| ٠١ |
[ غضب ]
كانت تسير بين الأشجار تحت سماء يومٍ غائمٍ، شمس الظهيرة لم تكن واضحةً بين السحب، لكنها أكملت طريقها على أية حال، تتسكع على العشب الذهبي. كانت غاضبةً بسبب تلك المشاحنة التي دارت بينها وبين والدتها، هي دائماً ما تتذمر من تصرفات ابنتها الغير عقلانية، ولكن اليوم قد زاد الأمر عن حده.
جلست على ضفة النهر بجانب الصخور، تقذف الحصى الصغيرة في الماء، تمددت على العشب لتزيل قبعة القش عن رأسها، وقد وضعتها فوق وجهها لتصد النور عن عينيها، كانت تحاول الاسترخاء بعد ذلك الشجار، لكن عقلها يعصف بالأخطاء التي تقترفها.
- أنا الآنسة السيئة.
تمتمت في داخلها مزفرةً، أغلقت عينيها لترتاح قليلاً، ولكن كيف لها أن ترتاح خارج حدود مجتمعها؟ سمعت ذلك الصوت، أنصتت إليه جيداً، رفعت القبعة عن وجهها لتحملق بعينيها في الأفق، لتستقيم فتبدأ بحثها عن مصدر الصوت، ممسكةً بمسدس والدتها، الذي أخذته خلسةً.
كانت تسير على الأوراق الجافة، محدثةً صوتاً حرشفياً خفيفاً، لكنه لا يثير الإنتباه كثيراً، مصوبةً بالسلاح الذي تحملها إلى الأمام، تجاه الصوت الذي ستذهب نحوه. إنها تسمع صوتَ حركةٍ، أسرع من صوت حركة الهائمين، أقبضت على سلاحها بقوة أكبر، عندما اقتربت أكثر من مصدر الصوت، بين الأشجار، لمحت عيناها هيئة تركض خلف الجذوع.
أسرعت باتجاه تلك الهيئة، منادية بصوت عال، لتتوقف تلك الهيئة عن الركض.
- توقف مكانك!... انتظر... جوش؟ ماذا تفعل هنا؟...
كانت تلهث بين كلماتها، فركت شعره الأشقر فأبعد يدها عن رأسه.
- لا تفعلي هذا... أنا لست طفلا...
أردف ممتعضا ليقضب حاجبيه فوق عينيه الكبيرتين، ويضم شفتيه معلنا عن غضبه الشديد.
- أنت في العاشرة، مازلت صبيا... لا يجب أن تتواجد خارج الأسوار.
قالت بينما التفتت فتسير خارج الأشجار، وهو يتبعها بملامح غاضبة، خائفة أيضا.
- كنت قلقا بشأنك، لذا تبعتك إلى الخارج...
أتبع، لتلتفت نحوه فتجثوا على ركبتيها حتى تصل إلى مستوى رؤيته.
- جوشوا، عزيزي. عندما يغادر المرء مكانا ما وحده، فهذا يعني أنه يريد أن يكون بمفرده.
أردفت بابتسامة باردة، ثم أزالتها لتلتفت وتنهض فتكمل سيرها.
- ماذا لو قلقت أمي بشأنكِ؟ وأبي سيغضب كثيرا إن علم بذلك...
قال بعد صمت طويل، لتتوقف عن السير فتلتفت نحوه مجددا، لتجيبه بعد أن أعادت نظرها إلى طريقها.
- وهو لن يعلم ذلك، لن تخبره بأي شيء، حسنا؟
- ماذا سيخبرني؟
- أوه لا...
كان والدها يقف بانتظارها على مقربة من البوابة، وقد كست وجهه علامات الغضب الشديد، كان يربع يديه محاولا كتم غيظه.
- لقد غادرت، مجددا!
- أبي، أنت لا تفهم الأمر--
- وعرضت حياة شقيقك للخطر!
- هو من تبعني إلى هنا--
- كم مرة علي أن أمنعك من الخروج؟! الخارج خطير، ألا تفهمين ذلك؟!
- هلا تركتني أتحدث؟! لدقيقة واحدة؟ أنا أحاول البقاء وحدي، ليس ذنبي أنه تبعني إلى هناك. أنا يمكنني تدبر أمري، لطالما فعلت ذلك، ولم أحمل أحدا أيا من مشاكلي، لذا من حقي أن أبقى وحدي، لأنني لا أدين لأي أحد معروفا!
- يمكنك البقاء وحدك في غرفتك...
- ما اللعنة؟
- إلى غرفتك، الآن! أنت معاقبة.
- في بعض الأحيان أتمنى لو أكون وحدي منذ البداية...
تمتمت بكلماتها لتصنع طريقها، تخطت والدها بأنفاس مختنقة لتسير عبر البوابة، تحاول التماسك قبل أن تنهار من البكاء أمام الجميع. وخاصة كارل، الذي كان يقف بجانب الباب، ينظر إليها من بعيد، تخطته هو الآخر متجنبة النظر إليه.
استيقظت إثر ضوء الشمس الذي اخترق نوافذ السيارة، كانت تحلم بما حدث يوم الأمس، كانت الأجواء سيئة، بكل معنى الكلمة. نظرت إلى جانبها، لم تجد كارل على المقعد المجاور لها، فركت عينيها محاولة التيقظ، هو بالفعل لم يكن موجودا.
خرجت من السيارة لتلقي نظرة حول المكان، وجدته قادما باتجاهها، ليبتسم بخفة فتعيد له الابتسامة.
- صباح الخير...
- صباح الخير.
- وجدت بعض التوت الأزرق على هذا الجانب، لكن أظن أنه علينا تنظيفه...
- فقط امسحه في قميصك.
- أجل، هذا قد يفي بالغرض...
تناولت القليل من يده لتمسحه في قميصها، بعد عدة نفخات طفيفة، وضعت عدة حبات في فمها ثم عادت إلى داخل السيارة، فتبعها بعد أن أنهى تناول حبات التوت خاصته.
كانت تتأكد من خزان الوقود والزيت، ثم خرجت لتلقي نظرة على الحقيبة الخلفية، بعد أن سحبت المفاتيح لتستعملها في فتح الحقيبة.
وجدت بعض المعدات، سلاح كبير، وبعض علب الطعام، مثل معظم السيارات التي رأتها من قبل. أغلقت الحقيبة بعد أن أخذت السلاح معها إلى المقعد الأمامي، ركبت السيارة لتجلس خلف المقود فتتعمق في تفاصيل السلاح.
- هذا كبير حقا...
- أجل، أحببته. أتساءل لم قد يموت شخص ومعه ذلك السلاح؟
- ماذا تعنين؟
- وكيف تظنني قد وجدت هذه السيارة؟
- قمت بقتله؟!
- لا، كان ميتا بالفعل، أو بالأحرى أنه كان وجبة عشاء لأحدهم. على أية حال، السلاح لنا الآن، أليس كذلك؟
- أنت تسألينني؟
- لا... سؤال بلاغي، تعلم؟ ذلك السؤال الذي تقوله، لكنه ليس سؤالا، بل شيء قد تحقق؟
- أجل، هذا يفسر.
- أجل، هيا لننطلق، علينا أن نجد شيئا لأجرب ذلك الجميل عليه.
وضعت يديها على عجلة المقود بعد أن وضعت السلاح في المقعد الخلفي، قدمها على دواسة الوقود، وعيناها على الطريق، لتباشر القيادة بثبات وهدوء شديدين.
ساعات من القيادة، اقتربت الظهيرة وما يزالون على الإسفلت، لا إشارة لأي مخلوق حي على جانبي الطريق، بدأ الجوع في ضرب معدتيهما، وكأنها أكياس ملاكمة. أوقفت السيارة لتضع يديها على جبينها، فتنزل بكفيها لتفرك وجهها بعنف.
- ما الخطب؟
- لا يمكنني التركيز، أنا حقاً جائعة. لنبحث عن شيءٍ لنأكله...
ترجلت من السيارة ليتبعها هو الآخر، تحوم بعينيها في الأفق بحثاً عن كائنٍ يمكن أكله، وهذه كانت مهمةً صعبةً بعض الشيء، حيث أن المكان هنا ذو أعشابٍ قليلةٍ وجافةٍ، لذا سيكون من المستحيل إيجاد صيدٍ بهذه السهولة في المنطقة. الدقائق تحولت لساعاتٍ والشمس في كبد السماء، ولم يستطيعا إيجاد مخلوقٍ حيٍ واحدٍ في الأرجاء، التعب بدأ يعتصرهما كرقعة قماشٍ مبللةٍ، أجسادهما أنهكت ورؤيتهما تشوشت، فيمُرُّ ذلك الغزال بين سيقان الأشجار فيلتفت كليهما نحوه بنهم.
سحبت مسدسها من جيبها لتصوب رصاصةً في صدر ذلك الغزال، سارعا في الركض باتجاهه ليمسكا به فيستكملان الذبح. عادا إلى حيث أوقفا سيارتهما، وقد قرروا المكوث في المنطقة والتخييم مؤقتاً، بحكمِ أنها منطقةٌ هادئةٌ، ليضعا غنيمتهما أرضاً فيكملان تحضيرات الشواء.
نزل الليل وقد افترشوا خيمة قد وجدوها في المقعد الخلفي من السيارة، جلس كليهما أمام النار التي أشعلاها للتدفئة وتحضير طعامهما. ارتدت معطفها ثم أنزلت قبعة القش عن رأسها، وقد تربعت لتضع يديها أمامها محدقةً بالنيران، بينما كان يجلس إلى جانبها بهدوء.
- أظن أنه ناضجٌ الآن...
قالت بينما نكزت الغزال بعودٍ خشبيٍ، أخرجت سكين جيبها لتقطع جزءاً لكلٍ منهما، يتناول القطعة من يدها فيباشر كليهما غرز أسنانهما في تلك القطع بكل تضور، فيلتهمانها في غضون دقائق قليلة، فيقطعان جزءا آخر لتناوله، ثم آخر، ثم آخر، حتى أنهم أنهوا نصف الغزال.
استلقت على العشب لتسحب الهواء البارد إلى داخل رئتيها فينعش جوفها، تحدق بالسماء السوداء فوقها، كانت مليئة بالنجوم هذه الليلة على غير العادة، بدت السماء جميلة في تلك الليلة.
النيران تتطاير للأعلى فتصنع ظلالا على جسديهما، نهضت عن تمددها لتجده يحدق بها بكل هدوء، ابتسامة صغيرة تعلو محياه.
- ماذا؟
- لا شيء كثيرا. ماذا سنفعل الآن؟
- حيال ماذا؟
- حيال ما نحن فيه. نحن لم نجد مأوى حتى الآن، إلى متى سنبقى هكذا؟
- لا أعلم. لنناقش الأمر في الصباح، أما الآن أريد أن أنام.
- حسنا، طابت ليلتك.
- وأنت أيضا.
أردفت لتنهض متجهة إلى داخل الخيمة، تمددت على الفراش فتدثرت بغطائها. استقامت من نومها المزيف لتنظر إلى حقيبتها فتسحبها إليها، فتحت الجيب الأمامي منها لتخرج صورة فوتوغرافية تعود لعائلتها.
ذرفت من عينيها بعض القطرات بينما كانت تحدق في تلك الصورة، الصورة التي تجمع أفراد عائلتها، التقطها لهم والدها بعد أن رزقت بشقيق أصغر. تنهدت مطلقة نحيبها، شعور الندم لديها ينمو ويترعرع فيغطي على عقلها ويسود تفكيرها.
- إيف، هل أنت بخير؟
قاطع نحيبها سؤال كارل لتنتفض في مكانها فتسارع في مسح دموعها قبل أن يلاحظها. "لا تدع أحدا يراك في لحظة ضعف، أبدا." ترددت تلك الجملة في عقلها، الجملة التي لطالما رددتها والدتها. رفعت رأسها لتحدق به بكل ثقة.
- أجل، أنا بخير.
- ظننت أنني سمعت صوت بكائك لذا اعتقدت أنه يجب أن أتحقق من الأمر...
- كارل، هل تظن أنني شخص يمكنه البكاء؟
- كنت تبكين ليلة الأمس...
- كانت هذه مجرد دموع بسيطة ذرفت عن طريق الخطأ، ليست بكاءا، أنا لا أبكي.
- أوه، أجل. إذا هي تلك الدموع الخارجة عن السيطرة عندما تقعين في مأزق؟
اكتفت بالصمت وقطب حاجبيها لتعبر عن جام الغضب الذي بداخلها، والذي قد ينفجر في أية لحظة. أزفرت لتتمد فتسحب الغطاء على جسدها.
- تصبح على خير.
أغمضت عينيها بينما وضعت وسادة فوق رأسها، هي تعلم أنه ما يزال يقف في مكانه، تحاول جاهدة أن تتجاهله بكل الطرق الممكنة لديها، لكنه يقف ببرود وينظر إليها، هو يعلم أنها سريعا ما تفقد صوابها، وهو يحب استفزازها، يبتسم دون أن تبتعد شفتيه عن بعضها.
- ما اللعنة التي تريدها، كارل؟
- تبدين لطيفة عندما تكونين غاضبة.
- شكرا، تصبح على خير، كارل.
أردفت بعد أن أزفرت بقوة، أظهرت ابتسامة صفراء ثم التفتت لتتدثر تحت الغطاء والوسادة، وسرعان ما غطت في نومها.
في الصباح التالي:
استيقظت قبيل الضحى، ارتدت حذائها وقميصها القطني، خرجت من الخيمة لتقابل أشعة شمس الصباح، وضعت قبعتها على رأسها لتصنع حاجزا بينها وبين الضوء، باحثة عن كارل بعينيها.
- كارل؟ كارل؟ كارل!!
كانت تنادي بصوت عال، لكن لا يوجد أحد ليرد على ندائها. تأففت وجلست على جذع شجرة أمام النار التي أخمدت، ظلت على حالها لدقائق، ثم نهضت لتتجه إلى داخل الخيمة، سحبت حقيبتها معها إلى الخارج فجلست مجددا على الجذع.
أخرجت قطعة خبز من حقيبتها، وضعتها بين أسنانها فإذا بصوت طلق ناري يخترق الجو حولها، أسقطت كسرة الخبز من شدة فزعها.
- كارل...
همست في داخلها لتنهض من مقعدها فتركض باتجاه مصدر الصوت. أخرجت سلاحها من جيبها، أبطأت من سرعتها حتى أصبحت تتسلل وسط الأشجار، تلتفت يمينا ويسارا باحثة عن المصدر، أحست بيد توضع على فمها.
- أنا أيضا سمعت هذا...
لقد كان هذا كارل، أفلت قبضته على فمها لتنظر إليه قاطبة حاجبيها.
- لا تفعل هذا مجددا وإلا قتلتك، حسنا؟
- بربك، أنت لم تقتلي فأرا حتى...
- لذلك لا تكن تجربتي الأولى...
انطلق صوت رصاصة أخرى، إنها أقرب هذه المرة.
- أظن أننا على الطريق الصحيح...
--------------------
( ٠٥/٠٧/٢٠٢٠ )
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top