٣

في هدوءِ الليلِ الكئيب ، وصفير هواءه الشديد ، والصمت القاسي المُثقل بتنهيداتِ ألمٍ وحسرة ، وعبرةٍ انزلقت لتتخذَ مسارَها على طولِ وجهٍ ذو ملامحٍ مُتغضنة ، وبشرةٍ شاحبة ، وخطوطٍ مُجعدةٍ مُرعبة ، وجسدٍ قد قصمت ظهره الهموم ، وأثقلَ رأسه التفكير ، وتمكنَ العجزُ من قلبهِ ، فأصبحَ لا يواجه ، لا يُجابه ، ولا يُقاوم ..

بل في المُنتصف ..

المُنتصف المُميت ، المُكبِل ، مُنتصفُ اللا شيء ، مُنتصف الانتظار .. الانتظارُ الطويل الذي لا يمر ..

استقامَ مُترنحًا وليسَ بترنحِ ثمالةٍ وإنما تِيهٌ طبعَ اليأسُ على نفسه ، وحولهُ من الفاعل بحياتهِ إلى المفعول بهِ ، مشاهدٌ صامتٌ ، يُشاهد نفسَه الغارقة ولا يستطيع إنقاذها ..

ألقى بتبغهِ المُنتهى الرخيص ليدعسهُ بحذائهِ المُهتر قبلَ أن يتحرك قاصدًا بيتهِ وأفكارٌ عدة تنهشُ عقله وقلبه بلا رحمة ، وقد زِيدَ الطينُ بلةً عندما انهمرت قطراتُ مطرٍ شديدةٍ دونَ سابقِ إنذارٍ ، وكأن السماءَ تُشاطرهُ أحزانه ، تُهدهد روحه وتمسح على قلبهِ بأن " ابكِ ، افعلها ، لا أحد سيلاحظ ، ها أنا أُساعدك ، افعلها وابكِ ."

واستجاب ، وبكى ، وبكت جميع حواسه وجوارحه حتى اهتزَ جسده وسالَ دمعهِ وعلت شهقاته وانطلقت أنَّاته تحكي مُعاناته ..

لم يهتم بنظراتِ من حوله ، بل بالأساسِ لم يشعر ، لن يُعطي لنفسهِ فُرصة التوقف ، بداخلهِ هُمومٍ أثقلت كاهله كجبلٍ يحملهُ على ظهرهِ ، يُعيقُ روحهِ قبلَ حركتهِ ، وياليتَ البُكاءَ حلًا يُشفيه ..

تراءى لهُ منزلهُ على بعدٍ خُطواتٍ عدة فتوقفَ قليلًا يُطالعهُ بغموضٍ كسى عينيهِ فأصبحَ يُقدم قدمًا ويؤخرُ الأخرى حتى وصل ، فلا مجالَ للهروبِ مهما ابتعد ..

استندَ على السورِ المُحيط بالدرجِ المُهتر والذي تأنُّ درجاتهِ كلما لامسها ، تُصدر صريرًا يقشعرُ لهُ بدنه كلما صدح حتى وصلَ ودلفَ إلى شقتهِ المتواضعة ، وسُرعان ما خلعَ مِعطفهِ وألقاهُ جانبًا ليرتمى على الأريكةِ خلفه مُحاولًا تصفية ذهنه والذي يُعارضهُ دائمًا ويأبى الصمت ..

يعودُ بهِ إلى زمنٍ ماضٍ عندما كانت خيوطُ حياتهِ جميعها بينَ أصابعهِ ، يُحركها كيفما يشاء ، يتلاعب بها يَمنةً ويَسرةً وهو بقمةِ الاستمتاع ، بضغطةِ زرٍ يبدأُ حياةً ويُنهي أخرى ، وبغرورٍ مُفرط يُقرب منه من يفضل ويُقصي الآخرين عنهُ غيرُ آبهٍ لهم .. حتى حدث ما لم يكن في حُسبانه ، وأصابتهُ طامةٌ كُبرى قضت على كلِ ما يملك ، أسقطتهُ من بينَ نجومِ المُجتمع لشخصٍ باهتٍ لا يتعرفُ عليهِ أحد ، تخلى عنهُ الجميع وابتعدوا وتركوه كريشةٍ تتقاذفها الرياح وما لحياتهِ من مجير ..

انتفاضةٌ قويةٌ أعقبتها شهقةٌ خفيفةٌ دلَّتا على عودته لواقعهِ ليناظرها بعينينِ حمراوتينِ ، زوجته ، عشيقته ، رفيقة دربهِ ، وأم طفله الأوحد " تميم " ..

من تركت وتنازلت وتغاضت عن الكثيرِ حتى تبقى بجانبهِ ، تعاظمَ الألمُ بصدرهِ حينما أبصرَ عبراتها المُحتجزة بينَ محجريِ عينيها ، وتعاظمت حسرته حينما انفلتَ عقالُ هذهِ العبرات وانزلقت تُغرق وجنتيها كرذاذِ مطرِ ليلٍ حزين ..

استقامَ يهرب ولم تكن هذهِ عادته من قبل حتى أوقفته بصوتها المُرتجف حزنًا والمُلتف بقهرٍ شديد ، نظراتها الثاقبة المُحملة بمزيجٍ من الألمِ والحسرة أصابتهُ في مقتل قبلَ سؤالها ..

" لحد امتى ، لحد امتى يا معاذ هاتفضل كدة ، لحد امتى هاتفضل في الدوامة دي وسايبنا لوحدنا ، لحد امتى هاتفضل تبكي على اللي راح ، اللي راح مش هايرجع يا معاذ ، مش هايرجع ، ولو في أمل يرجع عمره ما هايكون بطريقتك دي وبسلبيتك دي ، فوق بقى يا معاذ فوق . "

" بس بقى كفاية ، كفاية ، " زعقَ بقوةٍ واستدارَ يُواجهها بشقِ الأنفس وحنو عينيهِ يُخالف ملامحَ وجهه وما ينطق لسانه " كل شوية تقولي نفس الكلام ، كل شوية قوم وفوق ، عايزاني أعمل إيه ها ، ردي عليا عايزاني أعمل إيه أسرق ، أنصب ، ولا يمكن أقتل عشان أجيب فلوس ، يا شيخة يلعن أبو الفلوس اللي عملت فيا كدة . "

" مش فيك لوحدك يا معاذ ، فينا ، فينا كلنا ، " بصوتٍ مبحوح واجهت وبعبراتٍ ازدادت واستمرت استأنفت " أنا وانت وتميم ، وكل ده وأنا صابرة وساكتة وأقول بكرة ، بس بكرة ده عمره ما بيجي ، مش بيجي أبدًا . "

" بتعايريني ؟ " تساؤل صادم صدرَ منهُ كلفها انفراجَ محجري عينيها بصدمةٍ ليُضيفَ جارحًا غير واعٍ لما يتفوه به " أنا مش بتعاير يا مدام فريدة ، تقدري ترجعي لمجتمع النخبة بتاعك تاني وتسبيني أنا وابني لوحدنا ، مش هانغلب يا مدام  ، أنا وابني مش هانغلب  . "

" ابنك بيموت ، " صرخةٌ مزقت الأكبادِ وحقيقةٌ تجلت بعد أن قشعت هى ظلامًا غطاها " تميم بيموت ، المرض بياكل في جسمه ومافيش بإيدي حاجة ، مافيش يا معاذ مافيش . "

سقطت أرضًا في مشهدٍ أثارَ اللوعةِ والحسرة لتنهارَ في بكاءٍ تتفتت لهُ الجبال ، ويرقُّ لهُ أعتى الرجال ، استسلمت لحالتها واستحالَ لونُ شفتيها لازرقاقٍ مُخيف ، ارتعشَ بدنها وباتت تُردد كلماتٍ تراشقت بقلبهِ كرصاصاتٍ تعرفُ طريقها ، لم يستطع التماسك ولم يُسعفهُ التحمل بل وجدَ يده تتحولُ لقبضةٍ يضربُ بها صدره ضرباتً عدةً قبل أن يجهش ببكاء يائس وتنزلقُ قدميهِ ليسقطَ بجانبها مُعانقًا إياها ومُستمدًا من ضعفِها قوة ، ومن عبراتها دفعة ، ومن دفءِ ذراعيها اللتان التفتا حوله تُهدهده كطفلٍ صغير حنوٌ يحتاجه ، ومن ربتةٍ صغيرةٍ شعرَ بها على كتفهِ ، وقبلةٍ بريئةٍ وُضعت على وجنته ، وابتسامةٍ هى جنتهِ واجهه صغيرهِ تميم بعذوبةِ طفولية صوتهِ وغبطةٍ شكَّلت ملامحَ وجهه هاتفًا " بابي ، حلمت بحد حاطط إيده على دماغي وبيقولي انتَ هاتخف يا تميم ، سمعته يا بابي ، والله سمعته  . "

برقت عيناهما ، وفاضت دُموعهما ، والتفت ذراعيها حولَ طفلها تُخبئه بين أحضانها بينما خبأ اثنتيهم تحت وطأة ذراعيهِ ولهجَ لسانهِ بدعاءٍ لم يسمعهُ سوى الله ..

---------------------------------

السلام عليكم ، نتمنى المشهد يكون عجبكم.

كومنت برأيكم 👏🏻

سلام 💙

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top