لقطة


قبل عدة سنوات.

كتلميذٍ نجيب لسيده ...
يذكر درس التاريخ الذي تلقاه بل وشهد بعض أحداثه ..

فكل الأمر بدأ عندما جلس أرضاً قرب لهيب الشعلة ..
وسيده ذو العين الواحدة يقلب الجمار بغصنٍ نحيل.

يرى حرارة اللهيب تلسع ملامح وجهه المكفهر -

في قلب ضبابٍ رطب؛ جالسٌ جوناثان ذو الحادية عشر مع سيده على تربة الغاب.
تعلقت عيناه برمادية السماء تأملان بشوق سقوط المطر ...
ولكن السماء تمسك دموعها منذ الأمس. فتراها مغرورقة عينها لكنها تأبى بكبرياء ذرف المطر ..

كما سيده ..

اما هو فبالفعل قد شبعت عيناه من البكاء على أرواح الرفاق المبعثرة كأشلائهم.

لقد نجيا بشبه أعجوبة من هجوم آدم المباغت على الأعضاء المخيمين .

ورغم مرور بعض الأيام متجولين في قلب الغاب؛ إلا أن الحدث دائماً يتكرر في ذهنيهما وكأنه وقع منذ لحظات ...

لقد توغلا في الغابة هروباً من الموقع وظلّا دون توقف يسلكان أصعب الطرق وأبعدها ..

حتى انهارا هنا جلوساً ..

أغرقهما سكوت قاتم.

جوناثان لا يدري كم مات منهم..
هو فقط كطفلٍ بريء؛ قد تأذى من منظر الدماء وقطع اللحم البشرية لأشخاص كان يعرفهم.

....

لحسن الحظ بدأ رذاذ المطر.
يندي التربة ويخفف من حدة لهيب النيران ...

حينها تمنى جوناثان الطفل أن تغرق الغابة في سيلٍ يغسل الجثث والدماء بل ورأسه من تلك الذكرى المفزعة.

لقد دربه سيده جيداً أن لا يهاب الموت ..

لكنها طبيعة النفس أن تهابه ..
وها هو بكل طبيعة نفس يسأل سيده ..

"لكن لماذا قتّلهم؟!"

سؤال بريء

مثيرٌ للضحك من طفلٍ عفوي.

حاول سيده أن يزيد النار شعلة ..
حتى إذا استقر لهيبها تحدث.

وبعد بضع محاولات؛ استطاع أن يبقيها مشتعلة رغم رذاذ المطر ...

ثمّ تربّع.

يحدق في تلميذه المفضل جوناثان ..
وينتابه شعورٌ أنها اللحظة المناسبة للبوح له ببعض ما يجب أن يحمله في قلبه طوال عمره.

فمدربه لا يدري إن كان سيحظى مجدداً بفرصة أخرى للعيش أم سيموت غدراً أو قدراً ..

وبعد موت مل هؤلاء ..
يجب أن يرث جوناثان ذاك التاريخ لكي لا يُمحى ..

ومن هنا، أخذ نفساً ..
"جون ..

أعلمُ أنك لا تزال صغيراً ..
وأن لديك الكثير من التساؤلات.

لماذا لم آخذك يوماً لمدينة الألعاب؟
ولمَ لم ترتد المدارس؟!

.
.
.

أسألت نفسك لمَ أمنعك من الحلوى؟!
ولم كنت أعطيك النصل؟!"

أومأ جوناثان بالنفي أنه لا يعرف لمَ ..

ابتسم سيده بشيءٍ من بقايا حنان لمع في عينيه ..

"يجب أن تعلم يا عزيزي .. أن هناك أناساً قُدّر لهم أن لا يكونوا كما الناس.
بل، إن كل إنسان لا يعيش حياة طبيعية ..

ففي كل حياة شخص أمر أو أمرين أو أمور غير معتادة وغير معهودة ومتوقعة.

بل سيصبح يوماً من الغريب جداً أن يحصل أحدهم على حياة طبيعية ..

وبعض الناس لا تليق بهم الحياة الطبيعية من الأساس ..
لم يُخلقوا لها!!

مثلنا يا عزيزي .."

جلس جوناثان القرفصاء ضامًّا إليه ساقيه ..
وبرقت عيناه منصتاً لسيده ..

"سأحكي لك ..
تلك القصة التي يحتم عليك معرفتها.

لتعرف من أنت ...
وكيف أتيت إلى هنا منذ طفولتك .."

استشعر جوناثان بعض الراحة لسماعه كلمة ^أحكي^ ..
فقد شعر للحظة بالرغبة الشديدة في سماع قصة بالفعل .. كطفل ..
وبعد ما حدث ..
وفي تلك الأجواء الباردة الغير مستقرة ..

وها هو سيده يسرد .. بصوته العميق المليء بالأمان ..

"منذ قرابة الخمسين عاماً مضت قبل الآن ...
وتحديداً في موسكو، روسيا ..
في جامعة الدراسات الحيوية، قسم الدراسات العليا - إلتقى رفيقان ..
-رفع اصبعيه-

... أحدهما روسي : يدعى فلاديمير ديميتري.

والآخر أمريكي يدعى - جوزيف فيتالي.

كان العالمان مهووسين بفكرة صناعة الرجل الأقوى. وتطوير الجينات البشرية لجعل حواس البشر وقدراتهم أعلى من الطبيعي، بل وأكثر مقاومة للأمراض والعوامل المتغيرة ..

لكن خمّن ماذا؟"

"ماذا يا معلمي؟"

"لقد تم طردهما من الجامعة ..
فقد اعتبرت الجامعة أن تجاربهما
محرمة

ومكلفة

وغير واقعية.

ولكن، العالمان اليافعان لم يتوقفا.
فقد اجتمعا معاً في مسكن واحد، ولهدفٍ مشترك ..

عملا بجد شديد ..
لقد اتخذاه هدفاً للحياتهما بل الغرض منها .. فتفانيا بشدّة!!

ولكن، توصل كل منها على حداً إلى مجموعة من النتائج المبهرة.

فدبّ بينهما خلافٌ شديد ..

إذ أن العالم الروسي فلاديمير ديمتري توصل إلى مجموعة من المواد يمكن حقن الحوامل بها في الأشهر الأولى ..
تؤدي إلى تغير جذري في جينات المولود ...

أما جوزيف فيتالي فتوصل إلى مجموعة من التركيبات لتوضع كمصل يصلح للإنسان في فترة نموه فقط ، من بعد الخامسة... وحتى بلوغ العاشرة .. تضمن خطورة وآلام وعنف جسدي ..

وبسبب رفض فلاديمير لتلك الطريقة، انفصل الصديقان تماماً بعد خلافٍ شديد. وعاد جوزيف فيتالي إلى أمريكا بل توقف كذلك عن التفكير في نظريته وطريقته تماماً ..

خاصة عندما علم يا عزيزي جوناثان، أن فلاديمير قد جرب بالفعل ذاك المصل على امرأة حامل أقنع زوجها ببعض المال وجعل ابنيهما فأر تجربته الأول مقابل المال.

وبالفعل، تجربة فلاديمير نجحت.
وكان أول تجربة هو ذاك الطفل المشؤوم ... زيميركوف بلينسكي.

سيد القصر الرمادي على أطراف الغابة"

حينها شهق جوناثان بدهشة متعحباً ..
"الجراي؟! ذاك القصر الذي نحاول دائما مهاجمتة؟!"

ابتسم سيده وقال "أجل ..
ف فلاديمير الحَذِر لم يجرب على شخصٍ ماعدا جراي بلينسكي ... ولم ينوي بتاتاً تعميم تحربته حتى يتأكد من صلاحيتها التامة.

حينها تبنى بلينسكي ..
رباه وأعطاه جُلّ الوثائق والأسرار ...
وإلى أن تم شراؤه كجندي من القوات الأمريكية - سافر معه فلاديمير العالم. وتأصّل في قصر قديم على الجانب الآخر من الغابة - فضرب جذوراً له.

وطمر أسرار التجربة التي لا يزال يحتفظ بها في قصره فلا يغادره.

حتّى مات فلاديمير في القصر منذ سنتين من الآن."

هزّ السيد رأسه بشيءٍ من رضى وسعادة بموت ذاك العالم ..
"نحمد الرب أن بلينسكي يعتبر تجربته الوحيدة ...
فهو لوحده كجنديْ متطور، ارتكب مذابح لا يمكن حصر ضحاياها ...
ولم يستعمله الجيش الأمريكي إلاّ للضرورة كآلة حرب فتاكة ...

ولكنه ...

خرج عن عقده مع الجيش الأمريكي فور طلبهم منه الإفصاح عن أسرار أمصال فلاديمير (مصل الفلاديمير).

وقطن قصره ...
فلا يجرؤ أحدٌ أن يقترب بتاتاً؛ وله حرسه وحشمه ... وكأنه أسس دويْلةً صغيرة على الجانب الآخر من الغابة ...

ولا تزال الحكومة حتى اللحظة تتودد إليه وتحاول مجاراته."

سكتا قليلاً ...
وكأنهما يدركان الواقع الذي آل إليه قصر جراي مقبرة الأسرار.

ثمّ عدّل السيد جلسته وتربع، فأعطت لغة جسده إشارة لتلميذه عن بدء الحديث عن النقطة الأهم الآن ...

جامعاً بين أطراف أصابعه العشر ..
ومصوّباً عينيه يتابع السرد -

"أما فيتالي الأمريكي، فقبل موته أعطى أسرار لقاحاته لشخصٍ عربيْ الأصل مجهول الهوية لنا نحن ..

ندعوه العُقاب.

وهو إنسيْ لكنه شبه شيطان.

فقد أولع بفكرة فيتالي منذ طفولته ونفذ تجربته الأولى الأشد قسوة - فبعد أن امتلك لقاحاته جمعاء .. تبادل حقنها في أول طفل؛ إيليوت - وسمّاه آدم أول من.

الذي رأيته."

رفع جوناثان رأسه الصغير ومقلتيه في تعجب ..

إنها حركته المعتادة قبل أن يلقي بحذرٍ على معلمه سؤاله ..
"ولكن، ألسْنا كذلك فيتاليين؟!"

ضحك السيد ملء فمه ..
ضحك ورد باهجة بطيئة وصارمة "أجل. ولكن تجربة الآدم فشلت ..
وأصبح يحوي طاقة زاةدة جعلته يخرج عن السيطرة بل ويتحول إلى شبه سلاح شيطاني فتاك.

لقد حقد آدم على المؤسس العُقاب ..
وبدأ يحيي ما تبقى من جسده لتدمير كل تجارب ومخططات المؤسس -"

قاطعه جوناثان الصغير يسأل "ولمَ لم نصبح كآدم؟!
إنه بشع ومخيف .. ولديه أجزاء كثيرة معدنية في جسده وأسنانه ...
ولكننا عادييون!!"

أجاب السيد ..
"لأن تلقيحنا بنصل الفيتال تم على يد طبيب ماهر جدا ودقيق ..."

بنبرة منخفضة سأل جوناثان "الطبيب تامر؟!
في الخيمة الصفراء؟!"

"أجل يا بني ..

المؤسس يريد قهر الشر بداية من هذه الغابة ...
أنت تعرف أنك يتيم ...
جوناثان؛ لكان سينتهي بك الأمر لتكون أحد القرابيين لطقوس عبادة الشيطان التي كانت قلل وجودنا تقام علناً في قلب الغابة ..

لقد تم اختياري؛ واختيارك واختيار بقية المتدربين بعناية لنطهر العالم من قذارته ..

لننقذ آلاف الاطفال والضحايا الأبرياء ..

نحن هنا نضع جذورنا لقلب موازين العالم أجمع.

ومن هم في وجهنا يجب أن نقتلعهم.
بلينسكي ..
آدم ..."

سكت السيد فجأة وهب مع سكوته نسيمٌ طويل الهبوب رفرفت معه اطراف الثياب ..

"جوناثان ..
عندني أن تموت لأجل هذا."

أومأ جوناثان الطفل ...
"أعدك."




___________________________________

نهاية مقطع من الماضي القريب.

<To be contaniued>




Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top