الشاهد الوحيد
__________________________________
في غرفتهما،، استيقظ مع شروق الشمس.. يرتدي ثيابه الرسمية..
قميص أبيض،، بنطال،، ثم يضيق الحزام الجلدي على خصره..
يرش عطره فيوقظ نومها،، إنه العبق الذي يدلها على رغبته في المضيْ إلى العمل..
فتحت عيني الغزال خاصتها ببطء وعناء ،،لتبصره في مشهد ضبابي يمشط شعر رأسه القاتم ولحيته ال..
لحظة..
قامت جالسلة بتهاون ونظرة متفاجئة..
"لمَ حلقت لحيتك؟!"
أجابها "أنا مستعجل عزيزتي،، لدي مقابلة مهمة مع مستثمرين من أجل الشركة.. واا.."
سار نحو باب الغرفة تتبعه عيناها فاتبع "قد أغيب ليومين.."
قامت من فورها وتوجهت نحوه بصعوبة ووجهٍ مرهق وبطنٍ كالكرة "زميركوف.. لا تتركني أنا لا أشعر أنني بخير"
وضع يده على خدها البارد،، وابتسم لنظرة القلق اللامعة في عينيها "سأتصل بوالدتكِ لتجالسكِ هل هذا جيد؟!"
"لا،، أريدك أنت" أخفضت بصرها بحزن.. وقرَّبت رأسها من حضنه،، فتنهد وشدها نحوه في عناقٍ جاف ملتصقة بصدره الصلب ولا تشعر بذرة انجذاب..
صدره بارد وأجوف..
أشعر أنني أعانق عارض الحائط..
أهو يكرهني لهذه الدرجة؟!
ثقُلَ عليها التظاهر بالرضى ففضلت البقاء عابسة..
ولم يأبه هو بذلك.. بل تركها قائلاً "ستأتي والدتكِ الليلة كحدٍ أقصى.."
قبل رأسها ببطء وأدار ظهره ليكون آخر ما تشاهده منه.. حينها شعرت بانقباض وحزن شديدين.. أسقط من عينيها دمعة وعبست بوجهٍ طفولي بينما تسمع محرك سيارته يعمل.. فأطلَّت من النافذة بوجهٍ حزين تودع رفيقها وحدتها الوحيد..
دقائق من البكاء الشديد..
دموع وأنين.. وجهٌ كظيم وعينان منتفختين،، كيف لا وقد كرهت الوحدة واشتاقت لضمة حنان!!
أجرت حواراً قصيراً مع نفسها أمام المرءاة بثوبها الفضفاض وبطنها البارز..
ترجع خصلاتها الأمامية خلف أذنها وتتسائل ما الذي ارتكبته لكي يكرهها زوجها هكذا؟!
يستحيل أن يكون مكنَّاً لها ذرة مودة..
عانقت بطنها بذراعيها وحملقت في حَمار عينيها لتدرك أنها تحتاج للراحة.. بل للنوم حد الموت..
شعرت بالجنين يتحرك داخلها فابتسمت متألمة،، تستند على الأشياء وتقودها قدماها نحو السرير..
لتستلقي هناك،، وتمدد جسها المُثقل بالحمل،، لعلها تجد الراحة بين ثناياه..
وما هي إلاَّ ثوانٍ معدودة،، حتى غاصت في النوم..
________________________
في شركة مارك هيوستن للتسويق.. تلك التي تقع بعيداً في الدور الخامس،، يجلس أمام المكتب رجلٍ أنيق مهذب مهندم يفتعل الإبتسامات مما يجعل جاك يدير عينيه دورة كاملة ويتأفف..
"مم حسناً،، أنت -ينظر في البطاقة الشخصية المزورة- أنت جاك فريدريك إذاً.. تريد العمل ولا تملك شهادة جامعية"
"أنا ممتاز في استعمال تكنلوجيا الحاسب إن أردت.."
بغرور ابتسم "أهمم وما هي مؤهلاتك أيضاً؟!"
"أجيد كل شيء وأي شيء إن أردت"
"هل تجيد التنظيف؟!" قالها بسخرية.. ثم قهقه عالياً وغير السؤال فور رؤيته نظرة جاك المخيفة "أحمم إذاً.. هل تجيد لغة أخرى غير الإنجليزية؟!"
"أجيد الروسية الفرنسية الألمانية والأسبانية"
تعجَّب الرجل "إجادة تامة؟!"
أومأ جاك بثقة "أجل" فهو لن ينسى كيف قام والده بجعله يتقن هذا الكم من اللغات في فترة وجيزة.. رغم أنه إلى الآن لا يعرف سرَّ اهتمام والده بهذه التفاصيل..
"سأجري لك اختبارا وإن نجحت فسيتم قبولك.. سأرسل لك الميعاد عبر البريد الإلكتروني"
"جيد" قام من فوره وصافحه الرجل،، ثم رحل..
لا يجول في ذهنه سوى كيف يعمل ويتوقف عن أخذ المال من والدته التي باتت كبيرةً الآن.. ويسرع في سيارة الأجرة الصفراء إلى منزله مشتاقاً لإبنته وقرة عينه..
والتي لم تترك بقعة على طاولة الفطور إلاَّ وألقت الطعام فيها أو بسقته أو قلبته في غضبٍ عارم تصرخ في وجه بيير..
"أؤؤأؤؤ يا إلهي أرجوكي اهدئي"
تعالت صراخاتها الساخطة عليه وألقت بالملعقة في وجهه ليغدو كالأحمق يرجوها أن تهدأ ويغني لها أغانٍ لطيفة ،،يرقص كالمهرج ويرجوها أن تتوقف..
فيدخل جاك المنزل على وقع صراخها.. وعندما رأته سكتت فوراً وتبعته عيناها بعبوس ترفع إليه يديها ليحملها..
فيحملها معاتباً "ألم أقل لكي أن تكوني مهذبة مع العم بيير؟!"
ابتست بلا أسنان محدقة في عينيه ومرَّغت رأسها في حضنه ليحملها معه إلى غرفته فقد حان وقت النوم..
تنهد بيير براحة وشرع بتنظيف السفرة وغسل الأطباق..
"جاااك.. جاااك"
أجابه جاك من الأعلى وهو يلقم ابنته زجاجة الحليب
"ماذا؟!"
"هل تذكر أن والدك ستأتي بعد الغروب اليوم؟! أم نسيت كالعادة؟!"
"لا لم أنسى"
يجفف الأطباق قائلاً "إذاً تعالَ وساعدني في تنظيف المنزل"
"ماذا؟!.. لا أسمعك"
"المنزل المنزل،، تنظيف المنزل"
يهزُّ ابنته الرضيعة "لا أسمع"
ترك بيير الأطباق وصعد على الدرج بمئزر المطبخ المليء بالقلوب الوردية.. فأسرع جاك لإغلاق الباب
في وجهه..
"جاك تعال على الأقل ونظف الفوضى التي افتعلتها امس في غرفة الإستقبال"
"هذا منزلك"
"ج جاك أنت ظالم"
- صوت الجرس -
"ها هي أمك قد حضرت ستوبخك ككل مرة تأتي فيها.."
"لا يهمني"
نزل بيير إلى الطابق السفلي ليفتح الباب..
فيجد امرأة طويلة ترتدي ثوباً أسود وقلنسوة سوداء،، لم يفزع فهو يعلم مَن تلك الجميلة وذلك الضخم الوسيم المرافق لها.. إيدوارد زوجها..
"تفضلا" قالها بارتباك وأفسح لهما..
فانحنت والدة جاك إلى الأمام لتقبيل جبهته وصافحه إيدوارد،، فشعر بالثناء والخجل..
تجرُّ ثوبها الأسود على درجات السلم وصولاً إلى غرفة جاك،، تنزل قلنسوتها وتطرق "أنت نائم؟!"
فتح الباب وعانقها "أمي"
مسحت على رأسه بلطف.. ودخلت لرؤية حفيدتها الجميلة قد أحضرت لها من الثياب الكثير..
وجعلت تجرِّب عليها الأصفر والأحمر والزهري،، كطفلة تُلبس دميتها،، تلاعبها وتلتقط لها الصور بمساهدة بيير..
بينما إيدوارد يحادث جيمي..
".. أجل منذ خمسة أشهر انقطعت عنه"
تسائل جاك "ألا تعرفون أي شيء؟! معقول؟!"
قال إيدوارد بيأس "لا.. لقد تمت حضانة أولاده من قِبَل عائلة اتجين،، ومنزل رالف سكنته عائلة كبيرة لرجل يدعى دييجو"
"واتجين؟!"
تنهد إيدوارد بحزن "أخبرني والدها أنها تزوجت برجل ثري"
"ماااذااا!! إنها تعشق رالف"
رفع إيدوارد كتفيه "لا أعرف هذا ما قالوه.. أنت ابتعد عن كل هذا من أجل والدتك وجولي"
انتاب جاك ضيق مفاجئ إذ تذكر غدر شريرين،، وتألم للحظات فقد ظنَّ رالف تعرَّض لنفس الشيء..
لم يكن على دراية بايٍّ مما حدث تحت سقف منزل جراي المظلم..
________________________________
عندما اجتاح الظلام غابات كاليفورنيا الصنوبرية،، وتخلل بين الأشجار وأغصانها..
اختبأت القوارض خوفاً من الليل ومآسيه.. وتحلقت الظلمة حول منزل جراي الصيفي،، تتوقف عند أعتابه المنيرة ببعض المصابيح الصفراء.. إذ بعض الأحشرات تحوم حول ضوئها وحرارتها..
وحدة وقسوة اجتمعا معاً ليجلدا امرأة أثناء المخاض،، اكبدت الكتمان لكن..
انفلتت منها صرخة مريعة سُمِعَ صداها في أرجاء الغابة،، ففزع من الطير ما فزع.. وغادرت الخفافيش
الأجضار المحيطة ،،ولم تمر دقيقة حتى زادت بشاعة ااصراخ!!
تمزّقت حبالها الصوتية وهي تنادي ربها تستنجده.. في ليلٍ أجوف وعلى الأرض بدأت تزحف.. وتعاود الصراخ بكل ما أوتيت من قوة لتبلغ صرخاتها عنان السماء ألماً..
نحو دورة المياه تدخِّر ما تبقَّى من قوتها لعلها تصل إلى الماء.. في عتمة الغرفة يخط جسدها الأرض دماً.. .وتكمل الزحف بصعوبة بالغة حتى تصل يداها إلى أرجل أحد الكراسي..
فتتمسك بها وتحاول الوقوف على قدميها المرتعشتين.. تنزف من الدماء السيول وتستند على الجدار فتسقط أرضاً وتسقط يديها كل ما علا الطاولة من أغراض..
تردد بهوان "ماء.. أريد رشفة ماء"
رسم الالأحمر هلالين تحت عينيها وشعرت أنَّ كلَّ شيءٍ حولها يدور وينقلب.. الجدران تتمايل والأرض تنحدر..
لكن الله نفخ بها قوة جعلتها تقوى على الوقوف والسير بضع خطوات تالية.. تردد أمنية الخلاص على لسانها،، وتلج بأقدامٍ دامية أرضية الحمام..
تبحث عن مفتاح الضوء،، فتتحسس الجدران بيديها الخائفتبن حتى تلمس بروزه فتضغط،، لتنتير الأضواء فوق رأسها وترشد عينيها إلى الحوض..
تركن على رخام المغسلة حتى تصل بعد عناء إلى حوض الإستحمام.. فتفتح صنبوره وتدع المياه الدافئة تملأه..
تأخذ عدة شهقات،، وتتنزل بجسدها في الحوض،، تشرب بيدها بعض الماء ويستقر الوضع..
فتبتسم ناظرةً للأعلى،، موقنةً أنها آخر أنفاسها.. فلا أحد بجانبها سوى الفراغ..
لكنها ستُخرج ذاك الطفل بسلامٍ أولاً..
"هيا اتجين.. هيا أنتي تستطيعين"
همست بذلك لنفسها مواسيةً ضعفها..
وتعالت الصراخات تباعاً.. لوقتٍ طال وطال،، ارتفعت تخبت تارة وتعلو أخرى،، تكاد الجدران تتصدع من قسوة الحدث.. حيث استلقت وجعلت تشد على قبضتها بقوة..
تمر ساعة من المخاض وهي غير قادرة على فعل شيءٍ سوى الصراخ..
وظلَّت هكذا،، طيلة الليل.. مع مرور الساعات والأنين.. حتى اعتادت المخلوقات تلك الأصوات العنيفة والمتألمة لأمِّ تجاهد من أجل حياة ابنها..
وسكنت الصنوبريات إلى جحورها الغائرة..
وسكن الصوت والمكان.. لا حسيس ولا حراك لبقية الليل..
كل شيءٍ انطفأ فجأة،، وكل الوهج والأنين..
ومرت أنسامٌ باردة تهزهز أغصان الشجر تحت غطاءٍ من النجوم..
في سوادٍ وصمت ..
حتى مطلع الفجر على وجه امرأة ميتة محاطتٍ بالماء،، يعلو صدرها طفلٌ نائم .
_________________________
TO BE CONTINUED..
يمشي بين الحشائش عند الشروق تسبق خطواته عصاه..
رجلٌ ضخم الجثة مفتول العضلات،، لحيته طويلة لم ينظر إليها منذ فترة.. ويكمل المسيرة حتى يصل إلى أعتاب أملاك زيميركوف بلينسكي ومنزله الفاره..
قلنسوة سوداء تغطّي جانبي وجهه.. وخطواتٌ واثقة تعرف ما تفعل.. يرفع بصره نحو المنزل إذ يعلو الضباب سطوحه وتحيطه أشجار فارعة..
يتقدم تتكسر الأغصان تحت حذائه الضخم.. ويلف جسده أكثر بسواد ثيابه،، ويهمس بالكثير من الكلمات التي لا يمكن أن يسمعها سواه..
حتى يصل إلى إلى بقعة ما يقرر فيها التوقف للحظات ومراقبة النوافذ،، أحدها مفتوح تطل منه أطراف ستائر بيضاء..
فيعود خطوتين للخلف..
ثم يندفع راكضاً بسرعة فائقة،، ليبدو كطيرٍ أسود أو شيطان!!
ويختفي بين شجيرات الحدائق فالجدران.. وكأنه قد دخل بطريقة ما إلى داخل المنزل!! يطل من تلك النافذة المفتوحة ويغلقها..
وبينما الطفل يضطرب ويُسمع أنينه فوق أمه الراقدة،، يحاول التسلق إلى صدرها المكشوف لعله يمتص آخر قطرة له من حليبها.. قبل أن تختفي من وجوده..
فيصرخ ويتحرك بسخطٍ على حالها،، حتى تحلُّ عليه ظلال،، لكن من نوعٍ آخر..
مدَّ الغريب يديه ليأخذه..
ويكون على ما حلَّ بأمه ،، الشاهد الوحيد .
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top