●●
●~●~●~●~●~●~●~●~●~●~●~●
ذلك الظاهر الذي تراه بعينيْكَ ليس شيئاً ..
ولا يعني شيئاً ، إلّا إن استطعت قراءة ما خلف الحاجز ..
ولكنّي لا أوافق جوزيف في هذه الجملة ..
فأحياناً ، يُطابِقُ الظاهر الباطن السحيق مطابقةَ البصمة لصاحبها ، ولكنّ الفارق هنا كيف تنظرُ أنت ..
هل أنت أعمى؟
-يعقدُ يديه خلف ظهره ..
ويطربُ آذانهم بدقات كعبه التي ألِفوها ، تاركاً موقعه خلفَ كرسيِّ الجدِّ ..
ونحو آدم اتجه .
هنا ، وفي هذه اللحظة تماماً تتوقف الأفواه عن المضغ ، وتهجر الأيادي الأطباق ..
ترتفع الأعين بفضولٍ مرقّع بالخوف ، وتُبترُ الأفكار ؛؛ فما عاد أحدُ الجالسين يسمع ذلك الصوت الذي يحدثه في عقله ..
كلُّ ما يسمعونه وما يرونه ، هو ذلك الإقتراب البطيء نحو آدم ، التمثالِ الرابض بلا حراك -
..... والعمى المعنويْ ، هو ذلك الذي يفقِدكَ الغرض من حاسةِ البصر ، فلا يؤثرُ فيكَ ما تراه ، بل إنّ أعصابكَ البصريةَ مع الوقتِ تموت وتتعفّن حتّى تصيرَ ببساطة ..
غبيّاً .
-يتوّقف خلف آدم ، وينتبهُ الكلُّ لتلكَ النظرة التي تعتليه ..
نظرٌةٌ أقلُّ ما يُقالُ عنها أنها ..
لاسعة .
فقد أفرج قليلاً عن بياض عينيه ، وكأنه يُفسحُ لهم مشاهدة مقلتيه تنزلان بهدوءٍ وبطء . . .
انزوى ما بين حاجبيه بحدّة فاستشعروا سخطه .. لكنهم ببساطة ، لم يفهموا -
وهذا هو العمى ..
أمّا عن كيف يحدث ، فحقيقته صراعٌ بين القلب والعقل ، أيْ الذات الهوائية والمنطق ..
وعندما يُستبعدُ المنطقُ تحكمُ الذاتُ اللامنطقية فيصبح صراخُ الواقعِ أبكم ..
ببساطة ، لن يعرفوا أنها الشمس حتّى لو رأوْ شروقها ..
ماعدا ، ذاك المُبصر الوحيد -ينظرُ إلى تامر يقترب- أو لنقل ، الأكثر عمى .
يستحيلُ أنْ يقولَ عاقلٌ أنَّ أحدَ أفرادِ عائلة أوس هو سفّاحها ..
لكنّ الجنون يقودكَ إلى قمّة العقلانية ..
فبينما السفّاح بيننا يمثّل الإحتماءَ من نفسه ، هناك من يعشقُ المسرحيات .
قد أفرطتُّ في الإعجاب بتمثيله حتّى تركت مقعدي كمشاهدٍ ، ووقفت معه على المنصّة أجتذب معه أطراف الحدث وننسجُ معاً في أذهانهم قصةً هيَ سترُ الحقيقةِ وشتاتُ الحق ..
وهناكَ مشاهدٌ ثالث سيصعدُ معيَ الآن ..
-ابتسم- تامر يصعد ..
ويقترب لكنني أراه يصعد ..
وآدم يحاول كما أظنُّ ، كتابةَ نصٍّ إرتجاليٍّ في عقله ..
ومن الأخطاءِ الخطيرةِ الشائعة ، هي تركُ منافِسِكَ يفكّر .
"آدم ، عزيزي .." ليبدأ الفصل الخامس من المسرحية
-يستندُ على كرسيِّ آدم وينحني- "لا تكنْ عنيداً ، ودعني أطمئنُّ على حالِ ذراعك ..
فكما تعلم ، أنت يدي اليمنى .. ومهما اختلفنا فصحّتكَ الجسديةُ أغلى عندي مماااا .... تظن ."
الصدق مهم ليصل تمثيلك لقلوبِ المشاهدين ههه ..
ها هو تامر كطبيبٍ أمين ، يعتلي المنصّة قائلاً "فلتسمح لي يا خال"
والآن إن اعترض آدم سيشكُّ بِه الجميع ..
وإن قال أنه بخير وحرّكها ليثبت ذلك .. فسيشّكون بِه أكثر لأنهم شهدوا الحادث ..
مجدداً ، إنها ذات المعادلة التي أضعه فيها كلّ مرة ..
سيضطر للموافقة .
و "تفضّل" قالها بتلك البساطة ، مُفسِحاً فُسحةً بينه وبين السفرة ليكشف عن ذراعه الملقاة في حجره ..
حينها ....
●●●●●●●●●●●●●●●
#Tamer
أمسكتُ أعلى ذراعه وكانت أشبه بانقضاضة فضول ..
كانت عينا إياد تحُثّانني على المُضيِّ قدماً لأفعل ما يوسوس لي به عقلي المجنون !!!
وها أنا ، أمرر أصابعي على طول ذراعه ..
ولو أنّ طبيبَ عظامٍ شاهدني لسخٍرَ منّي ..
فأنا لا أفحصها بل ، أتحسسها بشغف إذ تبحث أصابعي عن إجابات لأسئلةٍ غير موجودة !!
بدأتُ من الكتف ..
وقبلَ أن يلحظَ والدي زيفَ فحصي ، مددت ذراعه وجعلت أحرّك .. تماماً كما يفعلُ أطبّاء العظامِ ، أطويها عند المِفصَل ..
"هل تؤلمُكَ هكذا؟" قلتها بِوُد ..
لكنه قتلني بنظرته ولم يرد .
شعرت ببعض الإرتباكِ لكنّ إياد أومأ لي برأسه لأُتابع ..
يجب أن أركز ..
لو أنها مكسورة في الموضعينِ لكانَ تألم ..
لكن ، أدير ساعده خمساً وأربعينَ درجةً من عظمة الرسغ ..
ثمّ مرة أخرى ..
أأ ..
إنه لا يتألم !!
المفروض أن يتألم بل يتلوّى ألماً !!!
لكنه جمُدَ كالحجر وكأنه مصرٌّ على موقفه ..
أنزلت رأسي قليلاً لألقي نظرةً على وجهه ..
"هل يمكنك أن تفتح لي فمك؟"
بالتأكيد وكما توقّعت ، ارتاب الجميع من أمري فما دخلُ الذّراعِ بالفمْ؟!
تجاهلتني مقلتاه لكنه استجاب وفتحه ، هنا ركزت على قبضته الأخرى السليمة ، وقمت بليِّ معصمه بقوة دورة شبه تامةٍ بتهوّر ..
لقد أنساني الفضول عينيْ أبي المسلّطتانِ عليْ .
وهذه الحركة قد تؤلِمُ أيّ إنسان ، ومجدداً أيّ إنسان لكن ..
نظرت إلى فكّه ، لم يغلقه !!
وقبضته الأخرى لم يشدّ عليها !!
"لديك مشكلة"
استدار رأسه نحوي في ثانية وتحوّلت عيناه لدائرتين مرعبتين في نظرةِ تحذير بفحيحه ..
"لديّ الكثيرُ من المشاكل"
قاطعتنا إيملي ورأسها مثقلٌ على المائدة ، تلفِظُ كلماتها بإرهاقٍ مفجع "آدم!!! يجب أن تضع جبيرة ، لقد نصحتك"
"لا أظن .." هكذا قلتُ أنا "إن مشكلته ليست في الجهازِ الهيكليْ أعني .."
صمت الكلُّ في عجب ، وعدت في شرودي ..
لطالما وصفوني بالطبيب المجنون أو حتّى الثمل .. فكثيراً ما تقفزُ أفكاري خارجَ صندوقِ عقلي لكن قد أصيب !!
لقد دفعني خلوّه من الإحساس للتساؤل والتلمّس أكثر ..
كُنتُ تحت عينيْ إياد ، وعلى وشكِ سماعِ أوامره في عقلي .. بل إنّ نظراته تصرخُ في أذني أن أمضيَ لما أفعل، وبكلّ امانةٍ وبدون أن يعلموا ..
يجب أن أعلم ما هو السر .
نظرت إلى الجلوسِ وهلة قبل أن اتهوّر و ..
"هلّا أحضرَ أحدكم إبرة؟"
قاطعني إياد "لا لا لا ، فلنأخذْهُ مباشرةً للفحص"
نظرتُ إليه للحظات ..
أنا لا أحبّ أن يقاطعَ أحدهم عملي .
تجاهلته "هل لي بإبرة يا فريال؟"
مجدداً ينظرُ إياد نحوي بسخط ، بينما يذيبُ شفتيْ آدم ببعضهما صمتٌ عنيد ويتملّكهُ ثباتٌ ملتهب !!
تخرج فريال الصغيرة من غرفة الطعام بسرعة ، وتلحقها عيناي فتلتقي بوالدي ..
والدي الذي اتكأ على تشابك أصابع يديه ، تجتاحه رزانة الخبراء وتفصح نظراته عن فهمه لأمرٍ ما ..
ربما أمرٍ لم أفهمه أنا !!
ولو كانت علاقتنا جيدة لكنت استشرته كعادتي ال..
"المعذرة يا سادة" قطع شرودي صوت إياد بينما أنا ممسكٌ برسغِ آدم ...
"لقد أوقفنا عشائكم ، سنُكمِلُ الفحص في الخارج أعذرونا"
هكذا صرّح إياد وأصبت أنا بشيءٍ من رجفة الإرتباك ، لحظةَ شعوري ب ..
اتسعت عدستا عيني وأنا ، أشعر بشيءٍ ما قد تحرّك في عضلات إيليوت !!!
أخفضت بصري نحوه بشفتيْنِ مستقيمتين معبّئتانِ برماديِّ الصدمة ، وكان من السهلِ عليَّ توقُّع ما يدورُ في رأسِه ..
وأعتقد ، أنَّ هذه أغبى جملة سمعتها من فم إياد ..
وها هو يكررها "...أعتقد أنّ حالة إيليوت تحتاجُ إلى فحصٍ سريع ، لن يأخذ سوى دقائق ثم سنع--"
دخلت ابنة عمتي ، فريال الصغيرة فقطعت على شقيقها حديثه ..
هرولت نحوي بحماس وعينان خجلتان ، تعطيني الإبرة اللامعة ، تلك النحاسية الطويلة المدببة ..
وللحظةٍ نسيتُ لمَ طلبتها !! فقد بلغ بي التوتر أن جعل العرق يتصبب على جبيني وأنا ألتقط تلك الإبرة ، وعيون الجميعِ صوِّبت على يدي وكيف احتوتها أصابعي ..
أنزلتها بهدوءٍ بجانب جيبي حيث اختفت عن أنظار الجالسين تحتَ مستوى طاولة السفرة ، ولكن ليس نظريْهما ، إياد وإيليوت ..
فقد رمقا الإبرة منخفضةً .. هما على وشكِ معرفةِ ما أنويه أنا ..
لدى كلَيْهما ذاتُ سرعةِ الإستجابة وربما، ذاتُ سرعةِ التوقّع ..
"رجاءً تامر ، هلّا نُجري هذا هناك؟" إياد مشيراً برأسه إلى مجلسٍ صغير في آخر غرفة الطعام ..
أومأت له (حسناً) ..
ثم طلبت من آدم الوقوف ولم أترك رسغة ..
لم أكن أريد أن أترك رسغة بأيِّ طريقة ، فقد دفعني فضولي للتشبث به حتّى لحظةَ قيامه ..
●●●●●●●●●●●●
على أريكةٍ تابعةٍ لمجلسٍ صغير ، أجلستُ إيليوت برفق بينما ينظر إياد للمائدة إذ إلينا ينظرون ، يرفعُ نبرة صوته "رجاءً تابعوا الأكل"
أنزلوا رؤوسهم ، وتظاهروا بأن لا شيءَ يحدث ..
يتابعون تناولَ الطعام مع أنني شبه واثقٍ أنّ أحدهم لا يستسيغه ...
وها هو أبي يحدّق فينا لبضعِ ثوانٍ ، ثمّ ينزِلُ رأسه فور تلاقي عينينا .
تحسست الإبرة بأصابعي ..
استدرتُ ببطء ، وأعطيت الجالسين صفحة ظهري ..
"والآن ، أرجو أن ..."
أن أعرف ما بداخلك يا آدم ..
أن أخترقَ عبابكَ الأسود وأغوصَ في جحوركَ الضيقة المعتمة لأراك، على حقيقتك ..
جلداً على عظمٍ، وعضلات .. ومفاصل!!
مددت ذراعه التي يُفتَرَضُ أنها مكسورة ، وبيميني وضعت رأس الإبرة المدبب على جلده ، إنها حادة ..
نظرت إلى عينيه "أتشعر بها في هذا الموضع؟"
لم يجب وأشاح بوجهه جانباً ..
فخدشته !!
"أتشعرُ بها الآن؟!!!!"
مجدداً ، الصمت !!
ربما لأن الخدشة بسيطة ، ولكن ..
تصلّبت شرايين ساعدي في سخط ، مقترباً منه أهمس ..
"إن لم تتعاون معي ، سأتخذ معك إجراءً آخر" اشدُّ على رسغِه أكثر "فلتحفظ ماء وجهك أمام العائلة على الأقل"
رفع بصره نحوي بتعجُّب "ما الذي تريدني أن أفعله؟!!"
"لا تتظاهر"
قلتها وشرعت في وخز جلده في عدة مناطق على طولِ ذراعه ..
أوخزه ، ثم أنظرُ إلى وجهه وعينيه ولا أجد للألم علامة أو غمزة !!
وخزة ثم وخزة فوخزة ..
في مناطقَ مختلفة أعرفها أنا كنقاطٍ لتنشيطِ العصب لكن .. مجدداً ، آدم يبدو كتمثالٍ مسترخٍ ، يداي تتحسسان رسغه فأجد أن شرايينه في غاية الإرتخاء وكأنه مستلقٍ في حمامٍ دافئ !!!
المستشعرات الحسية للجلد بالتأكيد مختلفة عن تلك التي في العظام ، فحتى لو انكسرت ذراعه --
مأ ..
ماذا !!!
خطِفُ إياد الإبرة من يدي (وطعن) بها مرفق آدم السّليم !!!
ماذا !!!!
انفرجت جفونه بينما ينظر للإبرة قد اخترقت رسغه وأجزمُ أنها وصلت حتى منتصف عظمتيه المفصليّتين !!
وبحق بدأ جانب وجهه وكأنه يرتعش !!
يتشنّج !!
الألم !!!
لا إنه ليس الألم ..
فكّه لا يزال مفتوحاً وقبضتاه مرتخيتان !!
إنها الإستجابة .
يقف إياد ثابتاً بطوله المهيب أمام آدم الجالس على الأريكة ، ودمٌ أحمرُ مائلٌ للزهرةِ يظهر حول مدخلِ الإبرة ..
اقتربت لكي أغطّي عليه أكثر ، ولكن اللعنة ماذا ينتظرُ إياد؟!!
أينتظر أن ...
تحوّلت مقلتاي مع حركة ذراع آدم (المكسورة) وكيف في غمضةِ عين جعل الإبرة بين اصبعيه وانتزعها من ذراعه السليمة واطلقها لتطير كرصاصة نحو إياد !!
كانت لحظةً فارقة ..
لم تصبه لكنها كادت ، ومرّت به مخترقةً شيئاً هناك أثار بعض الضجيج !!
ربما التفت البعض لهذا بينما أنا في ذهولٍ أستعيد شريطَ تحريكه لذراعه التي يفترض أنني كسرتها منذ حواليْ يومَيْن !!
تلك المكسورة حرّكت أصابعها بمهارةٍ تسحر العين ، انتزعت الإبرة وقلبت نصلها في أقلّ من الثانية لتندفعَ في رمية قوّية كطلقةِ مسدس !!
الآن أشعر بالرعب ..
الآن .. سأتركُ لشراييني أن تتصلّب ولركبتايا أن تتخبّطا ببعضهما ..
كانت مجرّد نظرية جنونية كونُ آدم آلة قتل تسفح الدم .. لكنني الآن صرت أشكُّ في صحّة عقلي !
هل ما أراه حقيقيْ !!!!
●●●●●●●●●●●
لم يكد تامر يصدّق عينيه حتّى اللحظة ، بينما إياد وآدم يحاولان تكرار الهجوم مجدداً ولكن باستعمالِ النظراتِ فقط .
ابتعد إياد عدة خطوات صغيرة عن الأريكة "آدم" بصوتٍ جهور "كفّ عن العناد وتعال معنا للمشفى"
"حسناً" ويقف ببطءٍ يجعل الصليبَ المتدلّي يتأرجح مع حركته ..
^إنّ جميعَ الأديانِ المسالمة يمكنها أن تكونَ وحشيةً أكثرَ من أيّ شيطانٍ كافر ..
فكونكَ مؤمناً بما تفعله إيماناً عميقاً يتأصل فيك ك (عقيدة) يحول جسدك لأداة وروحك لفداء تهوى التحرر .. ولن ترحم .. وسبذلُ جسدك في السبيلِ الأسمى .. -يحملقُ في آدم- كهذا الشيء النحيلِ الضعيف، الذي امتنعَ عن طعامٍ والشهوة وأصبحَ هوسه هو ....
الرب؟
لا أعلم !!^
يتراجع تامر للخلف مفسحاً للسفّاح ..
يختلجه خوفٌ شديد وريبةٌ بالغة ، لا يستطيع عقله تجميع ما يريده كليْهما أو يستطيع ، لكنه ينكر وبكل بساطة ينكر وينكر حالة الحرب !!
إن الأمر مُفجع عندما تدرِكُ أنّ إنذار الحرب قد انطلقَ فجأة وعليك الآن ، وفي هذه اللحظة نزع رداء الوقار وجعلِ روحِكَ فداءً لأرواح !!
يمشي آدم نحو السلّم قاصداً الدورَ الثاني بكلّ هدوء ..
تراقبه عيناهما إلى أن يختفي عن الأنظار ، فيقول إياد بهمسٍ مسموع "أظنّ أنّ علينا الإستعداد للخروج أيضاً"
ألقى تلك الجملة على مسامع تامر وذهب إلى السفرة حيث هم جالسون ..
لم يحرّك تامر ساكناً ، لقد افترسته تساؤلاته أم أنه خائفٌ من الموت ؟
^هل بلغ حقدُ آدم على العائلة هذا المبلغ؟!
هل أنا في حُلُم؟!!
هل هوسهُ قتلنا؟!!^
لم تنتب تامر رغبةٌ في الحراكِ لدقيقتينِ من الزمن، يستعد!!
ولماذا يستعد!!
لرحلةٍ قصيرة إلى المشفى مع سفّاح؟!!
إن فرصتهما في النجاة من آدم معدومة فلا إياد ولا هو يمتلكانِ تلك المهارة التي شهدها في كاميراتِ المراقبةِ وحقيقةً ... المهارة التي دمّرت رجالَ القواتِ الخاصة بسهولة !!
أهوَ بحق ذلك الشيطان الملتهب؟ الأسود؟ المليء بالحقد والكراهية؟!!
^ولمَ لا؟!
إنه آدم الذي هاجمني وأخي بنصلِ سكينٍ حاد من أجل أأ ..
من أجلِ حماية إياد !!!!^
ارتعشت أطرافه لحظة في حالةٍ من الرهبة وانبثقَ الخوفُ من عينيه متذبذبتي السواد ..
^ماذا لو كنتُ أنا الضحيّة؟!!^
يرددها عقله وهو يلتفت ببطء إلى ، هيئة إياد الواقفة خلفه .
●●●●●●●●●●●●●●●●
أحياناً يضعكَ القَدرُ أمام موجةٍ لا قبِلَ لكَ بها ..
لديكَ خيارُ الموتِ ... أو الموتِ واقفاً .
تامر ..
إنّ قدماه تمضيانِ نحوَ اللاشيء ، جسر مستقبله يتكوّنُ أثناء سيره حجرةً حجرة على بعدِ إنشٍ من قدميه دونَ عثرة ..
الخوفُ قد عبَّأه بينما يعبر الرواق بطوله ، لا يرى سوى صفحةَ ظهر إياد ..
وكيف كان يسيرُ بطمأنينةٍ كبيرة ، وكأنه ليس قلقاً على رأسه ان تُقتلعَ أو قلبِه أن يخترقه نصلُ سكين!!
كادت عينا تامر الزرقاوين تبزغان رعباً جعلَ الخدرَ ينسلُّ في أطرافه فبات لا يشعر سوى بغصّة شديدة الألم في صدره ..
^لما لم، يمت آدم في الإنفجار؟!!!
لما ذلك الولاء الغريب .. وكأنّ كلًّا منهما تابعٌ للآخر !!
إياد يحيطُ سرّاً ما بجدرانٍ وآدم، تارتةً يهاجمه وتارةً ينقادُ أم أنّ آدم وحده هو العابث هنا؟؟؟ ^
استفاق من سكرته على نبرة إياد التي تلت صرير أحد الأبواب ..
"اتبعني .."
رفع بصره بصعوبةٍ إلى ملامح إياد وكيف بدت كصخرةٍ على حافّةِ الشاطئ ، جامدة لا تبدي أيّ انطباع ..
ابتلع تامر ريقه، ووجد أن المتابعة في الإنقياد هوَ خيارُ لا بديلَ له .. ربما مؤقتاً ..
هل شعرتَ فجأة أنّما يجب عليكَ بيعُ روحك؟!
لم يكن تامر سوى طبيبٍ يحاول إبقاء الأرواحِ في أجسادها لأطولِ وقت ممكن ..
يقضي وقته متناسياً حقيقةَ الموت، والآن ..
"الموتُ ينادينا ونحن سنستجيب ."
تلك الجملةُ التي نطق بها إياد، سحبت جميع أنفاس تامر ولم يدرِ للحظةٍ هل سحبها أم أخرجها .. إنّ عينيه موجّهتانِ صوبَ جسد إياد يغلقُ خلفهما باب مكتبه ..
وها هو مكتبه ، ورأسُ الغزالِ الزجاجيْ ..
متى وصلت قدماه إلى هنا؟!!
هل يطفوا؟!
هل يمكنه أن ينطق بالإيجاب؟!
إنه فقط يحدّقُ في إياد يقترب من مكتبه ، القاتم الخشبيْ .. ويخرجُ من أحد أدراجه مفتاحاً غريبَ الشكل ..
لم تستطع عيناه احتواء شكلِ المفتاحِ الصغيرِ ذاك ، فقد أخذه إياد في عجلةٍ من أمره، متوجّهاً نحو خزانةٍ بالجدار بنيّةٍ قاتمةٍ كلون الإحتراق ذاتِ مقابض غريبةِ الشكل ..
وفي حركةٍ سريعة واحدة ، فتح بابيْ الخزانة لتظهر لكليهما عددٌ لا بأس به من المسدسات ..
^لقد اعتادَ على ذلك إذاً!! أم ماذا؟!
كونه جنديّاً أسبق ام كونه إياد؟!! ^
تُلقى إليه قاطعاً أفكاره أحد المسدسات الثقيلة .. إنه لا يبدو كما يزن، إلتقطه بكلتا يديه وألقى نظرة إليه ..
كيف كانت مقبضه مزركشاً وكأنه موتٌ جميل ، فواهتيه، حيث يخرج الألمُ المميت من الفواهة الاكبر وملمسُ زناده الذي يحثّكَ على الإطلاق ..
"لن تكونَ الأسلحةُ جديدة على شابٍّ خدمَ في الجيش البريطانيْ" قالها إياد ..
التفت نحوه تامر "أتعني أننا سنقتله؟!!"
استدار إياد في وهلةٍ استدارةً كاملة بنظراتٍ آمرة "لا تقتله، سنسبب مشاكلَ إن لم نثبت أنه هو أولاً .. قد يكونُ بريئاً أو مجبراً"
"ماذا تعني؟!"
"سنجري فحصاً شاملاً على جسده، الليلة .. وإن رفض .." يلمز برأسه "حينها سنؤذيه"
^نؤذيه كلمةٌ رحيمةٌ جدّاً، أم أنّ الريبةَ أخذت مجراها في دمي؟!!
لا أدري لمَ أشعرُ شعوراً دفيناً أنّ هذا العملَ الذي نحن على وشكِ فِعلِه، وهو أخذ آدم للمشفى ، ليس له أيُّ داعٍ ..
إن كان آدم قاتلاً بحق فسنعرّض أنفسنا للخطر ..
بينما يمكننا عرضه على الكشف بطريقةٍ آمنةٍ وقانونية ، صباحاً على ال--^
"إذا كنتَ خائفاً يا تامر" يقتربُ من بابِ الخروجِ من الجناح الأيسر مردفاً "أعني إن لم تكن مستعدّاً بعد فلا تت--"
توقّفَ إياد فجأة ..
افرجَ قبضته بأصابعه الخمسةِ متباعدة مرتعشة وأشار بها لتامر أن يتوقف ..
كان على بعدِ خطواتٍ منه، في الممر المنير ، وبدى مصدوماً بعضَ الشيء مرتبكاً ربما، لقد استشفّ تامر ذلك من وقفته المفاجئة، والتي تلاها غيابُ لون وجهه بطريقة ملفته حتى بدى أزرقَ مصفرّاً بعضَ الشيء ..
توقّف تامر من فوره عن المشي .. يرقب بساؤلٍ ما دعى ابن عمته لهذا الجمودِ المريب!!
فأطال عنقه وفتحَ عينيه ومداركه ليشهدَ آدم أمامهما على بعدٍ يسير ..
بنطال جينزٍ وسترةٌ شتويّة حمراء ، والصليب لا يزالُ معلّقاً ومتدلّياً ..
كان آدم، كعادته يبدو نحيلاً لكن هذه المرة بدت عليه معالمٌ مبهمة .. عينانِ تشعّانِ غموضاً، تُوقف فضولكِ عن التجوالِ بالجوار وتعيدُكَ من حيث أتيت ..
وما إن تنظر في وجهه حتى تجدَ نفسكَ أمامَ أعدادٍ هائلةٍ من الإحتمالات عن كونه، سعيداً حزيناً، غاضباً راضياً .. إنها مئةٌ من الأوجه مجتمعينَ معاً في سكونه وركودِ ملامحه ..
أطلق إياد سهمَ نظرةٍ من عينيه إليه وكأنه على اصطادَ وجهه الحقيقيْ ..
ورفعَ نبرةَ صوتِه "أخرج يديكَ من جيب سترتك وارفعها"
ارتبكَ تامر ^هل إياد يدركُ خطورته؟!!
وهل آدم يعرف ذلك؟ كان من المفترض أن نتظاهرَ بعدمِ معرفتنا!!!^
ومع محاولةٍ تامر للتقدّم خطوة اخرى يوقفه إياد مجدداً وبِحزم "إلزم مكانك، تامر"
ومجدداً يقف تامر بحيرة يراقب شفتيْ آدم المطبقتين، وبدى إياد وكأنه يجبر تامر على الإحتماء خلف ظهره مشيراً له بذراعه اليسرى أن يلتصقَ بالجدارِ خلفه ..
تنحّى تامر قليلاً نحوَ الجدار، وأسقطَ عينيه على يمين إياد حيث اشتعلت فيه رهبةٌ، إذ رآه يتلمّسُ مسدسه بالفعل ..
^فهمت، لقد أشار لي إلى هنا لأراه يستعد فأستعد!!^
قام تامر بدوره، تتسلل يده إلى داخل معطفه الثقيل حتّى تصل لقبضةِ سلاحه، فتحسّ كفّه بالصدفةِ قلبه يقرعُ أجراسَ خطرٍ مبهمة تجعله يكتفي بمراقبةِ حركةِ آدم بينما إياد يكرر ..
"قلت ارفعهما، آدم"
بسخرية "ربما تكونُ ذراعي مكسورة!!" وأردف "كما أنّك طعنتَ ذراعي السليمة ..."
تنهّد "آدم .. فل--"
"إرفعهما"
تفاجأ إياد بصوتِ تامر يردد "هيا ارفعهما"
استدارَ إياد ليرى تامر قد أشهرَ مسدسه وصوّبه ناحية آدم ..
"إن كان السرطان فينا، سنقتلعه"
سكتَ إياد ..
وكان غريباً منه السكوت ، بل وتنحّى جانباً ليُظهِرَ تامر كلّه بسلاحه أمام عينيْ آدم ..
وهناك، على بعدِ بضعِ ياردات يقف كما هو وبرودةُ أعصابٍ قارصة تشتعل به .. لا يظهر على ملامحه شيء ولا على جسده ..
الآن أيقنَ تامر، من العدوْ ...
لو كان آدم بريئاً لإرتعد ولقامَ بالدفاعِ عن نفسه، لكنه .. يتصرّف وكأنه يمتلكُ الموت!!
"آدم" بصوتٍ ناعم "إرفع يديك هيّا لكي لا تجعلَ تامر يظنّكَ شيئاً ، أرنا برائتك"
^سأجن، لماذا يعامله إياد بهذه الطريقة!!!
لماذا هو رفيقٌ بِه؟!!!
أهو يسخرُ من عقله أم ...^
"حسناً"
"أووه جيد ولدٌ جيّد" بابتسامه "أعدُكَ أن تعودَ لألمانيا بسلام"
همس تامر "ماذا؟!!" وأدار مقلتيه برعبٍ إلى إياد بجانبه ..
"لن يؤذيكَ أحد طالما أنت تتبعُ الأوامر، فقط إرفع يديكَ ودعنا نأخذكَ للمشفى ..."
بذعرٍ فكّر تامر ^لماذا يصرّ على أخذه للمشفى!!!!^ وبسرعةٍ نسج أفكاراً ربما بدت غير منطقية ، وغير عادلة أو جنونية ..
لكنه نسجها، وأبقاها كاحتمالٍ في جيبه .. فماذا لو ^كنت أنا ضحيّتهما بالفعل؟!
أو أنهما متحالفيْن وآدم خرج مؤقتاً عن طاعةِ إياد؟!
صحيح وإلّا فكيف---^
فجأةً شعرَ تامر بصدره قد تحوّل إلى محرقةٍ فخرجت أنفاسه حارةً تخنقه وتخنقه ..
اهتزّت يداه قليلاً ..
أمامه آدم، وخلفَ ظهره بقليل إياد يقف بثباتٍ وهدوء، وإن كان آدم هو السفاح كما يظهر، فلن يقف إياد وقفةَ الجبروتِ تلك ..
أهوَ الأحمقُ الوحيد الذي، صدّق تلك المسرحية!!!
يرى يديه ترفعان سلاحه نصب عينيه ويرتجفُ غارقاً في صمتهما المُبهم ..
اكتفى هامساً "اللعنة"
^يبدو أنّ الأمرَ كلّه كذبةٌ ما ..^
اجتذبَت عينيْ تامر بقوة حركةُ آدم البطيئة ، يُخرِجُ يديه من جيوبِ سترته الحمراء ..
فارغتان، بيضاوتان ..
ها هو يفترش قلب كفيْه النحيليْن، وتلك هي أصابعه التي يستحيلُ أن تتحمل نفحةَ بردٍ أو درجاتِ بيانو!!!
يرفعهما ..
يرفعهما للأعلى ببطء ..
إنه يحرّك كلتا ذراعيه كالأصحاء!!!
اهتزّت الموجات في أذنيْ تامر فورَ تليقيها صوتَ أخذِ رصاصةِ إياد مكانها في سلاحه، وتلكَ التكتكة صلّبت قلبَه ومجدداً ...
^رسالةٌ مشفّرة منك .. أم هو صوتُ موتي؟!!!^
وضعَ تامر إصبعه على الزناد، يراقبُ ارتفاعَ ذراعيْ آدم حتى أصبحتا عالياً ..
وكأن عيناه الضيّقتانِ قد زادتا حدّة عن حدّتهما، وشفتاهُ تمددتا بشبه ابتسامةٍ --
"ها أناْ ذا"
ينطلقُ شيءٌ من داخلِ أكمامه ليخترق أضواء السقفِ ويحدثَ ..
عتمة .
صرخة "اترك المكان، تااامر!!!!"
صوت الأنصال ..
اخرجَ تامر كشاف هاتفه المحمول متجاهلاً لأمر إياد له بالهرب، وأنار رقعةَ ضوءٍ بيضاء يحرّكها هنا وهناك فلا يجدُ تحتَ عباءةِ الظلامِ شيئاً يتحرّك!!!
وعندما يرتفعُ الأدرينالين، تصبح الحركة أبطأ وأثقل، وكأنك دخلتَ في كومةِ هلامٍ خانقةٍ أفقدتكَ لذة التنفس!!
ولكنّ شيئاً بلمح البصرِ مرّ كرصاصةٍ من الحجم الكبيرِ بمنكبه كنسمةٍ باردة أو كشيطانٍ مشتعلٍ بالحقد، لم تدركه مستشعراتُ تامر الحسيّةِ إلّا بعد مروره بثوانٍ .. بلا صليبٍ معلقٍ !!! ولكن بنصلين في قبضتيه يركض مباعداً بين ساقيه ، واضعاً خصمه نصب عينيه ..
وقبلَ الوصولِ إلى إياد، يرمي بنصلِه في الهواء لعله يصلُ قبله فيدركُ رقبةَ هدفاً ..
يدور ويدور ممزقاً موجاتِ الهواء إلى آخرِ الممرِ المعتم حتى يختفيَ لمعانه !!
وصوته !!
توقّفَ آدم للحظاتٍ فجأة ..
"سحقاً لك" يصكّ أسنانه وأضرسه بقوةٍ مترقباً آخرَ الممرِ المعتم ..
آدم .. متجاهلاً كشّافَ تامر الموّجه للأرض، أنفاسه المتسارعة وفواهةَ مسدسه مصوّبةً على ظهرِه .. يرى أمامه ظلّه طويلاً ينتصفُ البرهةَ حتّى يتلاشى مع الظلام نهايتها، ويسمع بين ذلك حسيس تامر يتأهبُ لإطلاق النارِ على ظهره ..
بعد أن اختارَ بقعةً غير مميتةٍ في جسده للتصويب، وبأنفاسٍ حارةٍ في محاولةِ الثباتِ الإنفعالي فكيفَ شعرَ بِه ولم يتحرّك وكأنه يقول هيا أطلق !!
هيا فلترتبك أولَ جريمةٍ لكَ أيها الطبيب !!
لكنّ عينا آدم كانتا معلّقتانِ بآخرِ الممر حيث لا رؤيةَ ولا حسيس .. لم يرتطم نصلُهُ بشيء ولم تستشعر عيناهُ حركةً في الفراغ ..
إذاً ماذا؟!!
وجدَ آدم ذاته فجأة محاصراً بين فواةِ مسدسٍ واختفاءٍ لنصله في الظلام، لكنه يعلم بل يؤمن بلا أدنى شك أنّ إياد مراد لن يصيبه هو بأذى .. ليس قبل ان يعرضه للفحصِ العام على الأقل ..
لكن بالتأكيد تامر لن يتوانى عن قتله ..
استدار بسرعةٍ على وقعِ الزناد تحتَ إصبعِ تامر يضغطه ويضغطة لكن ..
"اللعنة!!!" أجل، إنه فارغٌ من الرصاصات ..
يقبضُ آدم بقوةِ أعصابه على نصله فيحكمُ إمساكه وينوي الإلتفافَ لإقتلاعِ رأس تامر .. إذ شعر تامر بوخزاتِ الرعب في قدميه يتذكّرُ ذلك الشريط الذي عرضَ قدرته في قتلِ عددٍ من القواتِ الخاصة ..
الآن يكاد يرى رؤيةَ بريقِ عينيه من قرب ..
ما هذا بإنسان ..
إنه شيء، ولِدَ ليقتل ..
سحب تامر نفساً طويلاً أخيراً برعب .. وانسحبت قدماه بضعَ خطواتٍ قبل أن ينقضّ آدم بسيفه على موقعه ..
اهتزّ الهاتف وانطفأ ضوءُ الكشافِ مع سقوطهِ أرضاً، فحلّت العتمةُ وانتشر الرعب .. الموتُ حولك في كلّ مكان ولا تدرِ متى يُضرَبُ عنقك ..
الهروبُ الآن هوَ نصفُ الرجولة .. ربما كما فعلَ إياد فلا حسيس له ..
أم أنه مات !!
●●●●●●●●
في قلبِ الظلامِ تلاحمَ نصلينِ مع ومضٍ من شررٌ إلتقائهما !!
ثم ارتطمَ جسدٌ بقوّة في أحدِ جوانبِ الحائط وسحبَ معه شيئاً من الأثاث فتهشّم زجاجٌ وتكسّرت قطعٌ على الأرض تفترشُ الأرض حتى قدميه ..
صدحَ صوتُ تامر في الظلام "إياد!!!"
كانت الضجة كفيلة بجعلِ أهلِ البيتِ يضطربون تاركي سفرةَ الطعامِ وما عليها .. فوقفَ البعضُ بارتباك حتى صرخَ بهم السيد أيمن والد تامر ..
"إلزموا أماكنكم .." بحزم "سأتولّى أنا والحرّاس الأمر"
تركَ كرسيّهٌ فارغاً من فوره، ولم يكن في عقله أيُّ تصوّرٍ لما يحدثُ في الطابقِ العلويْ سوى أنها فرصةٌ أخرى للتقربِ من والده عبر اثباتِ جدارته ..
تتسارعُ خطواته نحوَ الدرجِ المؤدي للمكان، ولكنه يبطئْ إذ أنّ منظرَ الظلمةِ تزحفُ على الدرجَاتِ حتّى آخرها وكأنها كائنٌ متحرّك مفزعٌ بحق !!
يتلفّتُ حوله، فيتفاجؤُ بوالدِ إياد قد تبعه لكنه، ولسببٍ ما ... كانَ هادئاً جدَّاً !!
كانت حركته بطيئةً ثقيلة، ووجهه مرتاحٌ وكأنَّ على شفتيه تكادُ تُرسَمُ ابتسامةٌ صغيرة من شدّةِ الوقار .. وكاد صبرُ أيمن ينفذ إذ صدحَ صوتُ تحطيمٍ آخر في الأعلى وكانَ أقوى من ذي قبل !!
في حين يجلِبُ والدُ إياد مصباحاً بإمكانه إضاءةُ المكان جيداً ..
"ماذا يحدثُ في الأعلى بحقّ الله!!" يشدّ المصباحَ من يدِ السيد مراد وينادي "تامر!!"
لا مجيب!!
يخطو السيد أيمن درجتانِ على عجلٍ فيستوقفه صراخٌ من جوفِ الحنجرةِ وكأنه الجحيم ..
"لا تصعدوا!!"
ارتجّ قلبُ أيمن لأنه صوت ابنه الأكبر !!
رفعَ السيدُ مراد راسه ببطءٍ في ذهولٍ شحيح، وازداد فور رؤيته لأيمن يتجاهل صرخةَ ابنه ويتخطى الدرجاتِ بسرعةٍ هائلة ..
حينها تراجعَ مراد نحوَ البوابةٍ الرئيسية بكامِلِ وقاره .. يلتقطُ سمّاعةَ الطوارئ ويضعها على أذنه في انتظارِ مجيب ..
"معكَ سيّدي ... هل كلّ شيئٍ بخير؟"
"ممم ..
لا ..
أظنّ أنّ لدينا مشكلة"
__________________
في الأعلى حيثُ الحجيم بستعر، يتابع أيمن الصعود بينما تخبِتُ الأصواتُ فجأة فلا يُسمعُ حسيس أو نفس .
يقتربُ أيمن بكشّافِ الضوءِ من أعتابِ البرهة، يضيءّ بِهِ يُمنةً ويسرة .. يظهرُ تحت ضوئه زخارفُ السجّاد الأحمر وبعضٌ من بقايا زجاج ..
خطواتٌ يتملكها الرعب مما يجعلها متذبذة بين تقدّمٍ وتراجع .. لا يعلمُ إلى أينَ تقوده فقط يتابع السير متناسياً كلّ ما حدث في منزل والده ،، مليءٌ عقله باينه وابنه تامر فقط ..
لقد بعثت صرخةُ ابنه فيه شجاعةً عمياء جعلته ينقادُ ورائها ربما نحوَ حذفه ..
يوجّه بقهةَ الضوءِ على الأرضية، تشهدُ عيناه بعض الحطامِ من أجزاءٍ وقطعِ زجاجٍ حادة وكأنّ عاصفةً هبّت!!
نظرَ مليّةً إلى الجدران ولكنه لم يلمح شخصاً أو حتّى جثة !!
لفتةٌ لليمين ..
أخرى لليسار ..
"تامر!!"
لنبرةٍ تطفو على أمواجِ الهواءِ الساكن .. مجدداً بتردد "تامر!!"
●●●●●●●●
ذراتُ الظلامِ تنشطر وتتضاعف في الهواء، حوائط سود لا يكادُ يبينُ من خلفها شيء ولا من أمامها ..
هدوءٌ قاتل ..
قاتل !!
آدم ..
قدمانِ تقفانِ في العتمة، تتخذُ بقعةً في المنتصف، لا قريبةً من وكرٍ ولا خلف شيء ... فقط في وسط كلّ الهواءِ المشبّع بالعتمة!
كيفَ لا وهو ملكُ موتُ ساحته القصيرة التي تمتدّ من أوّلِ الردهة إلى ذلك المنعطفِ الصغير المؤدي إلى الردهةِ الأخرى، ثمّ الدرج ..
متأهبٌ للموتُ في سبيل ملئ هذه الساحة بدمِ المتلاعب اللعين ..
سنواتٌ وسنوات، في انتظار هذه اللحظة الصامتة، في التدرّب على تلك الحركاتِ الخافتة .. سنواتٌ وهو ينسج نفسَ هذا السيناريو في عقله ..
الظلام، الحوائط النوافذ ...
يمكنُ لآدم رؤية إياد واقفاً هناك، يراه ويبدو أنّ إياد لا يلحظه ... فهوَ يتلفّتُ على وقعِ اقترابِ خالهِ السيدِ أيمن الذي شتتَ حواسَ كليهما بصوتهِ، ضوئه الأبيضِ المُزرق، وخطواته البطيئة الحذرة في الردهةِ المجاورة ...
سيظهرُ لهما في أيّ لحظة ولن يكونَ حينها ..
^سوى ضحيةٍ ممزقة!!
-يصكُ آدم أسنانه- إذاً أنتَ لا تحذرُ من اقترابه كما يظهر، بل تنتظرُ ذلك!!
فلتحلّ عليكَ لعنةُ أهل السماء أيها المنحط ..
ألن تخمدَ نيرانك حتى تتخلّص من أيّ فردٍ يعي حذاقتك!!^
جسدٌ طويلٌ عريض، يتلفتُ عن يمينه نحو صوتِ السيّد أيمن، لا يظهر على ملامحه شيءٌ من تأهبٍ أو حذر، بل تمثالٌ ساكن صامت .. لربما ينتظرُ لحظته، أو لحظة عدوّه!!
اسودت عينا آدم واتسعتا، ابتسم حتى كاد بياض نابيه يشقّ الظلام ..
يقبضُ على سيفه ..
يسحبُ نفساً خفيفاً مليئاً بالعتمة .. يشتاقُ لعبق الدمِ ..
يركّزُ عليه نظره واضعاً إياه نصب عينيه ...
يُبدي إياد الحيرةَ والتيه لوهلة فقد توقّف اقترابُ وصوتُ أيمن بل وسقطَ كشّافه وأصدرَ قرقرةً وكأن الأرض ابتلعته وحده!!
ورغمَ ذلك لم يتحرّك إياد .. فاتسعت ابتسامة آدم لأن هذا يعني وعيَ إياد بترقّب آدم له .. فهو يعي جيداً أن استدارة قصيرة الزاوية قد تهدرُ دمه أرضاً!!!
وأجل، كم أنّ هذا حماسيْ ..
الدمُ يتدافع في عروقِ آدم وكأنه يدفعه للمضيْ!!
يقبضُ على سيفه بقوة ..
الأعصاب، العضلات .. المفاصل ..
كلّ خلايا جسده تتخذ وضعية الإستعداد في حالة تأهبٍ كامل ...
هذه هو السلاح المثاليْ ..
هجوم .
تنطلق قدماه بسرعة هائلة وبخفةٍ وكأنها النسائمُ تداعبُ سطحاً أملس ... لا حسيسَ له يطفوا أو حتى يطير ..
^سأصل^
يرفعُ إياد رأسه قليلاً بشيءٍ من الإنتباه ويعودُ في لمحِ البصرِ أحد عشر خطوةٍ للخلف باستقامة ... ثم انعطافةٍ تاركاً بقعته !!!
فيلمس آدم الأرضَ بطرف قدمة لمسةً أحدثَ بها قفزةً طويلةً نحوَ الأمام يمسكُ سيفه وينقضُّ به رأسياً على رأس إياد ...
فلا يجد سوى حدّه قد اخترق خشب الأرض!!
"هئ .. " بغرور، فالفريسةُ الصعبة ألذّ من السهلة ..
رفعه مجدداً وقد أدركت عيناه إياد على بعدٍ قريبٍ منه بلا مقاومة ..
وهذا مخيف، كونَه لا يهربُ بل يثبتُ في الساحةِ كمصارعةِ ثيرانٍ غبية ..
لكنّه لم يُثِر سوى لعاب آدم فبدت وكأنها تغلي في فمِه ..
لمحَ ومضةً حمراء في سوادِ عينِ إياد اليسرى فابتسم بحماسٍ وتملّكه شيطانه ..
^إذاً أنت ترى في الظلام!^
قبضَ على يمينه مجدداً واندفعَ نحوه ..
ضربة تلوى الأخرى .. ضربة فضربة ولا يستطيع أحدهما حتّى لمس طرفٍ من ثياب الآخر!!
مناوراتِ آدم في غاية السرعة بينما يتراجعُ إياد فقط للخلف ويتفاداه في كلّ ركلةٍ أو ضربةٍ بالسيف والرعبُ ينبثقُ من عيني كلاهما!!
^لماذا لا أصيبه^
^لماذا يكرهني إلى هذا الحد !!!^
كمّ الكراهية الرهيب دفع آدم لينفجر في كتلةٍ من المناوراتِ التي قد تُودي بأي بشري .
يهجمُ مجدداً بينما الصمتُ يكتمُ الأصوات سوى صوتَ شقّ السيفِ للهواءِ بسرعاتِ الضوء .. حتّى أدركَ إياد اقترابه به من طريقٍ مسدودٍ بجدارٍ قد يتلوّن بدمه إن لم ..
إن لم ينبطح .
انبطحَ إياد على الأرض فجأة انبطاحةً أشبه بالسقوط أضافت للكتمان صوتَ قرعِ طبل ..
وكانت قرعةَ بداية الحرب .
إذ أن هناكَ شيئاً لمس آدم !!
تراجعَ آدم لوراء ووقفَ بمحاذاة الحائط بشهقةٍ قوية لا يليها زفيرٌ بل وكأنه يحاول أن يدخلَ الحائط ..
ما الذي حدث!!
تكاد كرتا عينيه تسقطان ذعراً وهو يُلصقُ عموده الفِقري بالحائط !!
بطرفِ إصبعيه،، إياد يشدّ بخفةٍ فيظهر ملتفّاً ...
الخيط!!
حول جسدِ آدم بأكمله ..
يشدّ الخيط على جسده فيظهرُ بشفافيته يقسّم جسده لمسافاتٍ متباعدة .. بدئاً من رأسه مارّاً من أقصى جبهته من اليسار وحتّى خدّه الأيمن، العنق ..
الأكتاف ..
الصدر الخصر الأقدام !!!
وطأةُ الخيطِ على جسده تزيد وتغوصَ أكثر فتقطع من ثيابِه وجلده ما تقطع وتغوص، تحفرُ قبوراً ضيّقة حتى بدأَ دمه القاني يصعدُ على سطحِ جلده ويملأه يغطيه !!
كيف ومتى فعلَ إياد ذلك!!!
كيف التفّ الخيط؟!!!
"لكن هذا ليس وقت التفكير .."
همسةٌ تبعها وقفةٌ بكامل استقامته .. إياد منتصبُ القامة كالدمية الممسوسة تتحرّك مفاصله بشكلٍّ مخيف !!
تحت عبائة الظلام، الليلة، وبينما يدفنُ ملامح شخصيته الحقيقة في وجهه فيظهرُ وجهه ثقباً اسود ينبعثُ منه نفسٌ رخيم يدلّ على شدةِ عبوسِ صاحبه ..
متى وقفَ ومتى سار ومتى أصبحَ بذلك القربِ من آدم!!
"قد لا يكونُ حادّاً كسيفك لكنه، يحبّ التمزيقَ أيضاً!!"
دنى منه أكثرَ حتى باتَ آدم يستشعرُ زفراتهِ الخفيفة ورائحةَ دوخانِ السيجارة من اطرافِ ياقةِ قميصه ..
لكن آدم، لم يشعر أبداً أنه الموت .
"لأنني .. سأتخلى عن فردٍ فردٍ من هذه العائلة .. وسأحتفظ بك .. أنت وحدك ..
... آدم" ابتسم "أرني كيف تستحقّ أن أحتفظَ بك!"
رفع بده بضعَ سانتيميترات ..
وسحب ما بين إصبعيه ..
آدم لا يتألم، لكنّ سترته تتمزق ..
الدم يسيل من وجهه، قرب عينه ورقبته !!
لا يتألم لكنه يشعرُ الدمَ يخرجُ من أخاديد الخيطِ الملتف فيغرق سكونه ..
السيفُ في يمينه لكن ..
إن رفعَ ذراعه بالقليلِ فسيقومُ الخيطُ بافتعالِ نزيفٍ حاد من قطعِ وريدٍ أو أسوأ !!
لقد شلّه بالكامل، وببساطة .. سيقومُ بتلك الخطوات العديدة ليطفئه!!
^اجل ستقومُ بها كما فعلت بأطرافِ أصابعك، الطرقات الخفيفة في المواضعِ الاربع لأجد نفسي محمولاً بينَ ذراعيْك إلى المشفى ..
ستحصلُ على مخططٍ دقيقٍ مفصّل لجسدي لتعرف مدى نجاحك لكن يا عزيزي .. وحينها لن أعودَ مهمّاً أو خطيراً بل، ستقتلع روحي وتمضي تدعسها كما فعلت سابقاً ..
وليس ما يزعجني خطّتكَ الساذجة، او ذكرياتُ أيامٍ ولّت كنت فيها عبدك، بل زفيركَ النتن بقربي ذو عبقِ التبغ ..
دحرجتُ عيناي في الظلامِ إلى موضعِ ذراعي الأخرى، وكانَ الخيطُ بالفعلِ قد نالَ منّي، ولحظتُ قفّازاً كان يرتديه في يسراه ، لم أستطعْ رؤيةَ تفاصيله الدقيقة لكنني موقنٌ بجودةِ خامته العازلة!!
ولوهلةٍ لمعَ في عيني الخيط النحاسيْ ..
ودقّات قلبي وتروسُ عقلي قد توقّفت لوهلة في فضولٍ لمعرفةٍ مما صُنِعَ ليكونَ بتلكَ الحدّة!!!
حاولتُ رفعَ رأسي قليلاً إذ الخطوطُ مشدودةٌ بين أصابِعِ كلتا يديه بشكلٍ معقّدٍ إذ كلّ إصبعٍ له تأثيره في اتجاهِ وشدةِ تأثير الخيط ..
عجزت عن رؤية وجهه بالكامل سوى ومضةٍ في عينيه.. بهدوء بينما هو صامت مكتوم، يحذرُ الاصوات ويحذرني وما يحذرُ سوى نفسه!!
همست ..
"إنهم قادمون .."
وابتسمت ..
من هم؟
العائلة؟ الشرطة؟ أم من هم؟!!
تركت سيفي يسقط أرضاً ليحدثَ ضجّة، حركةٌ غيرُ مدروسة وبلا معنى ستجعلُ عدوّكَ يرتبك خاصةً إن كان يعلم كم أنّكَ ذكي!!
وخطير ..
مطبقُ الشفتينِ أنا ..
أحّركه بلساني .. أحرّكه ..
أهزّه بقوة وتنبعجُ شفتايَ المطبقتانِ في ابتسامةٍ ساخرة ..
أضغط الهواءَ بفمي وأضغط ..
أطلقه كالرصاصة سنّيِ .. قد اخترقَ بالفعل عينه اليسرى المومضة ..
ترتخي الخيطان بين يديه ويرتدّ بعيداً يصرخُ صرخةً عالية تهيّجُ الدمَ في عروقي وتشعِلُ وهيجَ شيطاني مجدداً ...
تجحظُ عينايَ في ابتسامةِ الهلاك ..
أيها الرب ..
أيها الرب ما أعظمك !!
الخيوط ارتخت قليلاَ فالتقطت سيفي ومزّقتها وقو لا يزال في حاله المزرية، يلتوّى أرضاً كالذبيحةِ واضعاً يده على عينه بينما أقتربُ أنا ..
أنا وحدي ..
وسيفي ذو النصلِ في قبضتي ..
وكأنّ الكوكبَ توقّفَ عن الدوران وهلةً بينما أعدّ خطواتي الأربع نحوه ..
أنا مفتونٌ بقتلك ..
لقد سقطت، وبشدة في رغبةِ تمزيقك وتملّكتني لسنواتٍ أشتهي لحمكَ مخلوطاً بدمك !!
أهذه اللحظةُ استجابةُ صلواتي؟
اشتعلتْ أضواءُ كشافاتِ سيارات الأمن في الخارجِ واخترقت النوافذَ دونَ أن تضيءَ المكانَ كاملاً ..
... هدأ وكأنه يحاول التماسك، يحرّك يده ولا أكاد أرى غاية تحريكها في معطفه فأرفعُ سيفي من فوري في وضعيّة الطعن ..
"آدم!!" مشيراً بيده أن أتوقف فطعنتها حتى غاص سيفي في طولِ ساعده في العظامِ ومفاصلها، في عضلاتها ودمها ... فصكّ أضرسه والدمُ يسيحُ من عينه ..
حينها فقط .. لمعت فوّاهته والزناد ..
ولمع في ذاكرتي المطفأة سلاح إياد من جيبه ظاهراً ...
أيعقل !!!
ذاكرتي ..
خطواتٌ على ورقٍ جاف ..
جذوع ..
سماءٌ باهتة ..
وهذا العصفور، بين يدي .. ^
-طلقةٌ من مسدس إياد في السقف-
تبدأُ أذنا آدم بالصريرِ والنزيف ..
تهتزّ ركبتاه حتى يجثو، تصتدمانِ أرضاً ...
إنهيار . . .
بعينينِ فارغتينِ من السواد .
-يتبع-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top