الفصل الثامن والثلاثون: أحفاد الشيطان

رغم ظروفي وانشغالي حقاً في هذه الفترة، إلا أنني قررت أن أضغط على نفسي وأكمل معكم احداث الجزء الأول على الأقل.

تمنيت أن يكون هذا الفصل بالذات أفضل مما هو عليه الآن، لكنني آمل أن ينال إعجابكم رغم ذلك.. إنه أطول وأهم فصل ربما كتبته حتى الآن، وهو مربوط بأحد أهم اسرار الرواية الذي سيكشف عنه لاحقا. كما أنه يحكي عن ماضي كارل وهاري❤

هذا الفصل سيكون مختلفا عن باقي فصول الرواية، فهو سيتم سرده على لسان كارل بدلا من أن أصف انا الأحداث..

أرجو ان يعجبكم الفصل، وستسعدونني حقا إذا ما علقتم على أحداثه😍🥺

*****

قبل خمسة عشر عاماً من بداية أحداث الرواية

ما إن صرت أكثر وعياً وإدراكاً لما حولي، علمت في لحظة ما أنني كنت مختلفاً جداً عن أقراني.

في البداية لم أهتم لذلك الأمر كثيراً، ولكنني بمرور الوقت صرت أشعر بمدى عمق تلك الفجوة التي تفصلني عن الأطفال الآخرين في مثل سني.

لم أكن أعلم أن حقيقة كوني أتقنت التحدث بشكل كامل قبل أن أتم السنتين من عمري، ولا أنني صرت أتحدث بثلاث لغات مختلفة في سن الخامسة لم يكن أمراً عادياً أبداً. حتى قدرتي على حل العديد من المسائل الرياضية المعقدة، والأحجيات الصعبة في طفولتي المبكرة، لم يكن بالنسبة لي أمراً غريباً أبداً، لكن يبدو أنه كان كذلك في نظر من حولي.

لقد اعتدت أن أراقب الأطفال الآخرين بسرية دائماً. طريقة تفاعلهم مع بعضهم البعض، والألعاب السخيفة التي يلعبونها معاً.
لم يكن مسموحاً لأحد بالاقتراب مني، فأنا ابن تشادولي الذي لا يجرؤ أحد على مضايقته بأي شكل من الأشكال!

لكن ما لم يعلمه أحد، هو أنني كنت أرغب دائماً في أن أعيش مثلهم. أردت أن ألعب وأضحك دون أن أبالي بأي شيء. لم أرد يوماً أن يخاف مني أي أحد، ولم تكن تعجبني أبداً تلك النظرة المرتعبة في وجوههم إذا ما قامو بلمسي، أو اصطدموا بي بالخطأ.

أردت أن أكون مثلهم..أن تأتي أمي لتراني وأنا أرقص كالأبله إلى جانب رفاقي على المسرح في الحدث الترفيهي للروضة، وتلوّح لي بلا داعي كما تفعل الأمهات الأخريات.

أردت لأبي أن يكون متواجداً كالآباء الآخرين في اجتماع أولياء الأمور، وفي الأنشطة المدرسية المختلفة. لكن تلك كانت رغبات لطالما أبقيتها في داخلي، دون أن أجرؤ على أن أبوح بها لأحد.

لا أذكر أبداً أن والدي قد تحدث معي يوماً، أو اقترب مني حتى. ووالدتي أيضاً..كانت تمر أسابيع أحياناً دون أن أراها. وحتى في الأوقات القليلة التي نلتقي فيها، لم تكن تتحدث معي أبداً أو تسأل عني وعما أفعله.

كان هناك الكثير من الأطفال الذين يغبطونني، ويتمنون لو كانوا مكاني. لقد كنا أثرياء جداً وأقوياء إلى الحد الذي جعل الجميع يحسدوننا، ويخافون منا في الوقت ذاته. لكن أحداً لم يكن يعرف مدى الظلام الذي يحيط بعائلتنا ذات الروابط المحطمة. كنت ذكياً جداً وواعياً رغم صغر سني، وأعلم أكثر من أي شخص آخر كم كانت عائلتنا مفتتةً داخلياً.

حتى علاقة أبي وأمي لم تكن كأي علاقة بين شخصين متزوجين، فقد رأيت والدي مع نساء مختلفات أكثر من مرة. هو لم يكن يخجل من إحضار نسائه أمام زوجته وطفله الوحيد، والتغزل بهن، وملامستهن بحقارة دون أن يكترث إطلاقاً.

كان ذلك سيؤثر في نفسية أي طفل آخر، لكنني بت معتاداً على هذا إلى الحد الذي لم أكن أبالي فيه بما يفعله أبداً. ففي نظري، كان الأمر مقززاً لا أكثر.

لكن في مساء ذلك اليوم، شيء ما تغير. فلأول مرة منذ أشهر، كان كلا والداي حاضران معاً في غرفة واحدة!

عندما دخلت غرفة الجلوس بمنزل والدي، قامت والدتي من مكانها ووقفت أمامي، تعلو وجهها تلك النظرة الباردة الخالية تماماً من المشاعر.

لقد مضت ثلاثة أشهر ربما على آخر مرة رأيتها فيها. بدت جميلة كالعادة رغم عينيها العسليتين الميتتين اللتين لم تنظرا نحوي بود ولو للمرة. لكن كان هناك شيء ما قد تغير بها، وقد استطعت ملاحظته على الفور...أجل..لقد كانت بطنها منتفخة بشكل واضح!

عندما تصبح المرأة هكذا، فذلك يعني أنها تحمل جنيناً في داخلها. وذلك الجنين سيصبح أخي أو أختي! عندما أدركت تلك الحقيقة شعرت بالسعادة حقاً. إذا ما ولدت أمي طفلاً، فذلك يعني أنني لن أكون وحيداً بعد الآن!

لكنني لم أظهر مشاعري لها أبداً. كنت أنظر لها بجمود كما أفعل دائماً. أما هي، فقد انحنت نحوي لتجلس أمامي على مستوى بصري، وتقول بابتسامة خبيثة بعد أن وضعت يدها على رأسي "كارلوس، من الآن فصاعداً ستتنقل للعيش في المنزل الرئيسي للأسرة. طفل ذكي مثلك مكانه ليس هنا في مارسيليا."

ثم اقتربت مني أكثر قبل أن تهمس قرب أذني بمكر "فلتذهب إلى هناك، ولتهزم جميع أبناء أعمامك وعماتك لتصبح أنت الوريث الوحيد لأسرة تشادولي في عيني جدك!"

لم أفهم جيداً يومها ما عنته كلماتها تلك. لكنني إذا ما علمت في ذلك الوقت ما قصدته بالتعليم الملائم لشخص مثلي، لتمنيت حقاً أنني مت قبل أن أدخل لذلك القصر، حيث المقر الرئيسي لأسرة تشادولي.

نظرت لبطن والدتي مجدداً. إذا ما رحلت إلى باريس، فلن أكون قادراً على لقاء الجنين الذي ينمو في أحشائها الآن.

أريد أن أراه، أريد أن أصبح أخاه الأكبر، وأعتني به بعد أن يولد. لا أريده أن يعيش وحيداً مثلي..لا أريده أن يكبر وهو محاط بالخدم فقط مثلما عشت أنا.

نظرت إليها لأسألها للمرة الأولى في حياتي "بعدما تلدين...هل سيأتي ذلك الطفل إلى باريس هو أيضاً؟"

بدت متفاجئة جداً من سؤالي. ولكن سرعان ما تبدد التفاجؤ من وجهها، لتجيب ببرود دون أن تبدو مهتمةً أو واثقةً حقاً مما تقول "إذا ما كان ذلك الطفل ذكياً مثلك، فسوف يأمر جدك بإحضاره إلى القصر الرئيسي هو أيضاً. لا تدع ذلك يشوّش تفكيرك الآن. كل ما عليك الاهتمام به هو إثبات قدراتك لجدك حتى يختارك أنت كوريثه القادم. أهذا واضح؟"

نظرت لبطنها للمرة الأخيرة، قبل أن أقول في نفسي وأنا أخاطب ذلك الجنين الذي كان أملي الوحيد في أن أحظى بعائلة مثل أي شخص آخر "فلتكبر بسرعة، ولتأتي أنت أيضاً..."

وتلك كانت المرة الأخيرة التي رأيت والداي فيها.

••••••


المنزل الرئيسي للأسرة كان أكبر من منزلنا في مارسيليا بمئات المرات. كان هناك الكثير من الخدم في استقبالي. وعلى رأسهم أمام المدخل، وقف ذلك العجوز الملامح الباردة، والمخيفة في الوقت نفسه.

بدا قوياً جداً وواثقاً من نفسه لأبعد الحدود. أستطيع الشعور بذلك الجو الثقيل من حولي، حيث بدا الخدم متوترين جداً بينما انحنوا جميعاً لي، ولهذا الواقف أمامي بهيبته وهالته المرعبة.

إذا فهذا هو كبير ورئيس أسرة تشادولي؟ الرجل الأقوى والأخطر في فرنسا. الإنسان الذي يخافه الجميع، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أبداً.

وقفت أمامه بينما انظر إليه بفضول. لكنه ابتسم بخبث فجأة وقال بتلك الابتسامة التي بثت الرعب في داخلي "أهلا بك كارلوس.. لقد سمعت الكثير عنك. سوف نعيش معاً منذ الآن فصاعداً. أرجو أن نهتم ببعضنا جيداً في المستقبل.."

قال ذلك ومد يده نحوي، بينما لم تتغير تلك النظرة المخيفة في عينيه أبداً.

مددت يدي المرتجفة نحوه..نحو ذلك الرجل الذي أقابله لأول مرة في حياتي. الرجل الذي دمّر طفولتي، وسلب مني فرصتي للعيش مثل أي طفل آخر..

.
.
.

إذا ما كنت معزولاً من قبل، فأنا وما إن دخلت ذلك القصر صرت معزولاً عن العالم المحيط بي أكثر وأكثر.

لم أعد أذهب للمدرسة كما في الماضي، ولم أعد أرى الأطفال الآخرين من بعيد كما اعتدت أن أفعل. بل إنه تم حبسي في غرفتي الخاصة التي تم ربطها بمكتبة كبيرة جداً احتوت آلاف الكتب المختلفة.

يومياً كان يزورني أساتذة مختلفون، يستمرون في تعليمي أشياء مختلفة وكثيرة جداً. علوم الرياضيات، الأدب، الفلسفة، الاقتصاد، اللغات، الإدارة، السياسة. بل حتى علم النفس وقراءة الوجوه، التحكم في الذات، والتمثيل أيضاً.

لم يكن يسمح لي باللعب ولا بالتواصل مع الآخرين أبداً. كان عليّ التركيز في دراستي، وتطوير نفسي فحسب. ولسنتين كاملتين، كنت أخرج لساعة في اليوم فحسب حتى أتعرض لضوء الشمس ربما، بينما أقضي بقية يومي في الدراسة لساعات متواصلة، أو النوم والراحة في ساعات محددة.

استمروا في تلقيني مواضيع علمية طوال ذلك الوقت، إلى أن صرت أتفوق على الكثير من البالغين في علوم كثيرة جداً.

كل من قام بتعليمي، كانت الفكرة الأساسية التي أراد غرسها في داخلي هي أنني مختلف عمن حولي.

أنني أسمى وأعلى من الجميع، ولا يجب أن يتم المساواة بي مع أحد أبداً. لقد تم فعل ذلك للعديد من أبناء عمومتي، لكنهم لم يستطيعوا تحمل ذلك الضغط أبداً.
كمّ الدراسة والمعلومات التي كنت أتلقاها كل يوم، هو شيء لم أستطع إلا أنا أن أحتمله وأستوعبه. لذلك تم استبعادهم نهائياً من أن يصيروا المرشحين للوراثة. وصرت أنا كما أرادت والدتي، المرشح الوحيد على الإطلاق.

وبعد أن تم عزلي لوقت طويل جداً، بدأ جدي يأمرني بالخروج في أمسيات العائلة. فقد كان عليهم التعرف على الوريث القادم الذي سيحكمهم جميعاً يوماً ما.

وقف خلفي قبيل دخولنا عبر الباب المؤدي إلى غرفة الطعام حيث يجتمع أفراد العائلة، ليقول بعد أن وضع كلتا يديه على كتفي "اسمع جيداً كارلوس. حتى أولئك الخنازير في الداخل، ما هم إلا أتباع لك يمكنك سحقهم كما تشاء. سوف يتوددون لك، وسوف يحاولون كسب رضاك، لكن عليك أن تجعلهم يدركون جميعاً أنهم يعيشون في هذا العالم تحت قدميك. لست في حاجة لأي أحد، لست في حاجة لأن تشعر بأي شيء، فالمشاعر تجعلك ضعيفاً فحسب. هل فهمت؟"

لا تشعر بأي شيء ، ولا تهتم بأي شيء.

كانت تلك من الأمور الأساسية التي تم زرعها في داخلي منذ أن وطئت قدمي أرضية هذا القصر. إذا ما شعرت بشيء ما، فسوف أصير ضعيفاً فحسب. لكن هل يمكنني ذلك حقاً؟ هل يمكنني قتل المشاعر في داخلي كما أراد فعلا؟

لما دخلت إلى تلك الغرفة، التفت الجميع نحوي على الفور. لقد كنت أعيش معهم في منزل واحد لسنتين كاملتين، لكنها المرة الأولى التي أراهم فيها.
بحسب ما تم إخباري به، فلدي ثلاثة أعمام، وعمتين. بالإضافة إلى ثلاثة عشر بين ابن وابنة عم وعمة.

جدتي قد توفيت منذ عدة سنوات، وقد تزوج جدي من امرأة أخرى تصغره بما يزيد عن ثلاثين عاماً! تلك المرأة لم تنجب أي اطفال أبداً، لذلك لم تكن مهمةً بالنسبة لجدي، فهي الأقل مكانة في العائلة لأنها وكما قال..بلا فائدة..

رغم أن لجدي وأعمامي علاقات غير شرعية كثيرة جداً، إلا أن وجود الأبناء الغير شرعيين أمر غير مسموح به أبداً في عائلة تشادولي.

إذا ما حملت امرأة ما من أحد رجال تشادولي، فسيتم إجبارها على الإجهاض فوراً، لأنه لا يسمح أبداً لهذه الطبقة الدنيئة بأن تحمل دماء تشادولي المقدسة كما يقولون.

تلك كانت واحدةً من القواعد الكثيرة والأساسية لدى أسرة تشادولي التي ورغم عراقتها، إلا أن أفرادها قليلون جداً في الواقع.

الوريث يجب أن يتم اختياره بعناية، وهناك فرص متساوية جداً بين الأفراد الحاملين لدماء تشادولي بأن يرثوا هم لقب رئيس العائلة، طالما استطاعوا إثبات قدراتهم بجدارة. وفي الجيلين الأخيرين، كنت أنا المرشح الوحيد.

سرت نحو مكاني في الطاولة بالكرسي المجاور لجدي، دون أن ترتسم على وجهي أي تعابير على الإطلاق.
كان الجو ثقيلاً جداً ومضطرباً، وأستطيع الشعور بأفراد العائلة وهم يسترقون النظر نحوي.

جلس بمكانه على رأس الطاولة، ثم تكلم بنبرة قوية واثقة جعلت الجميع ينظرون نحوه بشيء من الرهبة " أقدم لكم المرشح الأول لرئاسة العائلة..كارلوس تشادولي. ما يزال هناك الكثير الذي يجب على كارلوس أن يتعلمه قبل أن يصبح رئيساً للعائلة، لكنه الوحيد حتى الآن الذي أثبت جدارته كوريثي القادم. أتوقع أنكم ستسمرون في دعمه الآن وفي المستقبل أيضاً."

لم يبد أنهم مسرورون بوجودي، لكن أحداً منهم لم يجرؤ على التفوه بأي شيء. أستطيع أن أرى أن أعمامي وعماتي قد أرادوا من أبنائهم هم أن يكونوا في مكاني، لكن يبدو أن ذلك كان محض حلم لن يناله أي أحد.

لم أكن أعلم ما إذا كنت أريد حقاً أن أغدو رئيساً للعائلة أم لا، فأنا لم أعد أفهم ما الذي أشعر به بعد الآن.

لم أعد أشعر بالوحدة كما كنت من قبل، ولكن ليس لأنني لم أعد وحيداً، بل لأن كل شيء في داخلي صار ضبابياً تماماً.

صار التفريق بين المشاعر أمراً صعباً جداً بالنسبة لي إلى الحد الذي جعلني أتوقف عن الشعور تماماً. ظننت أن كل شيء في داخلي قد مات بالفعل، إلى أتى ذلك اليوم الذي استدعاني فيه جدي لحجرته ذات مساء.

كان جالساً على الأريكة، بينما كانت هناك امرأة شابة جالسة على فخذه وقد ارتدت ملابس فاضحة جداً، بينما طوقت رقبته بيديها..

سألته دون أن تتغير تعابير وجهي على الإطلاق "ما الأمر جدي؟"

شرب من كأس النبيذ في يده، قبل أن ينظر نحوي لبعض الوقت. لكنه تكلم أخيراَ وهو يرخي جسده على تلك الأريكة "كارلوس...أظن أنه قد حان الوقت لتتلقى دروساً عملية حول ما كنت أعلمك إياه طوال الوقت. "

كنت انظر نحوه فحسب وأنا أترقب بصمت إلام سيقود كلامه هذا. إلى أن ألقى بذلك الكأس المليء بالنبيذ الأحمر على الأرض، فتحطم زجاجه إلى قطع صغيرة، بينما انسكب كامل محتواه على الأرضية الرخامية مبللاً جزءً من السجاد الفاخر ذي الألوان المزركشة.

دفع ساقه للأعلى مشيراً لتلك الفتاة بالابتعاد عنه، فوقفت بسرعة بعيداً عنه وهي تنظر إلى الأرض في توتر. لكنه تكلم فجأة بعد أن وضع رجلاً على الأخرى، بينما ينظر نحوها ببرود قاتل "امسحي الأرضية بلسانك.."

اتسعت عينا الفتاة وهي تنظر نحوه بصدمة، لكنها قالت بصوت راجف من الرعب" لكن سيدي الرئيس الزجاج..."

قاطعها لما كرر كلامه قائلاً بحدة هذه المرة "قلت أن تنظفي الأرضية بلسانك، ألم تسمعي كلامي؟! أنتِ تعرفين جيداً ما الذي يعنيه معارضة عائلة تشادولي!"

انتفضت الفتاة في مكانها برعب، لكنها جلست على ركبتيها أرضاً بينما ترتجف بخوف شديد.

نظرت إلى الأرضية المليئة بقطع الزجاج المحطم، وقد تجمّعت الدموع في عينيها. لكنها زحفت نحو النبيذ المسكوب بجسد راجف، لتنحني إلى جانب قدم جدي وتبدأ في لعق النبيذ متجاهلةً حطام الزجاج الذي أخذ يجرح لسانها دون رحمة.

كنت مصدوماً جداً لما أراه أمامي الآن. لم أعرف حقاً كيف أشعر، لكنني كنت أرتجف بقوة.

لم يكتفي بهذا فحسب، بل إنه شد شعرها بقوة ليرفعها ناحيته بعنف. كان فمها ينزف دما، بينما تلطخ وجهها المليئ بالمساحيق بدموعها المرتعبة، والمتألمة في الآن ذاته.

ابتسم لمنظرها بسادية مخيفة، ليرفع قطعةً كبيرةً من الزجاج من على الأرض، ثم يمرر سطحها الأملس على وجهها ببطء ويقول بهدوء مرعب "أخبريني يا عزيزتي..كيف سيبدو شكلكِ إذا ما زينت وجهكِ بهذه بدلاً من تلك المساحيق السخيفة؟ ألا ترين ذلك؟ لقد ذابت ما إن ذرفتِ القليل من الدموع.."

ثم ابتسم وأردف بنبرة مرعبة "إن هذه لن تختفي أبداً مهما فعلتِ، ألا تظنين ذلك؟"

انتفضت الفتاة برعب أكبر، لتتوسله برجاء وهي تبكي وتهز رأسها نافية "لا..لا..أرجوك ألا تفعل هذا. أرجوك أن تعفو عني، أرجوك ألا تؤذيني...أرجوك!"

لكن رجاءها لم يحرّك في قلبة ذرة شفقة ولا رحمة. بل إنه أخذ تلك القطعة الزجاجية ليغرسها في خدها، ويبدأ يتمريرها على سطح جلد وجهها بالكامل، دون أن يبالي بصرخاتها المتألمة، وبتوسلاتها اليائسة بأن يتركها.

صرخاتها تلك اخترقت طبلة أذني، بينما جعلتني غير قادر على الوقوف بعد الآن. كان تنفسي يضيق ويضيق، وقد أخذ قلبي ينبض بقوة أكبر.

أغلقت عيناي بقوة، وغطيت أذناي بكلتا يداي بينما أحاول إبعاد صوتها الذي اخترقني وأخذ يحرقني من الداخل.

لكن صراخه أيقظني من نوبة الذعر التي اجتاحتني لما قال آمراً بحدة " لا تغلق عيناك ولا أذناك أبداً. عليك ان تنظر لهذا، عليك ان تحفر هذا المنظر في ذاكرتك جيداً!"

ثم قام من مكانه بعد أن رمى الفتاة أرضاً وسط دمائها. ليسير نحوي، ويقف خلفي، ثم يضع كلتا يديه على كتفي بقوة.

تكلم إلى جانب أذني من الخلف بعد أن أمسك ذقني بقوة ليجبرني على النظر إليها "يمكننا التحكم بالبشر إلى هذا الحد..لا أحد سيحاسبك أبداً حتى لو فعلت شيئاً كهذا. إن هذه هي قوتنا كارلوس، هذا ما يعنيه أن تكون رئيس تشادولي، فكل كائن يعيش داخل فرنسا سيكون تحت قدميك، وكل من يعيش في هذا العالم سوف يخشاك وينحني لك..."

ثم أمسك برسغي ووضع قطعة الزجاج الملوثة بالدماء في راحة يدي، ليقول آمراً بصرامة "فلتفعل ذلك كارلوس. فلتري العالم من تكون، فلتجبر الجميع على الإنحاء لك، والخوف منك كلما رأوك!"

حركت رأسي نافياً بينما لم أقو على قول أي شيء. فضغط على أسنانه بقوة، ثم جرني نحو تلك الفتاة المرمية على الأرض ودفعني نحوها لأقع على ركبتي أمامها.

جلس إلى جانبها، ثم شد شعرها ليرفعها نحوي، ويقابل وجهي بوجهها الدامي..

لا يمكنني أبداً نسيان عينيها المرتعبتين اللتين نظرتا نحوي برجاء.

كانت تتوسلني بعينيها بأن أتركها واعفو عنها. كنت أرتجف في مكاني دون أن أعلم ما الذي علي فعله، لكن صوته جعلني انتفض بفزع لما صاح بي بغضب عارم "كارلوس فلتفعلها! أنت الرئيس القادم لأسرة تشادولي...لا يمكنك أن تشفق على حثالة كهذه. البشر الآخرون لا يعنون لك أي شيء. لا ترحم أحداَ، ولا تكترث لأي أحد.. "

كانت أسناني تصطك ببعضها، وجسدي يرجف بقوة..

لكنه لم يبالي أبداً بخوفي. أخذ يردد بإصرار وهو يقرب تلك الفتاة مني أكثر وأكثر " هيا كارلوس، لا يجب أن تشفق على مخلوقات تافهة كهذه. يجب أن تجعلهم جميعاً ينحنون لك. أنت كارلوس تشادولي..رئيس عائلة تشادولي القادم!"

كلماته تلك ظلت تتكرر في ذهني مرةً بعد الأخرى.

تبادرت لي وجوه جميع الأساتذة الذين لقنوني الشيء نفسه. وجه أبي وأمي لما قالا لي الكلام ذاته أكثر من مرة..

أنت أفضل من الجميع. البشر لا شيء بالنسبة لك. لا ترحم أحداً، لا تهتم بأحد، ولاتشفق على أي أحد.

لا تشعر...لا تشعر...لا تشعر...

صدى تلك الكلمات ظل يتردد في داخلي تدريجياً حتى صار يعلو ويعلو. والأفكار التي زرعها الجميع في داخلي ظلت تطفح في عقلي حتى غزت فكري تماماً.

وفي لحظة ما، شعرت كما لو أن شيئاً ما في داخلي قد تحطم.

ربما هي روحي، ربما هي براءتي وطفولتي التي سلبتها مني عائلتي. ربما هي تلك الرغبة في داخلي بأن أعيش يوماً حياةً طبيعية مثل أي طفل آخر. حيث دفء الأم، وحنان الأب اللذان لم أشعر بهما يوماً.

صرخت بأعلى صوتي، لأرفع الزجاجة وأغرسها في أماكن متفرقة من جسد تلك المرأة، بينما لم تتوقف دموعي عن الانهمار أبداً..

كنت أصرخ كالمجنون بينما أطعنها عدة مرات وأنا غير قادر على رؤية أي شيء، ولا الإحساس بأي شيء. إلى أن أوقفني جدي الذي شد كلتا ذراعاي وقال بلا مبالاة" ذلك يكفي، سيكون الأمر مزعجاً إذا ما ماتت.."

لم أكن أستمع إلى ما يقوله. كانت أنفاسي تعلو وتعلو بينما بللت الدموع كلتا خداي وأنا أرجف بقوة..

يومها، لم تكن تلك المرأة هي من ماتت بل أنا..

روحي، قلبي، وذلك الأمل الواهن الذي ظل صامداً في داخلي رغم الجحيم الذي كنت أعيشه.

لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي أجبرني فيها على فعل أشياء فظيعة كتلك، بل إنها كانت البداية لأفعال أكثر وحشية وقسوة لا أريد تذكرها حتى.

أراد أن يتأكد من أن يقتل كل الإنسانية في داخلي لأجل أن أغدو الوريث الذي أراده. مهما بكيت، مهما تألمت، مهما تحطمت روحي آلاف المرات بعد كل شيء أجبرني على فعله، لم يتغير أي شيء..

لذلك فقدت الأمل تماماً. غلّف اليأس قلبي، لأغدو بعدها كالدمية في يديه، يحركها كيفما شاء.

ظننت أن الأمور ستظل هكذا حتى أتى ذلك اليوم، اليوم الذي التقيته فيه لأول مرة.

كان واقفاً إلى جانب جدي الذي دخل إلى غرفتي.

طفل صغير أظنه في الرابعة من العمر، بعينين عسليتين ذكرتاني بعيون والدتي التي نسيت وجهها تماما.

لكن تلك العينان الجميلتان بدتا خاليتان تماماً من المشاعر إلى الحد الذي أشعرني بالرعب حقاً..

تكلّم جدي وهو يقدمه لي بنظرة فخر في عينيه "كارلوس، فلتلتقي بهاري. إنه شقيقك الأصغر، ومنذ الآن فصاعداً ستبقيان معاً دائماً. إنه مثلك تماماً، مرشح لرئاسة عائلة تشادولي في المستقبل"

شقيقي الأصغر؟ آه ذلك صحيح. كدت أنسى أن تلك المرأة كانت حاملاً في آخر مرة رأيتها فيها.

نظرت لذلك الطفل مجدداً. عيناه العسليتان الباردتان، وشعره الأسود الحريري جعلاني أشك في أنه أخي حقاً. لم نكن نشبه بعضنا في شيء أبداً، ربما باستثناء تلك النظرة الخالية تماماً من الحياة.

إذا ما قدمه لي كمرشح لرئاسة العائلة، فذلك يعني أنه تلقى نفس التعليم الذي تلقيته بالفعل، وإلا لم يكن ليعترف به أبداً.

لكن مع هذا أجد الأمر غريباً جداً. أعني...ذلك الطفل أصغر مني بكثير، فكيف يمكن أن يعترف به بهذه السرعة؟!

لكن جدي غادر الغرفة دون أن يضيف كلمةً أخرى، ليتركني وحيداً مع هذا الطفل.

ظل واقفاً مكانه بينما يحدق بي بصمت دون أن يتحرك أو يقول أي شيء. كانت الأجواء بيننا متوترة جداً، ولم أعرف حقاً كيف يفترض بي أن أتعامل معه. فسألته  بينما أحاول أن أكسر ذلك الصمت بيننا "منذ متى وأنت هنا؟"

فأجاب هاري ببرود شديد "سنتين"

ليعم الصمت بيننا مجدداً.

أذكر أنني كنت متحمساً جداً لولادته قبل سنوات. لكنه بعد أن صار أمامي الآن، لم أعد أعرف حقاً كيف أشعر اتجاهه. سرت إلى المكتبة المتصلة بغرفتي لأسحب كتاباً ما من أحد الأرفف، ثم أجلس على الطاولة الطويلة وسط المكتبة وأقرأه وحيداً في صمت.

استطعت رؤية هاري من زاوية عيني وهو يدخل إلى المكتبة أيضاً ويقلّد ما فعلته تماماً، ثم يجلس أمامي ويبدأ في تصفح كتابه دون أن تتغير تعابير وجهه. أخذت استرق النظر باتجاهه بفضول بين الحين والآخر وهو يقرأ ذلك الكتاب المعقد، دون أن يبدو أنه يواجه صعوبةً في فهمه على الإطلاق.

وهكذا مضت الأيام ونحن هكذا معاً. استمريت أنا في مراقبته سراً، بينما هو بقي بقربي دائماً مقلداً جميع تصرفاتي.

كان المعلمون يقومون بتدرسينا معاً، وقد صار هاري يشاركني الغرفة ذاتها بعد أن تم إحضار سرير آخر من أجله.

لم يتطلب الأمر مني وقتاً طويلاً حتى أدرك أن هاري كان عبقرياً جداً بشكل كان يبث الخوف في قلوب المعلمين حتى. سرعة نضجه وتطوره وإدراكه للأمور من حوله، كانت تفوق أي شخص آخر. حتى أنا كنت لا شيء بالمقارنة به.

هاري كان مثالاً حياً لما أرادني جدي أن أكون عليه. وعاء فارغ خالٍ تماماً من أي نوع من المشاعر، إلى درجة أنني كنت أشعر بالرهبة أحياناً حينما أنظر إليه.. لكنه رغم ذلك،كان قريباً مني دائماً حتى صار ذلك أمراً طبيعياً جداً بالنسبة لي.

لا أعرف كيف أصف علاقتي به، ولم يكن ذلك مهماً بالنسبة لي في الواقع. فكل ما أعلمه هو أنني وبمرور الوقت صرت معتاداً على قربه إلى الحد الذي جعلني لا أحتمل أن أكون بعيداً عنه أبداً.

ذلك اليوم كنا نسير معاً باتجاه غرفة جدي. ومثل تلك المرة، كانت هناك امرأة أخرى برفقته. ومرةً أخرى، فعل الشيء ذاته معها.

الآن صرت معتاداً على ذلك تماماً، لذلك لم تتحرك مني شعرة على الإطلاق لدى رؤيتي هذا المنظر أمامي. لكن ما فاجأني هو أن هاري أيضاً لم يبد متأثراً أبداً رغم أن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها شيئاً كهذا.

وقف جدي أمامه ومد له قطعة الزجاج مثلما فعل لي، ليقول وهو يشير برأسه إلى تلك المرأة الغارقة في دمائها بينما تبكي بحرقة وخوف "فلتفعل ذلك هاري..عليك أن تري العالم أنك الأفضل، وأنه لا أحد يمكن مقارنته بك أبداً.."

نظر هاري إلى الزجاجة في يد جدي لبعض الوقت، ثم إلى تلك المرأة مرة أخرى وقال ببرود شديد "لا أريد أن تتسخ يداي بدماء تلك المرأة."

تفاجأ جدي لما سمع ما قاله، لكنه عنفه قائلاً بحدة "من الضروري أن تفعل هذا، وإلا لن تفهم أبداً معنى القوة المطلقة التي يملكها أفراد عائلة تشادولي!"

فسأله هاري بينما ينظر إليه ببرود " أنت تريد فقط أن ينتهي وجهها مجروحا في النهاية..صحيح؟"

ارتبك جدي لما قال هذا ورد بتلعثم "أنا..ذلك..أعني.."

لكن هاري قاطعه لما مد يده نحوه وقال بنفس تلك النبرة الباردة " أعط هذه لي."

كان جدي ينظر نحوه بحذر، لكنه رغم ذلك مد له الزجاجة وقد بدا مترددا جداً.

أخذ هاري الزجاجة، ثم سار نحو تلك المرأة ليقف أمامها، بينما ينظر نحوها ببرود قاتل. مد لها قطعة الزجاج وقال بجمود "خذي.."

توقفت المرأة عن البكاء للحظة وهي تنظر له بعدم استيعاب. لكنها لسبب ما أخذت منه تلك الزجاجة بيدها المرتعشة.

عندها قال هاري ببرود وهو ينظر إلى عينيها مباشرة "فلتجرحي وجهكِ بهذه كما فعل لكِ جدي قبل قليل.."

اتسعت عيناها بصدمة ما إن قال هذا. عندها تعالت ضحكات جدي وهو لم يتوقع أبداً أنه سيفعل شيئاً كهذا.

سار نحوه ووقف خلفه، ليضع كلتا يديه على كتفيه ويقول وهو ما يزال يضحك "أحسنت صنعاً..يبدو أنني لست في حاجة إلى تعليمك أبداً، فأنت جاهز بالفعل!"

ثم نظر إليه وقال بسادية مخيفة"ذلك صحيح. ذلك ما يجب أن تكون عليه..هكذا يجب أن يكون وريث تشادولي الحقيقي!"

ثم نظر إلى تلك المرأة وخاطبها قائلاً ببرود "فلتذهبي، لا حاجة لكِ بعد الآن."

لم تحتج المرأة إلى كلمة أخرى منه حتى تقفز من مكانها وتنطلق راكضةً مبتعدةً عن تلك الغرفة.

لم أعلق على ما رأيته أبداً. إلى أن عدنا إلى الغرفة، وصرت وحدي أنا وهاري.

سألته بوجل بعدما لم أعد قادراً على كبت نفسي أكثر من هذا "كيف استطعت فعل ذلك دون أن تخاف؟!"

نظر لي لبعض الوقت قبل أن يجيبني ببرود كعادته "لأنني لست مهتماً بأي أحد. البشر الآخرون ما هم إلا مخلوقات زائدة عن الحاجة، وقتلهم أو إيذاؤهم لن يغير شيئاً في مسيرة هذا الكون."

كلماته تلك فاجأتني كثيراً، بقدر ما أشعرتني بالرعب أيضاً..

لكنني سألته وأنا أشعر بالاهتمام حقاً لمعرفة إجابته "وأسرة تشادولي؟ أهم من البشر الآخرين أيضاً؟"

فكر قليلاً قبل أن يجيب بلامبالاة "وأسرة تشادولي أيضاً..إنهم محض خنازير بلا أي قيمة. "

ترددت قليلاً قبل أن أسأله بحذر "وأنا أيضاً؟"

عقد حاجبيه وقد بدا مستاءاً جداً مما قلته. ولأول مرة، أرى تعبيراً مختلفاً على وجهه غير بروده المعتاد.

قال بانزعاج واضح مما قلته "أنت مختلف عنهم"

لم أستطع منع نفسي من أن أسأله في ذلك الوقت "لماذا أنا مختلف؟ إنني من أسرة تشادولي أيضاً!"

فكر هاري قليلاً وقد بدا حائراً جداً من الإجابة. لكنه قال بعد أن يئس من وضع تفسير ما للأمر "لا أعلم لماذا، لكنك مختلف فحسب."

ولسبب ما، ما قاله لي ذلك اليوم أشعرني بالسعادة حقاً..

كبرنا معاً، وصرنا أقرب إلى بعضنا كثيراً. لم نكن نحتاج لأي مخلوق من حولنا، فوجودنا معاً كان كافياً تماماً بالنسبة لنا.

لقد التقينا والدينا أكثر من مرة. لكن بدلاً من أن نتلهف لقربهم، صاروا بالنسبة لنا مثل البشر الآخرين فحسب. وكما قال هاري، مخلوقات زائدة لن يؤثر غيابها في سير هذ الكون أبداً.

لا أريد الخوض في تفاصيل ما جعلتنا أسرة تشادولي نعيشه، ولكن يكفي أن أقول أننا تجرّعنا الجحيم حرفياً وهم يحاولون أن يقتلوا قلوبنا تماماً. هاري وأنا في نظر عائلة تشادولي التجربة الأكثر نجاحاً. المسوخ الأكثر قوة، والأدوات التي سترفع مكانة العائلة كثيراً.

••••••

في ذلك اليوم، كنت أسير برفقة هاري في الحديقة بعد أن كنا نشعر بالملل من الدروس التي صارت بلا فائدة في نظرنا..

لما سرنا أسفل تلك الشجرة القريبة من الحائط الخارجي للقصر، سمعت صوت صراخ ذلك الرجل لما هتف محذرا "لا تقتربا!"

توقفت مكاني أنا وهاري، ليسقط أمامنا ذلك المقص الكبير الخاص بالأعشاب. وبعد برهة، قفز ذلك الرجل الذي بدا في نهاية الأربعينات من أعلى تلك الشجرة ليقف أمامنا، ثم يقول معتذراً وهو يفرك مؤخرة عنقه بينما يضحك بتوتر "اعذراني حقاً يا صغيراي، فقد انزلق ذلك المقص من يدي.."

ثم ابتسم وقال وهو يمد يده نحونا "أنا هينري. أعمل كبستاني هنا منذ شهر. إنها المرة الأولى التي أراكما فيها..هل أنتما ضيوف لأصحاب المنزل؟"

نظرت إلى يده المتسخة والممدودة نحوي، قبل أن أقول وأنا أنظر إليه ببرود شديد "هل تريد أن تتم معاقبتك أم ماذا؟"

بدا الرجل مستغرباً جداً من كلامي، وقال وهو ينظر إليّ بحيرة "عقوبة؟ لكن ذلك كان حادثاً غير مقصود. لماذا أعاقب على شيء كهذا؟"

عقدت حاجباي وقلت بحدة بينما انظر نحوه بتعالي "كيف يجرؤ كائن حقير مثلك على الاعتراض على كلامنا؟"

رفع الرجل كلتا يديه مشيراً لي بالتوقف، قبل أن يقول بعدم استيعاب "هوي هوي، مهلاً يا صغير! ألا ترى أنك الوقح هنا؟ ألم يعلمك والداك كيف تتحدث باحترام مع من هم أكبر منك سناً؟"

نظرت نحوه بحدة لأقول كما لو كنت أخاطب حشرةً أمامي "احترام؟ أنا وريث تشادولي أحترم رجلاً حقيراً مثلك؟ هل تعتقد أننا متساوون حتى تقول لي كلاماً كهذا؟"

ثم عقدت يداي أمام صدري وقلت بنبرة آمرة "فلتركع على ركبتيك أمامي وتتوسلني حتى أعفو عنك. ربما أفكر حينها في السماح لك بالاحتفاظ بعملك."

نظر الرجل إلي بدهشة لبعض الوقت، قبل أن يتمتم بضيق "ما هذه السخافات التي يقوم هؤلاء الأغنياء بتعليمها لطفل مثلك؟!"

ثم سكت قليلاُ وقال بتفكير "قلتما أنكما الطفلين الذين سيرثان عائلة تشادولي؟ لابد أنكما الطفلان المعجزة اللذان تتحدث عنهما الشائعات"

لم أكن أشعر بالارتياح منه لسبب ما. لكنه فاجأني عندما رأيته يسير نحونا، قبل أن يحني ركبتيه أمامنا ليصير في نفس مستوانا البصري، ثم يقول وهو ينظر إلينا بما أظن أنه..شفقة؟

" أتعلمان؟ لا يجب على الأطفال أن يحملوا في عيونهم هذه النظرة الباردة التي تحملانها الآن. على الأطفال أن يكونوا أكثر بهجة، وأن يكونوا مفعمين بالحياة أكثر. لا أن يبدو هكذا كالوعاء الفارغ بلا مشاعر على الإطلاق. لا أعلم ما الذي فعلته عائلتكما لكما حتى تصيرا هكذا في هذه السن، لكنني أستطيع أن أرى أنه كان شيئاً فظيعاً جداً."

ما خطب هذا الرجل بحق؟! لماذا يقول لنا كلاماً كهذا؟ بل لماذا يكترث من الأساس؟!

لماذا أشعر بأن نظراته تلك تخترقني من الداخل، كما لو كان قادراً على قراءتي بتلك العينان الزرقاوان الباهتتان؟ لماذا أشعر بكل هذا الضيق؟ أنا لا أفهم حقاً!

لكنني أجبته رغم ذلك ببرود "لسنا بحاجة لشيء سخيف كالمشاعر من أجل أن نعيش. نحن لسنا مثل أولئك الأطفال التافهين الذين يعيشون حياةً خاوية دون أن يكترثوا لأي شيء. لسنا في حاجة لأحد، لذلك فلتوفر شفقتك هذه لنفسك، فنحن لا نحتاجها أبداَ."

لا أدري لماذا أثرت به كلماتي كثيراً. بدا حزيناً جداً لما قلت هذا، لكن ما فعله لاحقاً كان آخر شيء توقعته على الإطلاق..

اقترب منا أكثر، ليطوق يديه الكبيرتين حول ظهرينا من الخلف، ويضمنا نحوه برفق شديد بينما كان جسده يرجف بقوة..

أخذ يردد بألم لم أستطع فهمه أبداً "إنه ليس خطؤكما...ليس خطؤكما أبداً أنكما ولدتما في بيئة مريعة كهذه...ستكونان بخير. حتما ستكونان بخير!"

تلك الحركة الصغيرة، ذلك الفعل الغير متوقع، وتلك الهمسات المتألمة حركت في داخلي شيئاً أحسه لأول مرة في حياتي.

ربما لو واجه أي شخص آخر شيئاً كهذا، ما كان ذلك ليؤثر به كما أثر بي الآن.

لكن بالنسبة لي أنا..الفتى الذي لم يتذوق طعم الحنان في حياته أبداً. الفتى الذي لم يكن يرى في عيون الآخرين سوى نظرات الحسد، الطمع، المصلحة، والخوف أيضاً. الإنسان الذي لم يسمع في حياته أي عبارة لطيفة إطلاقا، ولم يعامله أحد بود ولو لمرة. أن أشعر بعد كل هذه السنوات بدفء جسد أحدهم ضد جسدي..بالقلق والألم والاهتمام في حديث شخص ما..

أن أرى نفسي كإنسان في عيون أحدهم، أن يعاملني شخص ما ككيان له قلب ينبض، وروح يمكن أن تجرح، كان ذلك غريباً تماماً بالنسبة لي.

ظل قلبي ينبض باضطراب، وتلك الموجة الحارة التي اجتاحتني، وهزت دواخلي بقوة جعلتني لا أقوى على حمل نفسي.

دفعته عني بقوة لأتراجع للخلف فوراً وأنا أرتجف ذعراً.

ما الذي يحاول هذا الغريب أن يفعله بي؟ لماذا نظراته ونبرته الحنونة تلك تربكني هكذا؟

صرت عاجراً تماماً عن الكلام. لكنه لما رأى حالتي تلك، ابتسم فجأة وسط ألمه. لا أدري ما سر تلك الابتسامة، لكنه بدا كما لو أنه قد فهم شيئاً ما لم أستطع أنا فهمه.

نظرت لهاري الذي كان ما يزال بين يديه. لم يبدو متأثراُ أبداً بالذي حدث للتو، وتلك النظرة الباردة لم تختفي من عينيه أبداً.

لم أرد البقاء بقربه. كنت خائفاً جدا لسبب ما لا أعرفه..

فقلت لهاري بصوت راجف أخرجته بالكاد "هاري..لنذهب."

ابتعد هاري عن الرجل وسار نحوي دون أن يبدو مبالياً أبداً بما حدث. وما إن اقترب مني، حتى سرت بخطى سريعة مبتعداً عن ذلك البستاني الغريب.

ظننت وقتها أنني سأبتعد عنه، لكن الأمر بدا كما لو كان قد ألقى عليّ سحراً من نوع ما. فقد وجدت نفسي قد سرت نحو المكان الذي التقيته فيه بالأمس مرةً أخرى.

اختبأت خلف أحد الأشجار برفقة هاري الذي تبعني دون أن يقول أي شيء، وأخذت أختلس النظر حول المكان باحثاً عن ذلك البستاني في حذر.

لكنني قفزت في مكاني بذعر ما إن سمعت صوته من خلفي لما خاطبنا قائلاً بتساؤل "ما الذي تفعلانه؟"

نظرت نحوه وقلت بارتباك بينما أتجنب النظر إلى عينيه " أنا لم أتي إلى هنا للبحث عنك!"

ما إن قلت هذا، حتى انفجر ذلك الرجل ضاحكاً حتى دمعت عيناه. فضغطت على أسناني وهتفت بغيظ بعدما احمرت وجنتاي خجلاً "لقد قلت أنني لم آتي لأجلك أفهمت؟! ما الذي يجعلك تضحك هكذا؟!"

رفع الرجل يديه في الهواء متظاهراً الاستسلام، ليقول بينما يكتم ضحكته "أجل أجل...إنني أصدقك"

ثم اقترب مني وقال وهو يفرك شعري بمرح "تبدو لطيفاً حقاً عندما تخجل."

صفعت يده بعيداً عني وهتفت بانفعال" لست لطيفاً..كما أنني لست خجلاً أيضاً!"

ثم عقدت يداي أمام صدري، وغيرت الموضوع بنبرة ساخرة محاولاً بها إخفاء إحراجي، بينما أنظر إلى ذلك السوار الطفولي في يده، والذي كان مصنوعاً من الخرز الملون " ألا تخجل من نفسك؟ كيف يمكن لرجل في مثل عمرك أن يرتدي مثل ذلك السوار الطفولي؟"

نظر الرجل إلى السوار في يده قليلاً، قبل أن تتسع ابتسامته ويجيب بفخر شديد "لقد صنعت لي ابنتي هذا السوار، فكيف يمكن ألا أرتديه؟ إنها لطيفة وجميلة جداً"

ثم نظر نحوي وقال وهو يغمز لي مازحاً بمرح "يجب أن تراها، أنا واثق من أنك ستقع في حبها على الفور!"

أشحت بصري عنه وأجبت بغرور "مستحيل! آخر شيء قد أفعله في حياتي هو أن أتعلق بالنساء !"

ضحك الرجل من إجابتي، لكنه رغم ذلك قال وهو يحاول إغاطتي "لدي ثقة في قدرة صغيرتي على الإطاحة بالرجال. انتظر حتى تكبر، وسترى ذلك!"

أجبت بثقة وأنا انظر إليه بتعالي "قلت أن ذلك مستحيل. حتى لو انتظرت لألف عام، فأنا لن أنظر لأي امرأة. لست في حاجة إلى مثل تلك الرغبات الحيوانية السخيفة التي تحوّل الرجال إلى محض خنازير بلا عقول"

تغيّرت تعابير ذلك الرجل ليقول وهو ينظر نحوي بجدية الآن "لم أكن أتحدث عن هذا النوع من العلاقات، بل إنني كنت أقصد الحب بكلامي."

الحب؟ في أحد كتب علم النفس، أظن أن تعريف الحب كان علاقة متينة تربط بين شخصين يتعلقان ببعضهما بطريقة ما. أظنني قد أدركت المعنى بصفة عامة، لكنني لم أجرب ذلك الشعور من قبل، لذلك لا يمكنني القول أنني أفهمه تماماً..

وبدلاً من سؤاله، تمتمت بغيظ وأنا انظر بعيداً عنه

"أيا يكن.."

اكتفى ذلك الرجل بابتسامة هادئة دون أن يعلق على كلامي. فرك شعري برفق مرةً أخرى، ثم سار متبعداً عني وأخذ يقلّم أحد الأشجار القريبة بصمت..

لا أدري كيف وجدت نفسي أجلس على الأرض قريباً منه، بينما أراقب تحركاته دون أن أقول أي شيء. بدا قوياً وماهراً جداً في عمله. ورغم ذلك، كان يعامل النباتات كما لو كانت كائنات حية ستُجرح وتتألم إذا ما كان عنيفاً معها ولو قليلاً...

بدأ الأمر ذلك اليوم، ثم تحول إلى روتين يومي بالنسبة لي.

أن أجلس في هذا الوقت بقربه، بينما أستمر في مراقبته فحسب. في البداية لم يكن أي منا يتحدث للأخر أبداً، بل يجمعنا فقط ذلك الصمت المريح الذي يستمر لساعة ربما، ثم أعود للداخل برفقة هاري الذي لم يسألني حتى لم أتبع ذلك الرجل الغريب هكذا.

ولكن بمرور الوقت، بدأ هينري يتحدث معنا شيئاً فشيئاً.

هو لم يسألنا عن حياتنا الشخصية أبداً، لكنه رغم ذلك كان يتحدث معنا حول مواضيع مختلفة. عن الناس، عن العالم، وبعض القصص عن عائلته وابنته التي يبدو متعلقاً بها جداً.

لا أدري منذ متى، ولكن عند نقطة ما، وجدت نفسي متعلقاً بتلك الفترة القصيرة التي كنا نقضيها مع هينري.

كان رجلا مرحاً ومسلياً جداً. وحتى رغم كبر سنه، فقد كان يتصرف كالأطفال أحياناً.

علّمنا الكثير من الأشياء التي لم نعرفها يوماً. جعلني أرى العالم من زاوية مختلفة جداً عما اعتدت أن أراه. وقبل أن أدرك ذلك، تغيرت كثيراً.

علمت ما الذي يعنيه أن تفرح وتحزن، كيف أضحك، كيف ابتسم، وكيف يفترض بأي طفل طبيعي أن يعيش.

كنت أعلم أنه إذا ما علم جدي بما نفعله، فسوف يغضب كثيراً، وسيؤذي هينري حتماً. لذلك اتفقت أنا وهاري على أن نبقي أمر لقائنا به سراً حتى لا يكتشف أحد.

لقد أدركت كم كانت المعتقدات التي تم زرعها داخل عقلي خاطئةً تماماً. ورغم أنني صرت أتعافى من ذلك تدريجياً، إلا أن تأثير ما عشته لسنوات لم يزل تماماً بعد. ذلك الظلام كان قد تغلغل عميقاً جداً في داخلي، وحتى رغم أن هينري قد حاول مساعدتي، إلا أنني أعلم جيداً أن ذلك سيأخذ وقتاً.

لكن أيا كان الوقت الذي سيتطلبه ذلك، كنت أرغب حقاً في أن أتغير. ولقد عقدت العزم على أن أعيش كأي شخص آخر بأي ثمن كان.

ظننت الأمور ستستمر هكذا حتى أتى ذلك اليوم...ذلك اليوم الذي كان البداية لانقلاب حياتي رأساً على عقب..

كنا نسير برفقة جدي باتجاه غرفته بعد أن طلب منا مرافقته.

في ذلك الوقت، صادفنا في طريقنا خادمةً كانت تقوم بتنظيف أحد الجرات الموضوعة على طاولة خشبية فاخرة في الممر. وبعد أن تجاوزها جدي، نظرت نحوه بحقد شديد بينما ما تزال تنظف تلك الجرة. ولأنها لم تكن منتبهةً على ما كانت تفعله، فقد دفعت بمنشفتها تلك الجرة الأثرية الغالية، لتسقط أرضاً وتتهشم إلى قطع صغيرة.

ما إن سمع جدي صوت تحطم الجرة حتى التفت نحوها فوراً.

ولما رأى قطعها المتناثرة على الأرضية الرخامية، سار نحو الخادمة بخطى سريعة ليصفعها بقوة حتى ظننت أن فكها قد تحطم. صرخ بأعلى صوته بعدما شدها من شعرها بقوة وهو يكاد يفصله عن فروة رأسها "كيف تجرئين على فعل ذلك أيتها الحقيرة؟! ألا تعرفين كم تساوي تلك الجرة؟ إنها أغلى بكثير من حشرة مثلك!"

ثم دفعها بقوة حتى سقطت أرضاً على ركبتيها، وقد جرحت ركبتها بإحدى قطع الخزف المحطم.

ركل بطنها بكل قوته حتى شهقت بصوت عالٍ، وقد تقيأت عصارة معدتها. ليقول وهو ينظر نحوها كما لو كانت حشرة أمامه "فلتنظفي المكان حالاً. أنتِ محرومة من راتبك لسنة كاملة. سوف تستمرين بالعمل حتى تعوّضي على ما فعلته، وإلا فسوف أزجّك في السجن، وسوف أتأكد من أنكِ لن تري ضوء الشمس لبقية حياتك."

خفضت رأسها وقالت وهي تضغط على أسنانها بقوة "أجل، أمرك سيدي. سوف أتأكد من أعيد لك ثمن تلك الجرة."

فركل بطنها مرةً أخرى، قبل أن يتمتم بازدراء وهو يسير مبتعداً عنها "قمامة"

شدت الفتاة بطنها بألم. لكنها ورغم ألمها الشديد، رفعت بصرها نحوه لتنظر إلى ظهره وهو يسير مبتعداً عنها، بينما احتدت عيناها بنظرة حاقدة لم أر مثلها في حياتي.

لم أحتج الكثير حتى أعرف ما الذي تفكر به هذه المرأة، فنظرات عينيها كانت تصرخ بما كانت تريد فعله.

اقترب مني هاري، ليشد طرف كم قميصي ويقول بهمس بينما ينظر نحوها هو الآخر "كارل. تلك المرأة..."

أجبت وأنا أعلم جيداً ما كان يريد قوله "أجل أعلم. يجب أن نخبر جدنا بسرعة"

كان جدي جالساً على كرسيه خلف مكتبه وهو ينظر إلى بعض الأوراق أمامه. ولما دخلنا إلى المكتب، وضع تلك الأوراق جانباً، وقال بعد أن نزع نظارته الطبية ووضعها على سطح المكتب "تعالا إلى هنا."

وقفنا كلانا أمامه بينما ننظر إليه ببرود. لا أعرف ما الذي يريده هذه المرة، لكنني قررت مسايرته في كل شيء يفعله حتى لا يلاحظ تغيّري. يجب ألا يعرف بشأن هينري، وإلا فإنه سيحدث ما لا تحمد عقباه أبداً.

أرخى جسده على المقعد براحة، ليقول بعدها وهو ينظر إلينا بمكر "ظننت أن إعدادكما سيأخذ وقتاً، لكنكما فقتما جميع توقعاتي. أنتما الآن جاهزين تماماً لترثا منصب رئيس تشادولي.."

ثم سكت قليلا قبل أن تتبدل نظراته تلك إلى ابتسامة شيطانية وهو ينظر نحونا باستمتاع " لكن كما تعلمان، هاري..كارلوس...لا يمكن أن يقوم شخصان بتولي منصب الرئيس. لذا.."

عدل جلسته ليشبك كلتا يديه أمام وجهه، بعد أن أسند مرفقيه على الطاولة. ليردف وقد اعتلت وجهه نظرة خبيثة "منذ الآن فصاعداً سوف تصيران عدوين لدودين.. ستقاتلان بعضكما، وسينجح بينكما من هو الأكثر كفاءة. وما إن ينتصر أحدكما، سيقوم بقتل الآخر والتخلص منه إلى الابد.."

في اللحظة التي قال فيها كلماته تلك، شعرت وكما لو أن أحدهم قد سكب ماءاً بارداً على جسدي بالكامل.

لا أعلم كيف لم أفكر في هذا من قبل. ذلك صحيح تماماً، فيستحيل أنه كان يخطط لجعلنا نستلم رئاسة العائلة معاً. الآن أدركت الأمر...الآن فهمت كل شيء!

عندما أحضر هذا الرجل هاري إلى غرفتي، استغربت حينها لم فعل هذا. لماذا لم يتضايق عندما رآنا نتفق معاً، ونتعلق ببعضنا كما نحن الآن؟ لماذا لم يزعجه قربنا الشديد يوماً، رغم أنه أراد أن يقتل كل المشاعر فينا؟

لكنني الآن عرفت السبب.

هو قد فعل ذلك عمداً. كانت تلك هي خطته منذ البداية. إذا لم أعرف هاري من قبل، فقتله لن يشكل لي أي معضلة أبداً حتى لو علمت أنه أخي. فقتلك لأخيك الذي لم تلتقي به قط، سيكون أسهل حتماً من قتل أخوك الذي تحبه أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم.

أراد أن يتأكد من أنه سيحطمنا تماماً، وسيدمر في داخلنا كل احتمالية لأن تتكون فينا أي نوع من المشاعر. فبعد أن التقيت بهينري، أدركت أن المشاعر لم تمت في داخلي يوماً..والفضل في ذلك، يعود لوجود هاري في حياتي.

كان وجوده هو الشيء الوحيد الذي منعني من أن أفقد عقلي وروحي وإنسانيتي حتى رغم الجحيم الذي عشته، وحتى رغم الأفعال الشنيعة التي اجبرت على فعلها.

بقائي معه كان كافياً لجعلي أتطلع لبقية يومي. كان بالنسبة لي عائلتي الوحيدة، وصديقي الوحيد الذي عرفته طوال حياتي.

لكن لو أنني قتلت هاري بنفسي، فأنا أعلم جيداً أن قلبي وروحي وعقلي وكل شيء في داخلي سيتحطم بلا رجعة. وحتى لو التقيت بعدها بآلاف الأشخاص كهينري، لن يوقظ شيء الإنسانية في داخلي بعد الآن أبداً.

سأغدو وحشاً بلا قلب ولا روح. بلا حياة، بلا أمل، بلا أي شيء!

علمت دائماً أننا كنا أحفاداً لشيطان، وقد أرادنا هذا الشيطان أن نصير مثله تماماً. وحوش قاسية، لا تكترث بأي مخلوق في العالم أجمع.

ربما يكون هاري أذكى مني بكثير، لكنني كنت أتفوق عليه في مهارات القيادة والتأثير في الآخرين. وإذا ما تنافست أنا وهو بالطريقة التي أرادها، فلا أعلم أبداً من منا سينتصر على الآخر. لكن ما أعلمه جيداً أنه أياً كان من سيفوز، فسوف يموت قلبه بموت الآخر. هو يعلم أن فرصنا متساوية، لذلك أراد أن يمتّع نفسه المريضة برؤيتنا ونحن نتقاتل.

إلى أي مدى أراد هذا الشيطان أن يقوم بتشويهنا؟ ألا يكفيه ما فعله لنا طوال تلك السنوات؟ ألا يكفيه ما أجبرنا على القيام به؟

أليس كافياً أنه قد سلب منا طفولتنا، وحياتنا، وبراءتنا، وكل الأحاسيس الطبيعية التي يمكن لأي طفل آخر أن يعيشها؟

لقد عشنا حياتنا بلا أب، بلا أم، بلا عائلة. ودون أن يكون لدينا الحق في أن نلهو ونمرح مثل الأطفال الآخرين في مثل سننا. لكننا مع هذا كنا بخير، استطعنا الصمود لأننا كنا معاً دائماً.

والآن حتى ذلك الخيط الرفيع الذي يصلنا بإنسانيتنا، وبأن نكون طبيعيين ولو قليلاً، يريد سلبه منا أيضاً.

كنت عاجزاً تماماً عن قول أي شيء. خفضت رأسي وأنا لم أعد أعلم حقاً ما الذي عليّ فعله. لكن الفكرة الوحيدة الذي ظلت تدور في ذهني، هي أنني علي أن أمنع حدوث هذا حتماً.

لا يهمني حقاً إذا ما مت، لكنني سأحمي هاري مهما كلفني ذلك من ثمن. سأحمي روحه من أن تتلوث بموتي. سأحمي قلبه من أن يشوهه هذا اللعين أكثر من هذا!

لما طال صمتنا، أرخى ذلك الرجل جسده على كرسيه وقال ببرود "ذلك كل شيء. سوف تبقيان منذ الغد في غرف منفصلة، وسوف أعيّن مساعداً خاصاً لكل منكما."

ثم ابتسم بمكر وأردف بنبرة متحمسة "فلتقدما أفضل ما لديكما"

كان هاري ينظر إليّ ولم يبد مهتماً بما قاله إطلاقاً. لكنه نظر إلى جدي فجأة وقال بفتور " تلك الخادمة من قبل.."

ما إن قال هذا، حتى أمسكت يده وضغطت عليها دون أن أرفع بصري من على الأرض. ويبدو أنه فهم ما قصدته بذلك، فقد سكت على الفور ونظر نحوي دون أن تتغير تعابير وجهه على الإطلاق.

بدا جدي مستغرباً، وقد سأله باستفهام "ماذا بشأن تلك الخادمة؟"

أجبت عنه دون أن انظر إليه "لقد أراد أن يقول أنه كان يجب أن تعفنها أمام الخدم الآخرين حتى يخافوا هم أيضاً، ولا يرتكبوا أي خطأ"

لم يبد جدي مقتنعاً بذلك، لكنه رغم هذا أجاب وهو غير واثق مما يقول "أجل..سأتأكد من فعل ذلك في المرة القادمة"

وما إن قال هذا، حتى سحبت هاري معي وغادرنا الغرفة.

سرنا بسرعة باتجاه غرفتنا. وما دخلنا إليها، حتى أغلقت الباب بقوة قبل أن أدير المفتاح وأسند نفسي على الباب بينما أتنفس باضطراب.

وقف هاري أمامي وسألني وهو ينظر إلى عيني مباشرة "لماذا أوقفتني؟ ألم تقل لي أنه يجب علينا إخباره؟"

ضغطت على أسناني وسرت نحوه لأشد ياقة قميصه وأقول بغضب "أهذا وقت التفكير بشيء كهذا؟! ألم تسمع ما قاله قبل قليل؟! إنه يريدنا أن نقتل بعضنا! إنه يريدنا أن نصبح عدوين هاري!"

أجاب هاري ببرود شديد "ولماذا أنت منفعل بسبب هذا؟ هل نسيت ذلك كارل؟ نحن المخلوقات الأسمى والأكثر قوة، وبالطبع لن نطيع حشرةً تافهةً مثله."

ضغطت على أسناني وقلت بقهر" أنت لا تفهم هاري! قد نكون أذكى منه بكثير، لكننا محض طفلان صغيران ليس لدينا أي قوة على الإطلاق. بإمكانه التحكم بنا كيفما شاء. مهما كان ما نريده، فذلك لن يكون مهما بالنسبة له أبداً."

ثم وضعت يداي على كتفيه وقلت وأنا انظر إلى عينيه مباشرة "فلتسمعني جيداً هاري. لا تخبر أحداً بشأن ما تخطط تلك الخادمة لفعله. إذا ما أردنا أن نعيش، فيجب على ذلك الرجل أن يموت حتماً. لن نصير أحراراً إذا ما ظل ذلك الرجل موجوداً في حياتنا. هل تفهم ذلك؟"

سكت هاري قليلاً قبل أن يسألني فجأة بهدوء غريب "هيي كارل، هل تريد أن تصبح حراً من قيود عائلة تشادولي؟ هل تريد أن تعيش حياتك بالطريقة التي حدثك عنها ذلك البستاني؟"

استغربت كثيراً من سؤاله ذاك. لكنني رغم ذلك أجبته وأنا أضغط على أسناني بقهر"بالطبع أريد أن أكون حراً هاري!"

ثم بسطت يداي أمام صدري، وقلت وأنا انظر إليهما برعب "لا أريد الاستمرار في ذلك بعد الآن، لا أريد أن تتلطخ يداي أكثر. أريد التحرر من هذا الجحيم! أريد أن أعيش حياةً طبيعية مثل أي طفل آخر!"

وكل ما أجابني به هاري في ذلك اليوم كانت همهمة منخفضة، إيماءة بسيطة، وكلمتين فقط..

"همممم، لقد فهمت"

••••••

في اليوم التالي، كان الأمر كما قال جدي تماماً. فقد تم أخذ هاري ليعيش في غرفة أخرى بعيدة جداً عن غرفتي.

كذلك قد عرّفني على رجل قال إنه سيصبح مساعدي الخاص، والذي سيرشدني حول الطريقة التي سأقاتل هاري بها.

كان يجب أن أكبر أولاً وأدير شركتي الخاصة المنافسة للشركة التي سيديرها هاري، ثم سأتخذ أتباعاً كثيرين، واستمر في تحدي هاري وهزيمته إلى أن أدمر شركته وأقتله في النهاية.

لا توجد قوانين أو قيود على الإطلاق. مهما كانت الطريقة، فيجب أن يدمر أحدنا الآخر ثم يقتله..هكذا بكل بساطة..

كانت هناك قيود أكبر على تحركاتنا، وذلك حتى يتأكدوا أننا لن نلتقي ببعضنا في الخفاء. لذلك لم أعد قادراً على لقاء هينري بعد ذلك أبداً.

استمر الأمر على هذه الحال، إلى أن التقيت هاري أخيراً في تلك الحفلة التي اجتمع فيها جميع أفراد عائلة تشادولي.

وبعد أن خدعنا الجميع، استطعنا بصعوبة أن نتسلل خارجاً ونلتقي في أحد الأروقة البعيدة عن قاعة الاحتفالات.

سألت هاري وأنا انظر إليه بجدية "هل من جديد من ناحيتك؟ أعني تلك الخادمة، هل التقيت بها مرة أخرى؟"

حرك هاري رأسه نافياً وأجاب بفتور "لا...ماذا عنك؟"

تنهدت بضيق قبل أن أرد بقلق "لا."

ثم ضغطت على أسناني وقلت بقهر "لم أعد أحتمل ذلك أكثر! متى سينتهي كل هذا؟!"

وقبل أن يقول هاري أي شيء، سمعنا ذلك الصوت الأنثوي الذي حدثنا قائلاً "ما الذي تفعلانه هنا؟"

انتفضت فزعاً في مكاني. لكنني ما إن رأيت وجهها، حتى تراجعت خطوة إلى الخلف في حذر بينما أحجب هاري عنها لا إرادياً.

ابتسمت الخادمة من منضري وقالت بهدوء "أخبراني يا صغيراي..هل ضللتما الطريق؟"

حركت رأسي نافياً قبل أن أجيب بحذر "لا..سنذهب الآن."

أخذت تقترب مني بينما تعلو وجهها ابتسامة خبيثة، لتضحك بخفة، وتقول بشيء من السخرية "لماذا تبدو خائفاً؟ إنني لا آكل الأطفال كما تعلم.."

لكن تعابير وجهها قد تغيرت فجأة، لتقول بينما تتظر نحونا بجمود "اسمعاني جيداً يا صغيراي. عليكما أن تذهبا للحديقة حالاً. مفهوم؟

شعرت بالخوف ما إن قالت هذا. ماذا لو كانت تخطط لقتلنا؟ ربما أدركت أننا علمنا بما تخطط له، لذلك تريد التخلص منا! ما العمل؟ ماذا لو...

لكن صوت هاري انتشلني من نوبة الفزع تلك لما قال هامساً وهو يشد ذراعي بقوة "كارل! لنذهب كما قالت. إنها لا تخطط لقتلنا، أستطيع الشعور بهذا. لابد أنها ستقتله الآن، وربما لا تريدنا أن نرى ذلك."

أحقاً ما يقول؟ أحقاً ستقتله أخيراً؟

في هذه الحالة، لا يجب أن أعيقها أبداً. حتى وهي تخطط للقتل، أستطيع الشعور أنها ليست شخصاً سيئاً في الواقع. لابد أنها لم ترد لطفلين في عمرنا أن يشهدا حدثاً مأساوياً كهذا.

وفي جميع الأحوال، أعلم أكثر من أي شخص آخر أن هاري لا يخطئ أبداً في توقعاته، وتلك المرأة لن تحاول قتلنا كما قال..

فسرت برفقته إلى الحديقة.

كانت السماء قد تلبدت بتلك الغيوم السوداء المثقلة بالمطر، والذي بدأت زخاته تكسو تراب الحديقة بالفعل.. ببطء في البداية، ثم بدأت تزداد قوةً شيئاً فشيئاً.

وفي اللحظة التي خطوت فيها على أرضية الحديقة، سمعت صوت ذلك الانفجار العالي الذي أعقبه صوت انفجارات كثيرة أخرى..

ركضت أنا وهاري مبتعدين عن المبنى، ثم التفتنا نحوه لما صرنا على بعد مسافة آمنة منه.

اتسعت عيناي بصدمة وأنا انظر إلى تلك النيران التي أخذت تلتهم الطابق الأرضي، حيث اجتمع جميع أفراد العائلة..

أستطيع أن أسمع أصوات صراخهم في الداخل.

أعمامي، عماتي، أبناؤهم، جدي ، زوجته ، ضيوف العائلة، الخدم، وأيضاً...أبي وأمي..

الجميع كانوا في الداخل..الجميع كانوا وسط تلك النيران الحاقدة التي أخذت تلتهم كل شيء دون رحمة.

رأيت بعض الخدم يركضون من بوابات القصر الأخرى، ويبدو أنهم كانوا إما في المطبخ، أو في غرف أخرى غير قاعة الاحتفالات.

الحراس كانوا يركضون هنا وهناك بينما يصرخون محاولين إطفاء تلك النيران بيأس.

صراخ في كل مكان. الكل يركض، الجميع ينادي ويندب..

المطر بدأ يشتد أكثر وأكثر، دون أن يكون قادراً على إطفاء تلك النيران التي تصاعدت لباقي أرجاء المنزل، وأخذت تلتهم كل شيء..

الرياح العاتية، ظلت تحرّك أشجار الحديقة بقوة، كما لو كانت على وشك اقتلاعها في أي لحظة..

وشيئاً فيشئاً، بدأت أصوات الصراخ في الداخل تختفي تدريجياً حتى ما عدت قادراً على سماع أي صوت..

استطعت الشعور بهاري وهو يطبق يده الصغيرة على يدي، بينما كانت عيناه العسليتان مرتكزتان على تلك النيران المتوهجة التي اجتاحت كل شيء..

ولما أحس بأنني انظر نحوه، التفت إليّ وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة منتشية منتصرة، بثت الرعب في أوصالي..

ملابسه قد ابتلت بالكامل، بينما كان ماء المطر يقطر من خصلات شعره الحريري المبلل. عيناه العسليتان كانتا تتوهجان مع توهج النيران أمامنا، وقد اختلط لونهما الكهرماني بألوان النيران الحارقة وهو يحدق بي بتلك الابتسامة المرعبة..

تكلّم أخيراً بانتشاء وتشفّي، ليهمس بتلك الكلمات التي جعلتني أستوعب كل شيء أخيراً

"كارل، لقد فعلناها...إننا أحرار الآن!"

أخذت أرتعش في مكاني بذعر. أبعدت يدي عن يده بقوة، لأشدّ رأسي بكلتا يداي وقد ظلت أسناني تصطك ببعضها بقوة، في حين ظلت دموعي تنهمر دون توقف..

ليس هذا ما أردته.. ليس هذا ما كان يجب أن يحدث!

انتفضت بفزع وأنا استمع الآن إلى صراخ الناس من حولي..

"لااا، ابتعدوا عني..دوروثي في الداخل، يجب أن أخرج ابنتي...لقد دخلت إلى هناك حتى تقدم العصير للحاضرين!"

"أحضروا الماء!"

"متى يصل رجال الإطفاء؟ النيران تتصاعد إلى باقي أرجاء القصر!"

"حطّموا النوافذ، ربما يكون هناك بعض الناجين في الداخل!"

"أحدهم أغلق جميع الأبواب والنوافذ المؤدية إلى قاعة الاحتفالات، لا يمكنا إخراج أي أحد!"

"يجب أن تعثروا على الرئيس تشادولي...جميع أفراد أسرة تشادولي في الداخل، لا يمكننا تركهم يموتون!"

غطيت أذناي وأنا أحاول كبت تلك الأصوات التي أصابتني بالصداع، حتى شعرت أن رأسي سينفجر في أي لحظة..

لماذا؟ لماذا حدث هذا؟ لماذا كان يجب أن تقتلهم جميعاً؟

لو أنني تكلمت.. لو أنني لم أمنع هاري من إخباره يومها. لو أنني أخبرته عما كانت تخطط له تلك الخادمة...

جثوت على ركبتي وقد جفت دموعي تماماً ما إن أدركت تلك الحقيقة يومها. تلك الحقيقة التي ظلت تطاردني كل يوم، لتحرم عليّ النوم كباقي البشر.

الخطيئة التي ارتكبتها، والذنب الذي لن أنساه طوال حياتي...

أجل..

أنا السبب في كل ذلك، أنا من قتلت جميع أفراد عائلتي!

يتبع..

*******

_رأيكم في الفصل؟

_توقعاتكم للأحداث القادمة؟

_ما تعليقكم على ما مر به الاخوان تشادولي؟ 💔

_من تكون تلك الخادمة؟ ولماذا كانت حاقدةً على أسرة تشادولي؟

_في اعتقادكم..هل كانت تلك هي الحقيقة الكاملة وراء مقتل أفراد تلك الأسرة؟

_ما السبب الذي جعل تلك الخادمة تخبر هاري وكارل فقط بأن يخرجا إلى الحديقة قبل إحراقها للقصر؟

_لماذا تم اتهام والد لوسي بأنه الفاعل؟ وما السر الذي جعل لوسي تحقد على كارل؟

_كيف ستكون ردة فعل لوسي بعد أن حكى لها كارل كل شيء؟

_هل تخلص هاري وكارل من الظلام الذي زرعه جدهما في داخلهما؟

أحداث وأسرار كثيرة تنتظركم في الفصول القادمة..ربما تم الكشف عن الكثير، لكن الغموض ما يزال قائما، وما تزال بانتظاركم العديد من المفاجآت والحقائق التي لم تكشف بعد. فكونوا في انتظاري❤

لا تنسوا التعليق والتصويت على الفصل.. ما يزال أمامنا فصل واحد فقط قبل نهاية أحداث الجزء الأول من الرواية..

أرجو أنكم احببتم الفصل، وأحببتم الرواية ككل..

الجزء الثاني سيكون أكثر حماساً وتشويقا، وفيه سيتم الكشف عن كل شيء❤

أراكم على خير أحبتي..دمتم في أمان الله وحفظه😘

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top