إلى أن يمر على ولادته أربعين يومًا، وعندما جلبت ملكة التايتينيا هيلينا إلي كان قد مر على ولادة ريلاين بضع ساعات فقط، ظنّت أنني سأكون خير أبٍ لها ولكنني فشلت.
تجلّى الحزن على ملامحه، وظهر الندم في نبرة صوته، فوضعت زوجته كفّها على ذراعه وقالت بنبرة مواساة: لقد قمت بما يجب عليك فعله، لم تُقصّر معها، وما حدث ليس خطؤك.
نظرت ديانا نحوها رافعةً حاجبها، وابتسمت بسخرية فقالت بتهكم: كل ما فعله هو استخدام قواها لهزيمة أعدائه.
تدخل الرجل -ذي العينين الزمرديتين، والشعر الأبيض- فقال بنبرة جامدة: كما فعل زوجك العزيز ووالده المبجّل.
حدقت به ديانا وبالكاد تسيطر على أعصابها، ثم قالت من بين أسنانها: أضف كلمة أخرى، ولا تتعجب إن لم تجد لسانك داخل فمك بعدها.
ديانا الجالسة على المقعد الملكي الآن ليست المرأة التي كانت عليها قبل ثوانٍ؛ تغير لون عينيها -فجأة- من الرمادي إلى الذهبي، وبدأ شعرها يتحوّل إلى الأبيض لولا أن أغمضت عينيها بشدة تحاول أن تسيطر على أعصابها، وسرعان ما تمكنت من ذلك ففتحتهما، ونهضت بملامح لا تظهر شيئًا من مشاعرها، وأثناء ذلك تجمدت أجساد الذين حولها، وجلسوا يترقبون حركاتها.
إلتفتت ديانا وراقبت وجوه الجالسين الذين يراقبون رد فعلها فتنهّدت عاقدة ذراعيها أمام صدرها، ثم تحدثت: دعني أستوضح الأمر، زوجة الجد ديكسون هي من الهايدرا، وكانت ما تزال حاملًا عند دفنها، وقد اختفى جثمانها مع الطفلة، وبعد سنوات تم جلب حفيدة شقيقتك المختفية إليك، وبدلًا من أن تجعل منها امرأة عظيمة وتصلح ما دمره الجشع والغرور بينك وبين أشقائك، قمت بإستخدامها كسلاح لتهيمن على الكوكب... هل أخطأت في فهم أمر ما؟
إجابة سؤالها كانت الصمت فأردفت أثناء دورانها حول الطاولة: قمتم بخداعي بانتحالكم لهوية التايتينيا، وجعلتموني أصدق أنني منهم وأنني السيف الذي سيقضي على شر الهايدرا، ونسيتم ما هو أكثر أهمية...
صمتت ثوانٍ وهي تنظر نحو اسهيري بسخط، ثم أكملت: نسيتم أنني قد أكون أنا السلاح الذي تستخدمه الهايدرا لتدميركم.
تدخّل ريلاين معترضًا: أتظنين أننا سنسمح بهذا؟
حدجته بنظرة مستخفّة فقالت: سمحتم بحدوث الكثير من الأشياء، لما قد تستثنى هذه المرة؟
وقف اسهيري وقد كسا الهدوء ملامحه المتعبة. رغم مظهره الذي يدل على كونه رجل ثلاثيني إلّا أنّ روحه قد تجاوزت المئتين، وحده يدري كم هو مؤلم أن تمضي السنوات دون يلقي لها بالًا، وها هو يحصد ما زرعته يُمناه.
وضع الملك كفّه الأيمن على الطاولة، فظهرت صورة لسيف ذي مقبض على طائر يشبه العنقاء، ونصل كرستالي، ثم تحدث بهدوء: هذا السيف هو الطريقة الوحيدة لقتل الهايدرا، ولكن الشخص الوحيد الذي يعلم مكانه هو ملكة التايتينيا، والتي اختفت منذ أكثر من عشرين عامًا.
حدقت ديانا بمجسم السيف، واليأس يسيطر على مشاعرها، ثم سألت بأمل: ألا يوجد طريقة أخرى؟ لقد أخبرتني أنكم تصنعون الأسلحة، يمكننا صنع سيف مثله.
رد الرجل المدعو بـرايدِن: هذا السلاح من صنع التايتينيا ولا أحد يمكنه صنعه غيرهم، كما أنه النسخة الوحيدة المتبقّية.
نظرت حولها بحيرة، وشعور العجز يكبل تفكيرها، والألم يغرز مخالبه عميقًا في فؤادها، ثم تحدثت: يجب أن نعقد اجتماعًا عاجلًا في مملكة السحرة، حتمًا سنجد حلًّا لهذه المشكلة.
أخفض اسهيري نظره وتمتم: لا يمكننا ترك المملكة.
حدقت به ديانا بحاجبين معقودين، وسألت باستنكار: ما الذي يمنعكم؟
لم يجبها أحد منهم وجلسوا بصمت زاد من غضبها فقالت بسخط: فلتظلوا هنا كالجبناء حتى يتم القضاء على الجميع، ويحين دوركم.
دارت على عقبيها وخرجت من المكان والغيظ يدفع قدميها لتسير أسرع. سمعت صوت خطوات أحدهم تتبعها، ولكنها لم تكترث وتوجهت نحو الباب الذي دخلت منه إلى القصر، وعند وصولها إلى نهاية الرواق المؤدي إلى الخارج أمسك ريلاين بذراعها لتستدير نحوه بملامح غاضبة فتركها، وقال بهدوء محاولًا تهدئتها: الأمر ليس كما تظنين.
استدارت لتكمل طريقها قائلة ببرود: فلتحتفظ بأعذارك الواهية لتخدع بها الحمقى أمثالكم.
لحق بها أثناء مغادرتها من القصر إلى الحديقة، وأثناء بحثها عن بوابة الخروج، وقد أعما الغضب بصيرتها فلم تنظر حولها، وكل ما كان جميلًا في هذا المكان تحول إلى أكثر الأماكن التي تثير نفورها، ورغبتها في الرحيل تزداد وتتضاعف، ولكنها لن تطلب المساعدة من أي أحد.
كل شيء حولها مصنوع من الرخام، والمعادن الفضية والذهبية، المنازل بُنيت فوق بعضها البعض لتكوّن بناياتٍ شاهقة، الرجال والنساء من حولها يسيرون برؤوس مرفوعة، يرتدون الملابس باهظة الثمن من الحرير والقنب والجوت¹، أما أحذيتهم فقد صنعت من الكريستال وتم تبطينه بطبقة من مادة تجعله مريحًا. وفي كل مرة يقع بصرها فيها على أحدهم يزداد حنقها وبغضها للمكان، الغرور والتّعالي يحكمان قبضتيهما على كل فرد.
أما ريلاين فتركها تسير أمامه ولم تغب عن ناظريه أبدًا، قطعت نصف المسافة إلى أطراف المملكة، وعندما وصلت إلى الجسر الذي يصل المنطقة الثانية والثالثة، وجدت مجموعة من الأطفال بملابس ممزقة حافيين القدمين ييبيعون بعض الأغراض المستعملة، لم تملك الطاقة الكافية لتغضب وتسبب المشاكل لأولئك المغرورين.
غضت بصرها عنهم وتابعت طريقها، هي لا تستطيع مساعدتهم، كيف لها ذلك وهي تحتاج إلى العون؟ عليها أن تربح هذه الحرب من أجلهم، أولئك الذين لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم ومن يحبون.
خشخشة الحصى -الذي يشبه ذرّات السكر ولكن بحجم أكبر- تحت قدمَي ديانا هو الصوت المسيطر على المكان، أما ريلاين فوقف يراقبها من بعيد دون أن يقتحم خلوتها.
الكثير من الأفكار تملأ رأسها مسببةً ضوضاء مزعجة يكاد أن يبلغ صداها الطبيعة الخلابة من حولها، زقزقة الطيور من حولها، حفيف الأشجار العالية، خرير مياه الخندق الذي تسير على ضفته... للحظة شعرت وكأنها جزء من المكان، كأن روحها خلقت منه.
جلست على حافة اليابسة، فرفعت أطراف فستانها وخلعت حذائها، لتغمر مياه البحر قدمَيها، ثم استلقت تراقب مَغيب الشمس والألون الرائعة التي تُزيّن صفحة السماء.
دنا ريلاين منها، وجلس بقربها دون أن يضع قدميه في الماء، فسألت دون أن تنظر نحوه: هل هناك شيء يجب أن أعرفه؟
اكتفت من الصدمات التي تتلقاها باستمرار، لا تكاد تنهض من واحدة حتى تسقط عليها أُخرى دون أن تترك لها زمننًا لتستوعب سابقتها.
- لا أعلم على وجه الخصوص؛ فهناك الكثير من الأشياء التي يجب أن تعرفيها، على سبيل المثال: كيف نعلم العديد من المعلومات عنكِ، وكيف من الممكن أن تجتمعا روحَي الهايدرا والتايتينيا في جسد واحد، وربما مكان تواجد ستيفان؟
نبرته مستفزة للغاية، فقد كان يستمتع بحرق أعصابها، فحصل على رد الفعل الذي يريده منها، جلست بسرعة البرق والتوق لمعرفة الإجابات التي قد تكون السبب في تحسين الوضع، وإصلاح الخراب الذي حَلَّ على نفسها.
صاحت به عندما توقف عن الكلام؛ ليستفزها أكثر: تابع حديثك وإلا حطمت رأسك الفارغ هذا.
قهقه ساخرًا فقال باستخفاف: لا أحد ينكر مدى قوتك، ولكنك لا تستطيعين التحكم بها، كما أنكِ لستِ قادرة على أذية نملة.
برز الحنق على ملامحها أكثر فأكثر وقالت بغضب مكتوم: أخبرني عن مكان ستيفان وإلا سأشويك وأطعم جسدك للكلاب الضالة.
فلتت ضحكة من بين شفتيه، ولم يستطع كتمها طويلًا فقال بعد أن استعاد أنفاسه التي توقفت إثر ضحكه الشديد: ما زلت أتساءل، كيف وقع شخص كويليام في حب فتاة مثلك؟ أنتما كالشرق والغرب لا تجتمعان أبدًا.
ارتفع طرف شفتها العلوية مع حاجبها الأيسر، ونظرت إليه باستنكار وقبل أن ترد سبقها ففسّر حديثه متفاديًا انفجارها في وجهه: ويليام رجل صارم، لا يظهر مشاعره أبدًا، تربى وترعرع على مبادئ والده، صار مجرمًا ولا يفكر إلا بمصلحته حتى قابلكِ، أنتِ الفتاة التي تفكر في مصلحة الآخرين قبل نفسها، بريئة للغاية ولا تحقدين على أحد، هدفك في الحياة هو سعادة مَن هم حولك... لم أكن أؤمن بالحب حتى رأيتكما معًا، وما قمتي بتغييره في ويليام لم تستطع والدته -وهي أقرب الناس إليه- أن تبدّل فيه شيئًا.
هدأت ثورة غضبها فهمست: لم أغيّر فيه شيئًا، أظهرت حقيقته التي يخفيها وراء قناع لم يعلم بوجوده أحد حتى هو نفسه.
مضى بعض الوقت راقبت ديانا خلاله اختفاء آخر خيوط الشمس واستبدالها بأضواء المدينة القابعة أمامها، وقد عُكس بريقها على سطح الماء.
قطع ريلاين الصمت فقال: كُنّا نراقبكِ منذ ولادتك -بناءًا على طلب ملكة التايتينيا- كنتِ وما زلتِ تمتلكين أطهر قلب رأيته في حياتي، قد تظنين أن هذا عيب في شخصيتك ولكن طيبة قلبك هي التي منعت روح الهايدرا التي في داخلك من أن تسيطر عليكِ، كان لوالدك وستيفان فضل كبير في هذا، فعند شعورك بالألم طوال الوقت وتفقدين الأمل في الحياة ستتمكن روح الهايدرا التحكم بجسدك، وهذا السبب وراء موت والدك وكان من المفترض أن يموت ستيفان أيضًا لولا تدخل ذلك الرجل الذي انتحل شخصية والدك وقام بتهريبه إلى مملكة توتيل، الحب هو ما يتسبب في إفشال مخططات الشر.
استغرقت بعض الوقت لترتب أفكارها، ثم تحدثت: أظن أن روح الهايدرا سيطرت على جسدي عدد من المرات، كدت أموت في إحداها. أين هي هذه المملكة؟
- أعلم، أظن أن وجود ويليام يستفزها لسبب مجهول، أما بخصوص المملكة فهي في القارة السمراء، وقد قامت ملكة التايتينيا بإنشائها وأحاطتها بتعاويذ للحماية وتخفيها عن أعيُن الآخرين.
- كيف يمكن لروحَي الهايدرا والتايتينيا أن تجتمعا؟
سألت عاقدة حاجبيها باستغراب، فأجابها بهدوء: التفسير الوحيد المقنع هو أن الروحَين قد دُمجتا معًا، وأصبحتا روحًا واحدة.
عادت فاستلقت حيث كانت قبل قليل، ثم همست بعد دقائق من الصمت: لماذا تعتزلون العالم؟ تتقوقعون حول أنفسكم حتى نسيتم أنكم جزء منه كما هو جزء منكم.
استغرق بعض الوقت ليسيغ إجابته، حدّق خلالها في الأفق البعيد، ثم قال: كنت أسأل نفسي السؤال ذاته لوقت طويل، حتى رأيتكِ تتسللين خِلسة لمقابلة ويليام، فأدركت أننا لم ننظر للحب كما ينبغي وظننا أنه سيدمرنا إن سمحنا له بالتغلغل فينا. طوال السنوات التي عشتها لم أكن أشعر بقيمة العائلة والأصدقاء، الجميع هنا لا يفعلون شيئًا إلا إذا كان ذو فائدة مادية، جعلنا من مملكتنا الأعظم على وجه الأرض، ونسينا أننا مهما فررنا من الحقيقة ستظل تعود لتصفعنا بشدة.
بعد فترة قصيرة، نهضت ديانا ورتبت فستانها، ثم قالت بابتسامة لطيفة: كل شيء سيكون على ما يرام، سنصلح العالم معًا.
بادلها الابتسامة وقال بهدوء يحوي حزنًا دفينًا: يا ليتكِ ابنة شقيقتي حقًا!
ضربت ذراعه وغضبٌ طفولي يرتسم على ملامحها فقالت بمزاح: أستتبرأ مني بسبب حديث والدك الأخرق؟
قهقه فأحاط كتفيها بذراعه فقال أثناء سيرهما نحو بوابة مصنوعة من الكريستال: كلا، لن أفعل.
فُتحت البوابة قبل وصولهما، ولكن لم يظهر شيء على الطرف الآخر، وكأن هناك ستارة ذات ألوان كثيرة تشبه التموّجات التي على سطح الماء، عبرا البوابة فنقلتهما إلى مدخل النفق المؤدي إلى مملكة السحرة.
نظرت ديانا إلى ريلاين فسألت: هل سترحل؟
وضع كفّيه داخل جيوب ردائه الرمادي، ثم أجابها: لا، هناك الكثير من الأشياء التي يجب أن تعرفونها، كما أن مملكتي يمكنها تدبر أمرها هذه الفترة.
أنهى حديث بابتسامة بسيطة فبادلته إيّاها، ثم سارت إلى داخل النفق متوجهة إلى المملكة، وعند خروجها منه رأت ويليام يحمل ماثيو ويضع الأخير كفّيه على عينَي والده، وتعلو ضحكاته عندما يرفعهما فتقابله ملامح والده المصدومة ويشاركه الضحك بعدها.
رفرف قلبها داخل قفصها الصدري، وفاضت بحار عينيها فانحدرت على وديان خدّيها فأزهرت ابتسامتها ليفوح عبير السعادة في روحها.
فطن ويليام لوجودها فاتسعت ابتسامته، وعندما التفت ماثيو هتف بـ «أمي» ومد ذراعيه نحوها بلهفة فوضعه والده على الأرض وانطلق نحوها بجسده الضئيل وما زالت ذراعيه مفرودتين أمامها، وعندما رأت ديانا شوقه العظيم لها فُكّ التجمد عن جسدها وركضت نحوه، عند اقترابها منه سقطت على ركبتَيها لتكون بمثل طوله، فأحاطته بذراعيها وأحسّت كأن الكون قد توقف برهةً، لأول مرة منذ فترة طويلة أحسّت أنها بخير حقًا، كل الأحزان والهموم المكدسة على كاهلها قد سقطت، وعاد كل شيء إلى نصابه الصحيح...
دفن وجهه في عنقها، وتشبث بملابسها بكل قوته، وقرّبته هي إليها أكثر لو كان هذا ممكنًا حتى شعرت بأنها ستحطم أضلعه، ثم همست بصوت متحجرش إثر البكاء: افتقدتك كثيرًا، وكأن روحي قد فارقتني وها قد عادت إلي أخيرًا.
أبعد رأسه عنها ووضع كفّيه على وجنتيها المبللتين، ثم قال بابتسامة ونبرته الطفولية زادت من ظرافته: أحبك كثيرًا.
~٠~*~٠~
قضت ديانا اليوم بطوله مع طفلها، تلاعبه وتعرّفه على الجميع، وشاركهما ويليام الكثير من الوقت حتى جاء موعد نوم الصغير فطلبت السيدة منيرفا أن يبيت بقربها هذه الليلة، فوافقت ديانا على مضض عندنا وعدها ويليام أنها ستجده بقربها فور استيقاظها.
بعد خلود ماثيو إلى النوم بعد عناء طويل توجه ويليام إلى مكتبه برفقة آيزاك لإنهاء بعضٍ من الأعمال المتراكمة، أما ديانا ففضلت أن تأخذ حمامًا ساخنًا، وتحضى ببعض الراحة.
نظرت إلى نفسها في المرآة أثناء تجفيفها لشعرها بالمنشفة وقد أحاطت جسدها بأخرى أكبر، ثم توجهت إلى الخزانة لتبحث عن أي شيء لترتديه، عندما فتحتها جذب إنتباهها صندوق خشبي ففتحته ووجدت ملابسها التي كانت تمتلكها قبل خمس سنوات، تذكرت سعادتها عندما أهداها ويليام إياها، ونوبة الضحك التي مرّت بها عندما أخبرها عن رد فعل الخياطة الملكية عندما طلب منها خياطة هذه الملابس النسائية، وقد اضطر لمسح جزء من ذاكرتها حتى لا تفضح سره.
ابتسمت لتلك الذكريات وحملت فستانًا بنفسجيًا من الحرير، ذو حمّالات عريضة من الدانتيل، بلغ طوله الأرض بفتحة على الجانب الأيسر تصل إلى ركبتها. كان هذا الفستان الأقرب إلى قلبها؛ فقررت ارتدائه ومن حُسن حظها أن مقاسه مناسب تمامًا.
بعد إرتدائها للفستان جلست على مقعد أمام طاولة الزينة، ثم بحثت في الأدراج على مقص حتى وجدته، قامت بتضفير شعرها ثم أمسكت بالمقص وترددت كثيرًا قبل أن ترفعه نحو ضفيرتها وأطلقت نفسًا مرتجفًا، لطالما انتظرت هذه اللحظة؛ فلم تحب طول شعرها المتعِب، وفضلته قصيرًا، وها هي الفرصة سانحة أمامها لتقصّه. أغمضت عينيها بقوة وفعلتها دون لحظة تفكير إضافية.
عدّلت خصلاتها لتبدو في نفس الطول، ثم جمعت شعرها المتساقط على الأرض، ووضعته على طاولة الزينة في اللحظة التي فُتح فيها الباب ليدلف ويليام بابتسامة عريضة، وعندما وقعت عينيه على شعرها بدأت ابتسامته في الذبول حتى اختفت، وحلّ مكانها تعابير الصدمة والاستنكار.
نهضت من مكانها منتظرة نوبة غضبه التي قد تنفجر في أي لحظة ولكنها لم تأتِ، وراقبت تقدمه نحوها فسحب كفّها الأيمن المتكور على شكل قبضة بسبب توترها وقلقها من رد فعله.
قرّبها نحوه ورفع يده الحرة لتلامس خصلاتها التي تكاد تلامس كتفَيها، ثم سأل عاقدًا حاجبيه: لماذا فعلتِ هذا؟
بللت شفتيها وهدّأت من روعها ثم تلعثمت قائلة: لطالما أردت فعل هذا، طوله مزعج ومتعب كثيرًا، وأحتاج وقتًا طويلًا لغسله وتسريحه.
نقل كفّه من شعرها إلى خصرها ليقربها إليها أكثر، ورسم ابتسامة لعوبة جعلت الخجل يغطي ملامحها، ثم همس: اشتقت إليكِ، يا صغيرتي.
~٠~*~٠~
وامتلأت الأجواء بصوت حفيف الأشجار وزقزقة العصافير، وهبّ نسيم الصباح ليداعب ستائر الحجرة، وتسللت أشعة الشمس عبر النافذة المفتوحة على مصراعية.
شعر ويليام بثقل على صدره وكفّين صغيرين يوضعان على خدّيه الملتحيين، فتظاهر بالنوم حتى يشعر طفله -الجالس عليه- بالملل ويرحل عنه.
قام ماثيو بمحاولة فتح عينَي ويليام ولكن الأخير لم يتزحزح عن موقفه، حتى وصل همس صغيره إلى مسمعه: لا يجب أن ترجع والدتي وتجدك عاري الصدر.
تنهد ويليام بيأس وتأكد أن هذا الطفل أكثر عِنادًا من والدته ففتح عينيه، وسأل بصوت ناعس: أين هي؟
أشار ماثيو نحو باب الحمام، ثم قال: لقد طلبت مني إيقاظك، وعندما سألتها لماذا لا تفعل هي ذلك قالت أنها لا يجب أن تراك عاري الصدر.
كتم ويليام ضحتك على تصرفات زوجته الخجولة، وقبل أن يفكر في رد مناسب فُتح باب الحمام وخرجت ديانا منه، فترك ماثيو مكانه وركض إليها فحملته لتتشاغل بترتيب خصلاته السوداء؛ حتى لا تلتقي عينَيها بعينَي ويليام، ثم قالت وهي في طريقها لخارج الحجرة: جهز نفس سريعًا، خالتي منيرفا تنتظرنا على طاولة الإفطار.
التقت ديانا بآيزاك فتوجّها معًا إلى قاعة الطعام التي امتلأت بضجيج المتواجدين فيها، الصحون والأكواب يحلّقون في الهواء، ويتم ترتيبهم على الطاولات الخمس، أربعة منهم كبيرات الحجم لقاطني القصر، والخامسة متوسطة للعائلة الملكية.
دلفا سويًا وديانا تراقب ماثيو وهو يركض ويقفز في المكان بسعادة هائلة، وابتسامة عريضة تزيّن وجهه. قابلوا ريلاين برفقة السيدة منيرفا بقرب الطاولة الملكية التي يتم تجهيزها من قِبل الخدم.
رحّبت السيدة منيرفا بحفيدها والسعادة تغمرها، ثم قالت بتأثر وهي تحمله بين ذراعيها: لم أحضى بصباح عظيم كهذا من قبل.
وضع آيزاك كفّيه على جانبَي خصره، ثم قال متظاهرًا بالغيرة: لا تنسي أنني أصغر أبنائكِ ويجب أن تدللينني.
انظم إليهم والد آيزاك -السيد أندرو- فقال ضاحكًا: ذُق ما أذقته لأخوَيك منذ ولادتك.
جاء لوكاس واضعًا يديه في جيوب معطفه، وتحدث قبل أن يتسنى لأخيه ذلك: لا تنكر، فأنت كتلة إزعاج متحركة، لا أعرف كيف تحملتك والدتي داخلها لتسعة أشهر كاملة.
انفجرت قنبلة ضحك في المكان، وتُرك آيزاك يتذمر طوال فترة انتظارهم القصيرة حتى جاء ويليام برفقة لوثر وكاسترو، فاسكته بسحبه من أذنه وأجلسه على مقعده محذرًا إياه من الاستمرار في الثرثرة.
جلست ديانا بجانب ويليام وعلى يسارها ماثيو ويليه لوثر وكاسترو فريلاين، وعلى رأس الطاولة من الطرف الآخر جلست السيدة منيرفا وبجانبها زوجها ثم لوكاس وبعده آيزاك.
نظرت ديانا إلى المقعد الفارغ بين آيزاك ولوكاس فسألت بقلق: أين كارمن؟
ابتسم لوكاس نحوها، ثم أجابها: ذهبت لزيارة عائلتها، فقد أصرّت والدتها أن تنال قسطًا من الراحة قبل أن ينظموا إلينا بعد يومين؛ للتّخطيط من أجل الحرب المقبلة علينا.
نقل ويليام بصره من زوجته إلى لوكاس، وسمع الأخير السؤال داخل أفكار شقيقه، فأجابه بضحكة قصيرة: نحن بخير، لو كان الوقت مناسبًا لأقمنا حفل الزفاف خلال أسبوع.
رُسمت السعادة على وجوه الجالسين، وبارك له الجميع في حين بدأت القاعة تمتلئ بقاطني القصر، بعد أن فرغ الخدم من تجهيز الطاولات، وملؤهن بالكثير من الطعام.
لم تتحدث ديانا أبدًا، واكتفت بمساعدة طفلها على تناول طعامه، وقد لاحظ ويليام تصرفاتها المتوترة فأمسك بكفّها، وسأل هامسًا: هل أنت بخير؟
ابتسمت وقالت بهدوء: أجل، فقط أفكر في أمر ما، لا تشغل بالك.
شدّ على يدها فقال: كل ما يشغلكِ يشغلني، لا تفكّري أبدًا أنكِ عبء علي.
ظهر التأثر على ملامحها، فنظرت للجالسين حولها ثم أعادت بصرها إليه وهمست بحزن: أحتاج ستيفان لتكتمل ساعدتي، أخبرني ريلاين أنه في مملكة توتيل وأرغب في الذهاب إليه، ولكنني خائفة ألّا توافق خوفًا علي.
تنهد واعتدل في جلسته دون أن يبعد يده وعينيه عنها، فكّر قليلًا ثم ابتسم قائلًا بلطف: لن يحدث إلا ما يرضيكِ، ولكن لن تذهبي وحدكِ.
حشر آيزاك رأسه بينهما وقال بحماس: سأكون أول المتطوعين، يا إلهي، لطالما حلمت بالذهاب إلى تلك المملكة.
أمسك ويليام بأُذن أخيه فأعاده لمقعده قائلًا بحاجبين معقودين: اخرس لبعض الوقت وإلا قطعت لسانك، وأَجعله عِقدًا لأرتديه حول عنقي.
لفت حوارهما نظر الجميع عندما تظاهر آيزاك بالخوف محرّكًا يديه في الهواء، ثم تحدث بإصرار: اقطع رأسي، وسأذهب لمملكة توتيل رغم ذلك.
ضحك الجميع فحكى لهم ويليام عن رغبة ديانا بالذهاب إلى هناك، فقرروا أن من سيذهب معها هم: لوثر وكاسترو وآيزاك والسيدة منيرفا، بينما سيبقى ويليام برفقة زوج والدته ولوكاس ليهتمّوا بالتنظيم قبل حضور قبائل الذئاب اللذين سيجلبهم سورد، ومصاصي الدماء القادمين بعد بضع ساعات.
🌟 🌟 🌟
ان شاء الله البارت عجبكم؟
رأيكم بالتفصيل بلييييز 😢
حمسوني عشان تكون النهاية عند حسن ظنكم واخلصها خلال شهر عشان الحق اشترك في مسابقة أسوة 😣
في آمان الله ❤❤❤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top